الحصار الخانق وويلاته التي عاشها أهل الغوطة الشرقية منذ خمس سنوات، لم تفلح في كسر عزيمة أهلها الذين راهنوا على البقاء والانتصار، وأوجعوا الأسد وقواته في قلب العاصمة دمشق، حتى باتت جوبر وحرستا ودوما وغيرها من المناطق أساطير من الصمود، وحيكت فيهم القصص والحكايات، وكابوساً على قوات النظام يقض مضجعهم.
لمحة عامة
باكراً استيقظت الغوطة الشرقية على وقع الثورة السورية لتشارك في كافة مفاصلها من خلال مظاهرات عمت المدن والبلدات، كان لها الدور الأكبر في تشكيل فصائل عسكرية من أهالي الغوطة أنفسهم على شكل كتائب أو سرايا، كـ “سرية الإسلام أيلول 2011 ـ ولواء البراء آب 2012” شكلت النواة الحقيقة فيما بعد لتشكيل جيش الإسلام وفيلق الرحمن أكبر فصائل الغوطة العسكرية، والمسيطران على معظم مساحتها بالإضافة إلى “هيئة تحرير الشام وأحرار الشام وجيش الفسطاط”.
” خمسة أشهر كانت كفيلة بتحرير معظم الغوطة الشرقية ” أيام وصفها حسام دركزلي (مقاتل في الغوطة الشرقية منذ سبع سنوات) بـ “العظيمة”، إذ كان “همّ الفصائل جميعها الوقوف في وجه نظام الأسد وتحرير المنطقة”، وبرغم الخلافات التي كانت تنشأ بين هذه الفصائل إلّا أنها كانت متفقة فيما بينها أن تحرير دمشق من قوات الأسد هو الهدف الأهم والدافع الأكبر لوجودها.
شهد عام 2013 بداية تشكل جيش الإسلام في مدينة دوما وما حولها، والذي يضم أكثر من عشرة آلاف مقاتل، وفيلق الرحمن في القطاع الأوسط الذي يضم مدناً عدة أبرزها حموريه وعربين وأجزاء من جوبر ويضم في صفوفه ما يقارب تسعة آلاف مقاتل.
يقول دركزلي “إن الفصائل بدأت بالتراجع منذ عام 2013، وبات الاقتتال والاحتراب فيما بينها سمة عامة، وبدأ الأسد بقضم الكثير من مناطقها تدريجياً”، لتبدأ مرحلة الحصار الخانق على الغوطة بقطاعاتها الثلاثة، قبل إطلاق حرب الإبادة الأخيرة التي انتهت بتهجير معظم أهلها قسرياً، إما إلى مراكز إيواء داخل دمشق أو إلى مناطق المعارضة في الشمال السوري (إدلب وريف حلب الشرقي) ضمن اتفاقيات منفردة جرت بين الفصائل وروسيا منذ آذار 2018.
فصائل وتجار
أثارت أعمال الفصائل واقتتالها فيما بينها وتضييقها على الحاضنة الشعبية في الغوطة حفيظة وغضب الأهالي الذين حمّلوا قادة الفصائل المسؤولية الكبرى في زيادة ويلات الحصار عليهم، فـ “جميع الفصائل لم تسمع مناشدات الأهالي” على حد قول أبو هيثم ليلى من حموريه، إذ بات على العائلة المكونة من خمسة أفراد تأمين ما لا يقلّ عن”15000 ليرة” للبقاء ليوم واحد على قيد الحياة، وتأمين “كاسة شاي” لأطفالك بات حلماً هناك، مع انعدام الكهرباء والوقود والغذاء وفرص العمل والتعليم، في الوقت الذي “كانت فئة من قادة الفصائل وأعوانهم وتجار المدينة يعيشون في رغد وبحبوحة”.
ويروي أبو هيثم قصة “المنفوش” وهو صلة الوصل بين قادة الفصائل والنظام، يبرم الصفقات التي تتضمن كل ما تريد من المواد الغذائية والتموينية والوقود، ويمررها عبر الأنفاق بمساعدة الفصائل الموجودة (التي كانت شريكته في مص دم أهل الغوطة)، وكان على أهل الغوطة أن يدفعوا الثمن بعد أن فرضوا مبلغ “2000ليرة” على كل كيلو غرام من هذه المواد كزيادة في السعر، ولم يكن هناك خيار لنا سوى أن ندفع، فآخر صفقة تمت قبل التهجير بفترة قصيرة قام المنفوش بإدخال 500 طن من المواد الغذائية، أي ما يعادل “مليار ليرة سورية”، كان علينا نحن أهل الغوطة أن ندفعها لنبقى على قيد الحياة.
