فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

منتجات أم علي من خبز التنور بقرية ترملا في ريف إدلب الجنوبي

“خبز التنور” تراث حيّ وسبيل للعيش

تلوّح أم علي برغيف العجين بين يديها ليتسع حجمه، تدهن بعض الأرغفة بمنقوع الفليفلة الحمراء المطحونة مع الزيت والسمسم وبعض أوراق النعناع والبصل المفروم وبعض حبات العطون، وتترك بعضها لتبيعه كخبز عادي، ثم تلصقه بجدران التنور الفخاري بواسطة ما يدعى بـ “الطارة” وهي عبارة عن قطعة قماش مدورة دائرية الشكل محشوة بالإسفنج أو ببعض الأقمشة تستخدمها النساء لتضع الرغيف داخل فوهة التنور تجنباً للاحتراق، نصف دقيقة يحتاج الرغيف للنضج، تستخرجه أم علي لتبريده ثم وضعه في أكياس يتسع كل منها لعشرة أرغفة. تقول أم علي إنها تخبز ما يزيد عن 200 رغيف يومياً وإنها تحصل على ربح يومي يقارب 2000 ليرة.

اللحظة التي بدت فيها ملامح أبو علي، المعتقل في سجون الأسد منذ ما يزيد عن خمس سنوات، بالظهور لزوجته التي كانت تراقب الطريق الرئيسي الذي يصل قريتها التي نزحت إليها “ترملا” في ريف إدلب الجنوبي بقلعة المضيق والتي تضم معبراً للواصلين من مناطق الأسد، كانت الأقسى في حياتها. تحسست طبق القش الذي تحمله على رأسها والتي كانت تستخدمه لبيع خبز التنور، مهنتها التي رافقتها خلال غياب زوجها لإعالة أطفالها. شعرت بتراكم التعب الذي تجاهلته خلال كل تلك السنوات، وأحست بأن ثقلاً نزل من على أكتافها المرهقة، حدّقت جيداً في ملامح زوجها الغائبة، وأرادات أن لا يكون حلماً ما تشعر به.

جسدها النحيل ويداها اللتان تشققتا وهي تُوقد للتنور بأغصان شجر الزيتون والتين “الشحالة” كما يطلق عليها أهالي القرية، وبقايا أعين زرقاء غارت في تجاويف أحداقها لترتسم هالة سوداء أسفلهما من الأرق وقلة النوم، حظ أم علي (47 عاماً) من حياة الغياب التي عاشتها برفقة أطفالها الستة، وهي تنتظر قدوم أي خبر عن زوجها، أحلام يقظة كثيرة كانت تراودها عن نفسها في كل يوم بعودة أبو علي، وإيمان كبير دفعها بصلابة لأن تقف، بعد أن كسرها الفقر والنزوح.

قبل شروق كل شمس من الأيام التي عاشتها أم علي وحيدة، كانت تبدأ رحلته بعجن الطحين والخميرة بقليل من الملح والماء الفاتر، تتركها لتختمر، لتوقد التنور بـ “الشحالة” وبقايا “روث الحيوانات” والكثير من الدموع.

لم تكن “الخَبزة” طقساً كسالف عهدها، حين كانت تجتمع النساء والرجال والأطفال على “التنور” في قريتها التي نزحت منها بريف حماه، يتبادلون الضحكات وكؤوس الشاي على الحطب ويتناولون فطورهم من خبز التنور المدهون بـ “الفليفلة الحمراء” وبعض حبات “العطون” والزيت، في استحضار لذاكرة ورثتها نساء القرى في الأرياف السوري عن أمهاتهن وجدّاتهن، وبات حجم الرغيف ولونه مصدر تفاخر بين النساء، ومديح من قبل الرجال.

“الخَبزة” اليوم هي مصدر رزق لأم علي وأطفالها، يأخذون منها ما يسد رمقهم، ويبيعون ما تبقى لشراء بعض الاحتياجات الأساسية، هي مشروع أم علي الصغير الذي امتهنته بعد عجزها عن شراء دواء لطفلها المريض، “كان لا بدّ من حلّ في الغربة، وأنا لا أجيد سوى هذه المهنة التي خطرت في بالي وقتها، وباتت مصدر حياة ورزق لأطفالي” تقول بعد أن أفرجت عن دمعة انتظرت سقوطها بحرية منذ أن اعتقل زوجها.

