فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

الصورة للفنانة السورية ديما نشاوي -أنترنيت

الناجيات من الاعتقال أسيرات من جديد

أبو محمد وجدَ حلّاً مغايراً، فالمعتقلة هذه المرة ابنته وليست زوجته، والعصمة لا تعطيه الحق بطلاقها، اخترع لنفسه قصة وصدقّها، قال إن ابنته خرجت وزوجها لشخص غريب من منطقة بعيدة، بعد أن غاب هو فترة عن القرية لحَبكِ أكذوبته، في الوقت الذي طُردت فيه “مريم” لحظة دخولها على والدتها ناجية من الاعتقال، قالت لها “مريم ماتت.. ما عندي بنت اسمها مريم”، أما هدى فباتت تتجنب المشي في شوارع قريتها، البعيدات منها ينظرن لها نظرة اشمئزاز، أما القريبات فكان سؤالهم الذي لا يفارق لسانهن “اغتصبوكي”.

 

 

 

لم يستقبل جاسم (من ريف إدلب) زوجته سارة الناجية من سجون الأسد بعد عامين قضاهما بالتفكير واستحضار مشهد خروجها من السجن الذي يكاد يصيبه بالجنون، وقضتهما على أمل العودة إلى زوجها وأطفالها، ما دفعها للاستقواء بذاكرتها على جلاديها وتحمل الذل والتعذيب والإهانة، لم يستقبلها بالورد والأحضان كما كانت تظن، كلّ ما أفرج عنه وجهٌ بأسارير غاضبة يعلوها نبرة من الحنق وكلمة اختصر بها تلك المشهدية، “أنت طالق” قالها وأدار ظهره ليرتاح من “شكوك” ملأت عقله وقلبه.

أخيراً استسلم الرّجل وألقى ثقل ما كان يدور في ذهنه، وما كان يقرؤه في أعين من حوله في كل مرة كان يُسأل فيها عن ساره، وما حدث لها، والذي كان نفسه شريكاً به، فسارة كانت قد اعتقلت على خلفية عمله في واحد من فصائل المعارضة، إلّا أن هذا لم يشفع لها، ولم يبرر غيابها القسري، كلّ ما خيّم عليه في تلك اللحظة “كلام الناس” و “نظرة المجتمع” التي ستلاحقه حتى إلى غرفة نومه، التي سيملؤها بالأسئلة عن سنوات اعتقالها.

أبو محمد وجدَ حلّاً مغايراً، فالمعتقلة هذه المرة ابنته وليست زوجته، والعصمة لا تعطيه الحق بطلاقها، اخترع لنفسه قصة وصدقّها، قال إن ابنته خرجت وزوجها لشخص غريب من منطقة بعيدة، بعد أن غاب هو فترة عن القرية لحَبكِ أكذوبته، في الوقت الذي طُردت فيه “مريم” لحظة دخولها على والدتها ناجية من الاعتقال، قالت لها “مريم ماتت.. ما عندي بنت اسمها مريم”، أما هدى فباتت تتجنب المشي في شوارع قريتها، البعيدات منها ينظرن لها نظرة اشمئزاز، أما القريبات فكان سؤالهم الذي لا يفارق لسانهن “اغتصبوكي”.

أكيد أن هذه الحالات لا تمثل نظرة عامة للمجتمع، ولا يمكن اعتبارها “حظّ المعتقلات” جميعاً، إلّا أنها ومع الأسف حالات متكررة نشاهدها في كل قرية وبلدة، بعد أن اتخّذ الأسد من اعتقال النساء، لما يعرفه من حساسية هذا الموضوع في مجتمعاتنا الريفية السورية، ورقة ضغط على الرجال، ووسيلة إذلال وتهديم لأسرهم، إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتقال النظام السوري لأكثر من 8 آلاف سيدة بينهن 300 طفلة دون سن الثامنة عشر، واختفاء ما يزيد عن 2000 امرأة، إضافة لآلاف النساء اللواتي أخرجهن من معتقلاته.