استنفد الحصار كل مدخرات الأهالي، لجأوا إلى بيع بيوتهم وأراضيهم وبقايا المصاغ الذهبي الذي كان لنسائهم، “لم يرحمنا أحد، فقادة الفصائل تحولوا إلى تجار، والتجار استطاعوا شراء الفصائل” يقول حسام دركزلي، الذي رأى أن تلك المعادلة أفرغت الثورة من محتواها، “كيف يمكن للمقاتل أن يرابط على الجبهات وعائلته في العراء بلا طعام” يكمل دركزلي، فإيجار البيوت مرتفعة وخاصة بعد أن فُرض على كثير من العائلات ترك قراهم في الخطوط الأولى والتوجه نحو مناطق أكثر أمناً.
ومع اقتتال الفصائل فيما بينها وفي كثير من الأحيان قطّعت أوصال هذه المناطق، فهناك من لم يرى أهله لأعوام فقط لأنهم يعيشون في منطقة تقع تحت حكم فصيل آخر.
في أقبية الغوطة الشرقية
بـ “عمق يزيد عن عشرة أمتار وعرض لا يتجاوز 70سم”، كان آلاف من الناس يعيشون حياتهم هناك، حين غدا الضوء نعمة مفقودة، والهواء ضالة الجميع. “لم نرَ سطح الأرض لأيام، وكل طعامنا كان رغيفي خبز مصنوع من الشعير”، هي ليست زنزانات تحت الأرض بناها نظام جائر، فلا بد إذن من ثقوب للضوء فيها، حيث يمارس المعتقل حقه في النوم بعد حفلات التعذيب، والطعام المرمي بقصعة مليئة بالتراب والحشرات، وهي ليست أيضاً جزء من رواية أو مشهداً من فيلم سينمائي تمارس فيه الكاميرا ذلك الإيهام البصري بالكثير من أدوات التجميل والتقنيات الحديثة، هي تلك الحقيقة القابعة في أنفاق حموريه في الغوطة الشرقية ، التي تشابهت (وإن اختلفت بسنتيمترات قليلة) غيرها من المناطق المجاورة الثائرة.
“إن أردت أن تمشي في تلك الأنفاق، فعليك أن تدوس على مئات الأيدي والأرجل لتصل إلى نهايته”، يقول أبو هيثم ليلى من حمورية “لم يكن هناك كهرباء، ضوء القداحة الصغير هو دليلنا في المكان الذي لا نعرف له نهاية”.
على سطح الأرض كانت قوات الأسد وحلفاؤها تحرق كل شيء، استخدمت منذ بداية الحملة الأخيرة كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً (النابالم –الفوسفور الأبيض –الغازات السامة) أما البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والراجمات فكانت رفاهية تستخدم على مدار الوقت.
خمسة عشر يوماً أمضتها أم محمد (أم لأربعة أطفال يتامى) في نفق في حموريه، كل ما كان يشغل تفكيرها أن لا يموت أطفالها اختناقاً من الغازات السامة، تمنت لو أن صاروخاً يصيبهم جميعاً (إن كان لا بد من الموت)، الموت جوعاً كان الهاجس الآخر لأم محمد وهو ما دفع الكثير من العائلات وأم محمد للمجازفة بالخروج من النفق، والتوجه إلى بيوتهم علّهم يحظون ببعض الطعام يحضرونه لأطفالهم، تحتال الأمهات لتأمين قوت يوم، عليها أولاً أن تطحن الشعير (إن وجد)، ثم تبدأ رحلة البحث عن بقايا الملابس القديمة والاسفنج وبعض الحطب لإيقاد نار لخبز الشعير، “بعض النساء كسرن غرف نومهن وجلوسهن، أخريات استعنّ بملابس أبنائهن وبقايا الأغطية، والأدوات البلاستيكية” تقول أم محمد.
المغامرة الكبرى كانت في أن ترى طائرات الاستطلاع الدخان المتصاعد من أحد المنازل، لتبدأ الطائرات باستهدافه، “كانت صناعة الخبز إنجازاً، وكان على النساء أن يصنعن الحياة بأرواحهن”.