في ورشة تدريبية حول “سبل العيش” تعلمت أم علي كيفية إدارة مشروعها، والبحث عن وسيلة متاحة لتأمين فرصة عمل تعود عليها بربح يعينها على الاستمرار، كانت واحدة من رفيقاتها قد تعلمت صناعة “التنور” من مادة طينية يطلق عليها “الحال” وهي مزيج من الطين بخيوط القنب، تصنع على شكل جرّة فخارية بفوهة يقارب قطرها على المتر وتتسع لأربعة أرغفة، اشترتها أم علي وبدأت صباح ليوم التالي بما خططت له.

التنور الفخاري الذي تعمل عليه أم علي
التنور الفخاري الذي تعمل عليه أم علي

تلوّح أم علي برغيف العجين بين يديها ليتسع حجمه، تدهن بعض الأرغفة بمنقوع الفليفلة الحمراء المطحونة مع الزيت والسمسم وبعض أوراق النعناع والبصل المفروم وبعض حبات العطون، وتترك بعضها لتبيعه كخبز عادي، ثم تلصقه بجدران التنور الفخاري بواسطة ما يدعى بـ “الطارة” وهي عبارة عن قطعة قماش مدورة دائرية الشكل محشوة بالإسفنج أو ببعض الأقمشة تستخدمها النساء لتضع الرغيف داخل فوهة التنور تجنباً للاحتراق، نصف دقيقة يحتاج الرغيف للنضج، تستخرجه أم علي لتبريده ثم وضعه في أكياس يتسع كل منها لعشرة أرغفة. تقول أم علي إنها تخبز ما يزيد عن 200 رغيف يومياً وإنها تحصل على ربح يومي يقارب 2000 ليرة.

تبيع أم علي الخبز لأهالي القرية، بينما يقوم طفلها (13 عاماً) والذي ترك المدرسة بمساعدة والدته وتحمل أعباء المنزل، يحمل أكياس الخبز ليبيعها بالقرب من المدرسة، تقول أم علي إنها دائماً ما كانت ترى الدموع في عينيه والرغبة في إكمال دراسته، ولكن “ما في باليد حيلة”، كان على أحد أن يساعدها وكان حظ علي أنه ولدها البكر. فيما يتابع باقي أخوته دراستهم، يحاول علي بيع جميع أكياس الخبز والعودة بثمنها لوالدته لشاء الاحتياجات الأساسية لمشروعها وبيتها.

يفضل الناس خبز التنور على خبز الأفران العادي، لمذاقه الأفضل وارتباطه بذاكرتهم، وهو ما ساعد أم علي على الاستمرار ونجاح مشروعها، وعلى الرغم من الصعوبات والتعب إلّا أن “حرارة التنور أهون من الذل والحاجة” تقول أم علي.

يمدح أبو علي زوجته التي حافظت على أطفالها وأعالتهم خلال فترة غيابه، ويشعر بالفخر لما قدمته، يحكي لنا أن رائحة خبز التنور كثيراً ما زارته في المعتقلات والسجون التي مرّ بها، مرّت في باله زوجته وأطفاله والاجتماعات حول التنور والخبز المحمر وأهالي القرية، إلّا أن رائحة الخبز المعفن ومذاقه والذي كان يقدم لهم خلال فترة الاعتقال كانت تزيد من مأساتهم، فلا يمكن هناك للمقارنة، وعليك أن تأكل كي تعيش لا أن تستلذ بالطعام ورائحته.

انتهت مهنة أم علي بخروج زوجها من المعتقل وعودته لأسرته وأطفاله، صبرها وتحملها أعباء المنزل والحرّ المنبعث من التنور كان يزيدها أملا بعودة زوجها وإطعامه من أرغفة الخبز التي تصنعها.