يقول عبد الناصر حوشان “الناشط الحقوقي” إن المجتمع مازال “يقتات على ثقافة العار في كل ما يمسّ المرأة، حتى وإن كانت ضحية، وهو ما يعيق إلى حدّ كبير إعادة تأهيل المعتقلات اللواتي كُتب لهن الحرية، ودمجهن في المجتمع”.

ويرى الحوشان “أن بعض الناجيات من الاعتقال فقدن سندهنّ في الحياة، من عائلات أو أزواج، إضافة إلى مصدر رزقهن وأعمالهن، وأخريات نبذن في المجتمع الذي يعشن فيه، ما اضطرهن للمغادرة إلى أماكن أخرى، وحدهن أو برفقة عائلاتهن أحياناً، أو اللجوء إلى بلدان مجاورة وإخفاء ما تعرضن له والبوح به، كيلا يفقدن التعاطف، ما زاد في عزلتهن وكرس الآثار النفسية والجسدية التي عشنها خلال فترة الاعتقال”.

ومع بعض المحاولات الخجولة التي قامت بها منظمات المجتمع المدني لتمكين المرأة ودمجها مع المجتمع والمشاركة بالنشاطات التربوية أو الفنية أو المهنية، عبر برامج تأهيلية وتدريبة، منها منظمة نقطة بداية، ومنظمة ياسمين الحرية، كذلك منظمة Arc، وغيرها من المنظمات المحلية والإقليمية.

وبعض الوسائل الإعلامية للإضاءة على قضية الناجيات من الاعتقال، والتي سعت إلى تناولهن كمادة صحفية توثق جرائم الأسد وظلم المجتمع لهنّ، إلّا أن الأمر لم يتعدّى كونهن مادة خاماً لصناعة فيلم أو كتابة مقالة، دون الوقوف على احتياجاتهن الأساسية ومناصرة قضيتهن، والتخفيف من حدّة النظرة الاجتماعية القاصرة لهنّ، باعتبار الناجيات ضحايا لا مجرمات، وما حدث لهن جريمة لا فعلاً منافياً للحشمة قمن به، واعتبارهن مصدر فخر لا وصمة عار.

تقول حنين السيد (ناشطة صحفية) إنها “قامت بإنجاز عدد من المواد تخص الناجيات من الاعتقال، بالصوت والصورة، معتبرة أن ما قامت به ساهم إلى حدّ ما، في تغيير النظرة المجتمعية الخاطئة بحقهن، وأسهمت في تفهم الناس لهن وتقبل وضعهن”.

حوشان طالبَ الجميع “وسائل الإعلام والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني” بتسليط الضوء على مشاكل الناجيات، واعتبر ذلك “واجباً” تفرضه الأخلاق والتعاليم الدينية لإنصافهم، والعمل على تمكينهم لتجاوز المحنة التي مررن بها.

وبالرغم من هذه المحاولات ما زالت حماة فاتن “الناجية من الاعتقال والتي كانت حاملاً عند اعتقالها” تصر على ولدها أن يقوم بإجراء تحليل DNA لطفلته للتأكد من نسبها، فيما حرمت سارة من احتضان طفلتها وضمها إلى صدرها، بينما تعاني ربا وحيدة مرض “الصرع” نتيجة التعذيب، دون من يساندها بعد أن تُركت لقدرها، أما أماني فقد عادت إلى مناطق النظام هرباً من مجتمعها، وعبرت قائلة “طلعنا من الدلف لتحت المزراب” بالرغم من خوفها من الاعتقال ثانية.

تجاوزت بعض الناجيات النقد المجتمعي والأثر النفسي الذي خلفه الاعتقال، واستطعن تحويل معاناتهن إلى دافع للنجاح والحياة، من خلال انخراطهن في العمل وإكمال الدراسة والتعلم، تقول ميسون اللباد (واحدة من الناجيات من الاعتقال) إنها اليوم جزء من اتحاد المعتقلين الذي من شأنه العمل من أجل المعتقلين وتوثيق جرائم الأسد والعمل على إحالتها للمحكمة الدولية، وأكملت “المهم أن لا نسكت”.