لم تحفر تلك الأنفاق على عجل، بل كانت حصيلة تعب وجهد كبيرين، يقول أبو منذر من النشابية في الغوطة الشرقية ، فبعض المؤسسات والداعمين قاموا بتجهيز الأقبية بنسبة 40%، بينما تكفل السكان بإكمال ما تبقى من عمليات حفر وتجهيز، كان على السكان وصل تلك الأنفاق ببعضها بحيث يصبح لكل نفق أكثر من مخرج، فالطائرات التي كانت تستهدف الأنفاق والمباني المحيطة كانت تردم الكثير من أبواب هذه الأنفاق، وإن لم تكن هناك مخارج أخرى فسيموت الناس تحت الردم.
تجمع في هذه الأقبية أكثر من 1000 شخص أحياناً في كل قبو، ومع بدء الحملة الأخيرة لقوات الأسد، ونزوح بعض أهالي الغوطة الشرقية إلى مناطق داخلية أخرى، كانت الأعداد تتزايد في هذه الأقبية حتى ضاقت بساكنيها، زاد على ذلك انعدام كل فرص الحياة، الطعام والماء والكهرباء والأدوية والتواصل مع العالم الخارجي من خلال وسائل الاتصال، كل ذلك فقد في الأيام الأخيرة، وكان البقاء على قيد الحياة مسألة وقت ليس إلّا.
كان على أم محمد أن تحسم أمرها بالخروج من حموريه مع تقدم نظام الأسد، وما أشيع حول بدء دخوله إلى البلدة، حملت أطفالها، خرجت من النفق ليلاً تحاول الوصول إلى عين ترما، القذائف كانت تسقط حولها من كل جانب، الطريق الذي ضاعت معالمه لكثرة الأبنية المدمرة أرغمها على الوقوف مرات كثيرة، لم يسعفها عتم الليل لإكمال طريقها، مشت أحياناً وركضت أحياناً، صرخت في الليل دون مجيب، سقطت وتعثرت بالركام المنتشر في الطريق، و”حين وصلت وجدت نفسها وأطفالها حفاة بلا أحذية”.
في سقبا كان الأمر أكثر إيلاماً، يقول حسام دركزلي (أحد مقاتلي الغوطة من المروج) “بات علينا أن ندفع إيجار الأقبية والأنفاق، ونحن نرابط على الجبهات”.
على سطح الأرض
كانت المنطقة كـ “الجحيم”، يصف أبو محمد الأيام الأخيرة في الغوطة الشرقية قبل التهجير القسري الأخير، بداية تم تقسيم الغوطة إلى ثلاثة قطاعات (حرستا –القطاع الأوسط –دوما) وبدأت قوات الأسد بمهاجمة القطاعات كل على حدة، القصف كان هائلاً، وتوقف جميع الأهالي عن عدّ الغارات فقد فاقت القدرة على التحمل، براميل وحاويات وصواريخ فيل وأخرى فراغية وراجمات وقنابل فوسفورية وغازات سامة، كانت تحيل ليل الغوطة إلى نهار، ونهارها إلى ليل.
لم تعد تلك البقعة من الأرض صالحة للحياة، يقول الأهالي، زاد على ذلك انقطاع الأنترنيت، فلم يعد هناك وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، بتنا في زنزانة مغلقة، كل ما نسمعه كان صدى لخوفنا من الاعتقال أو دخول شبيحة الأسد إلى المنطقة.
أنباء متضاربة عن سقوط قرية أو حي تجعل الجميع متأهباً للهرب نحو مناطق أخرى، تليها تطمينات من ثوار وناشطين في المنطقة، ثم ما تلبث أن تسقط عليك من السماء وريقات من قوات الأسد، تطالب الجميع بالاستسلام والعودة إلى حضن الوطن مع تطمينات بعدم المساس بالمدنيين، وإعطائهم فرصة ستة أشهر لتسوية أوضاعهم.
بعض الأهالي قرروا الدخول إلى مناطق الأسد، لم يكن الخيار سهلاً، ولكنه ربما كان أقل الضررين، فإما الاعتقال والموت وإما الاستسلام، ربما يكون في الاستسلام بعض حياة للأطفال والنساء، كل الأحاديث التي كانت تدور في الأقبية حول الخلاص من هذا الجحيم بأي طريقة كانت حتى لو كانت الاستسلام للجلاد.
يكسر قلبك ويحد قرارك “صوت طفلك الباكي جوعاً وخوفاً”، ثم ما تلبث أصوات القصف أن تعيدك إلى الواقع فتنسى ما كنت تفكر فيه، وينحصر فكرك في الطريقة التي ستموت فيها “تضم الأم أطفالها، تحاول أن تعيدهم إلى قلبها كاملين، تتحسس المناطق المكشوفة في أجسادهم، تحاول تغطيتهم، تبدو يديها كثوب ممزق، ثم تنهار بالبكاء”.
يروي حسام دركزلي “كنا في منطقة يموت فيها الإنسان فتحتاج لأكثر من 3 ساعات لتسحبه من الطريق، لا لتدفنه، فقط لتضعه في مكان بعيد عن قارعة الطريق”،
“الدفن صار رفاهية، مئات من الجثث بقيت تحت ركام المنازل، يموت من بجانبك فلا تلتفت، ربما أردت أن تودعه، ولكن قلبك لا يسعفك، والقذائف تشل يدك للتلويح”، لم يعد هناك سوى حب “السيتامول” لاستخدامه كمسكن ألم، أما الشاش فقد كان “وجوه مخدات نقطعها لنلف بها جراحنا”.
المشايخ والعلماء وقادة الفصائل الذين كانوا يزرعون الأمل في قلوبنا غابوا عن المشهد، بعضهم استسلم لقوات الأسد، بعضهم انتشرت أنباء عن خيانته، كان لهذه الأخبار أثرها في تثبيط هممنا، أكثر من 400 عنصراً عادوا إلى “حضن الوطن”، المجالس المحلية في القطاع الأوسط حموريه شعب كفربطنا جسرين عين ترما زملكا مسرابا بيت سوى لم يقفوا معنا نحن المقاتلين، كلهم أرادوا لنا الخروج من مناطقهم لتحقيق اتفاق مع قوات الأسد، عندما كان أحدنا يحاول الاعتراض كان المجلس برفقة عدد من العناصر يسكتك أو يطردك ويهددك بتسليمك للأسد.
أبو منذر رئيس المجمع التربوي في الغوطة قال “حوصرنا في زملكا وعربين وعين ترما، انقسم الأهالي بين من يريد الخروج إلى مناطق بعيدة عن حكم الأسد وبين من يريد البقاء لمصالحته، كانوا خونة”.
“قامت الفصائل بسحب السلاح الثقيل من حموريه” تروي أم محمد، ولم يبق إلا بعض الأهالي للدفاع عن المدينة، ومع كل هذا القصف كان لا بد من النزوح وتسليم حموريه بعد أن “سووها بالأرض من كتر القصف”، لتتجه مع عائلتها إلى عين ترما، لتنهي حديثها “الغوطة انباعت ما سقطت”.
“رضينا بالجوع والحصار والقصف وكل شيء ولم نكن لنسقط، ولكن ظلم الفصائل وخيانة بعضها هو من أسقط الغوطة” يحكي أبو هيثم الرجل الستيني وهو يلف سيجارته مسنداً رأسه على حائط مركز الإيواء في مدينة الباب، ينفث الدخان بعيداً “25 شب من لواء أبو موسى وقفوا الجيش بحموريه” يطرق برأسه “بس شو الواحد لازم يحكي”.
ليلة الكيماوي في الغوطة الشرقية
شهادات لناجين من القصف
يروي أبو رشيد من دوما
لم تكن المرة الأولى التي يستخدم فيها نظام الأسد الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية وغيرها من المناطق السورية، ولكنها ترافقت هذه المرة مع هجمات شرسة وتطمينات للأهالي بمنشورات كتب عليها (رح نرجع نعمر البلد ونمسح الدمعة –من رمى الفتنة أصبح خارج البلاد)، هذه التطمينات بالإضافة إلى إشاعات عن وقف إطلاق النار للتفاوض في دوما، جعل المساجد للمرة الأولى في يوم الجمعة 6/4/2018 منذ زمن، تقيم صلاة الجمعة في وقت واحد وفي موعدها المحدد، سابقاً كانت المساجد تصلي الجمعة في مواقيت مختلفة وغالباً ما كانت تقام في الصباح الباكر.
ترافق ذلك مع خروج بعض الأهالي إلى مراكز الإيواء في دمشق، بعض الذين كان لهم أقرباء في دمشق، اتصلوا بهم، كان الحديث عن البقاء والعودة إلى دوما بعد المصالحة يشغل بال الكثيرين من أهلها، بعضهم كان متخوفاً، آخرون صدقوا ربما (فحين تكون الخيارات معدومة تزين الحلول الموجودة وتلبس ثوب القناعة).
بعد الانتهاء من صلاة الجمعة (قبل يوم واحد على ضربة الكيماوي)، اشتعلت المنطقة من جديد، راجمات وصواريخ وقذائف، كلها سقطت على حينا (حي المساكن حارة أبو بكر الصديق جانب جامع النعمان) في وقت واحد.
لجأ الجميع إلى ما تبقى من مداخل الأبنية، أو إلى الأقبية القريبة منه، صار الوصول إلى منزلي على بعد 300 متر أمراً مستحيلاً، وحين هدأ القصف اتجهت نحو منزلي لأمضي الليلة مع عائلتي في أحد الأنفاق.
في اليوم التالي 7/4/2018 وقبيل صلاة المغرب، وبعد قصف بالحاويات حوّل المباني المحيطة بالنفق إلى ركام، سمعنا صوت صاروخ لكنا لم نسمع صوت انفجاره، الأصوات التي أتت من بعض من خرج النفق كانت تصرخ (كيماوي)، كان علينا الخروج من النفق فالبقاء فيه يعني الموت حتماً، إن دخلت الغازات إلى الداخل.
جميع من في النفق حاول الخروج في وقت واحد، تزاحمت الأرجل والأكتاف، بعضهم يبحث عن أطفاله، وآخرون يتدافعون علّهم يصلون إلى باب النفق، عجائز تسقط وآباء وأمهات يجرون أطفالهم.
عند باب النفق كانت الرائحة كريهة جداً، والهواء يشوبه لون أصفر، ركضنا لا نعرف جهتنا، في الطريق كانت الناس تسقط، فجأة يسقط طفل من يدك، تحاول جرّه، لا تسعفك يدك، لتتركه وتكمل مسيرتك.
ثلاثين شخصاً أو أكثر مررنا فوقهم، وحين ابتعدنا قليلاً كان الدفاع المدني يحاول أن ينقذ المصابين، الماء وبخاخ الربو هو كل عتادهم، عائلات بأكملها قتلت، لا يعلق بذاكرتي سوى كلام أبو سليم لابنه، حين وصل إلى المشفى من مكان رباطه على الجبهة، سأل طفله الوحيد الناجي (15عاماً) “كان جبت معك شي وحدة من أخواتك، الصغيرة ما بتعذبك”
ليجيبه طفله “والله يا بي ما قدرت، ما شفتون وكنت دايخ من الريحة” ليجهشا معاً في لحظة عناق وبكاء.
أبو محمود الصيداوي (أحد الناجين من الكيماوي أب لأربعة أطفال)
في الحارة الثانية بعد جامع النعمان وفي منتصف الشارع كان يسكن أبو محمود وعائلته، في قبو المبنى وقبل المغرب وصلت رائحة تشبه الكلور إلى داخل القبو، حملت أطفالي وحملت زوجتي طفلي الصغير وخرجنا من القبو، “كانت الدنيا سودا” من أثر القصف الذي سبق الصواريخ الكيماوية، صعدت إلى الطابق الثالث، كان شبه مهدم بلا جدران ولا نوافذ، كنت أعرف أن علينا أن نرتفع عن الأرض فغاز الكلور أثقل من الهواء.
رائحة الكلور العفنة كانت تصل إلى أنوفنا ونحن نصعد درج المبنى، وحين وصلنا وضعنا قماشاً مبلولاً بالماء على فمنا لنتنفس من خلالها، وأشعلت ناراً من أشياء موجودة في المكان، لا أعرف لماذا فعلت ولكني كنت بحاجة لأعمل أي شيء أنقذ به أطفالي ربما بلا جدوى ولكنه كان الخيار المتاح أمامي.
الجلوس في طابق المبنى الأخير يعرضك للقصف، ويجعل موتك أكثر سلاسة، كأن تموت دفعة واحدة، دون أن تختنق هكذا فكرت وأنا أجلس بقرب أطفالي.
صاروخ آخر سقط في المكان، لون الغاز كان أخضراً وأنا أشاهده من مكاني، مات جميع من استنشق الغاز، رأيتهم يتشنجون ويخرج الزبد من أفواههم، كان اختناقاً وصراعاً على نفس واحد، قبو كامل أيضاً بمن فيه مات، علمت ذلك بعد أن نزلت في صباح اليوم التالي.
كان السعال يرافقنا خلال ليلتنا كاملة، وبدأ الجلد بالانتفاخ، وحرقة بالعين واحمرار ودموع، طفلتي تحول بياض عينها إلى اللون الأسود وما زال كذلك حتى الآن.
صباح اليوم التالي نزلنا إلى المشفى الذي لا يبعد عنا سوى كيلو متر واحد، قاموا برش الماء علينا وإعطائنا الحقن، وجلسات الرزاز، ما زالت حلوقنا جافة حتى الآن، ونوبات من السعال المتكرر ترافقنا.
بشار شيخ بزامة (مسعف من الغوطة الشرقية -20 عاماً)
سقطت الصواريخ بين الأول الذي يحتوي على مادة الكلور والثاني الذي لم نعرف ما يحتويه من غازات قرابة ثلث ساعة، لم يكن غاز الكلور، فلونه الأخضر وطريقة موت الناس وتشنجهم وخروج الزبد من أفواههم كان يوحي بمادة أخرى، اعتدنا على الكلور، فدوما نالت حظها منه في مرات كثيرة، لم تتجاوز أعراضه حالات ضيق في النفس، وكانت كمامة من قماش وماء تفي بالغرض، هذه المرة كان الغاز مختلفاً، أكثر من 150 شخصاً قضوا خلال دقائق، آخرون قضوا في الطريق ونحن نسعفهم، أما أكثرهم حظاً كان أولئك البعيدين عن الرائحة، فمعظم من استنشقها قتل.
في الحافلات
بدأ التهجير القسري لأهالي الغوطة الشرقية في منتصف آذار 2018، باتفاقيات مصالحة جرت بين قادة الفصائل وروسيا، كان الخيار الأصعب الذي عاشه الأهالي بين البقاء في ظل قوات الأسد التي حاصرتهم وقتلت أبنائهم، وبين أن يقتلع الإنسان من جذوره، من مكانه الذي عاش وقاتل من أجله.
“كان التنظيم عشوائياً ومهيناً” يقول أبو هيثم، ولكني بفكرة خروجي من الغوطة لم أعد أهتم لشيء، كل ما كنت أريده أن أخرج بـ “ديني وعرضي” من هناك.
عند وصول الحافلات كانت المقولة السائدة “اللهم أسألك نفسي”، كل يحاول أن يصل إلى الحافلة قبل الآخر، الفصائل قامت أيضاً هذه المرة باحتكار الحافلات الأولى بقوة السلاح، آلاف الطلقات في الهواء لتفريق المدنيين، كان نظام الأسد يرسل حافلات قليلة، ربما أراد أن يمعن في إذلالنا وإهانتنا، يروي حسام دركزلي.
هناك من أصيب بالطلقات النارية وهو يحاول الصعود في الحافلة، هذه المرة كانت إصابته من الفصائل ولم تكن من قوات الأسد، “هذا ما يحز في النفس”، أيام كأيام الحشر، مع فارق بسيط، هو انعدام الرحمة، فالقوي يأكل الضعيف، والعسكري يأخذ مكان المدني.
على حاجز التفتيش الأول للمخابرات الجوية في مخيم الوافدين، كان الانتظار يدوم لساعات في بعض الأحيان، ضباط بكلام معسول كانوا يحاولون أن ينزلونا من الحافلات والعودة إلى “حضن الوطن”، تكلموا عن المصير المجهول لذي ينتظرنا، تكلموا عن الخيانة التركية وكيف أنا سنوصم بالخيانة إن نحن خرجنا، وسنساعد المحتلين على جيشنا، يضحك دركزلي، جيشنا الذي قتلنا بكل أنواع الأسلحة وهجرنا من بيوتنا وحاصرنا وجوعنا.
قاموا بتهديدنا، فإدلب لن تكون بمعزل عن القصف، و”الدور جايي على إدلب”، هكذا قالوا لنا، أجابهم أحد الركاب “ناطرينكون”.
على الطريق كانت مجموعات من الشبيحة والموالين على جنبات الطريق، تطلق علينا السباب وأقذع الشتائم، يشيرون لنا بإشارات بذيئة، يرمون الحافلات بالأحذية والحجارة، كانوا يعبرون عن أنفسهم بطريقتهم التي يعرفونها.
اتفق الجميع في الحافلة وتعاهدنا على الموت إن مس أحد الجنود أو الحواجز “شعرة من رأس أحد”، سلاحنا الفردي كان جاهزاً و “الطلقة ببيت النار”، لم نكن متيقنين من الوصول إلى وجهتنا التي لا نعرفها أصلاً، قالوا لنا أنا سنذهب إلى مدينة الباب أو إدلب، 99% من الفكرة التي كانت تدور في عقولنا كانت “أن نموت هنا، وأن الاشتباك مع الحواجز والشبيحة لن يطول”، كنا “أمواتاً فوق الأرض”.