بصعوبة، يحاول محمد إيصال كأس من الشاي يحمله بيده المرتجفتين إلى الأرض، وجهه المتعب بهالات سوداء حول العين، وجسده النحيل، كلها علامات تركها عقار “الترامادول” عليه، بعد أن تحوّل إلى “مدمن” على هذا الدواء، إثر استعماله الطويل له بعد أن فقد ساقه في واحدة من الغارات الجوية على قريته.
كانت الحاجة إلى “مسكن ألم قوي” يريح محمد (30 عاماً) من ألمه، ما دفع الطبيب لوصف “الترامادول” له، والترامادول عقار شبه أفيوني يوصف لعلاج الآلام الشديدة والمتوسطة ويستخدم كمسكن للآلام الناتجة عن العمليات الجراحية، إلّا أن طول مدة العلاج، وتفاقم الحالة المرضية، وما منحه هذا العقار لمحمد من شعور بـ “التحسن على المستوى الجسدي وحتى النفسي”، على حد قوله، إضافة إلى إحساس بـ “الخدر والانتشاء والسعادة” رافقت استخدامه، دفعت الشاب إلى زيادة الجرعة دون استشارة طبيبه، ليقع في “فخ الإدمان” ، يروي محمد “أنه يتناول ما يعادل 10 حبات من الترامادول يومياً، ليصل إلى الشعور ذاته الذي كان يصل إليه بتناوله حبتان سابقاً”.
يصنف الترامادول من الأدوية “المخدّرة” بحسب الصحة العالمية، و “يؤدي دوام تناوله إلى الإدمان “. ومع غياب الرقابة الدوائية وكثرة الأدوية المهربة في الأسواق نظراً لظروف الحرب، ورخص ثمنه، ازداد عدد مدمني الترامادول، خاصة بين جيل الشباب، ولاتوجد إحصائيات دقيقة عن عدد متعاطي هذا العقار في الشمال السوري إلّا أن الأعداد “كبيرة” بحسب المرشد النفسي محمد الشعبان، الأمر الذي أكده الصيدلي سعيد الابراهيم، والذي يتعرض يومياً للسؤال عن “عقار الترامادول لأكثر من 15 مرة” على حد قوله، ويصنف الصيدلي أكثر الفئات العمرية المتعاطيه بـ “16-25” سنة، كما بات يلاحظ انتشار تعاطي الترامادول بين “النساء”. وبحسب تقرير الأمم المتحدة الصادر عام 2015 فإن 3.5%- 5.7% ممن تتراوح أعمارهم بين (15-64 سنة) في العالم يستخدمون مخدرات غير مشروعة، وأن ما بين 10% و15% منهم يصابون بالاعتماد أو بنمط من الاستخدام الضار، وعن الأرقام في الدول العربية سجلت مصر النسبة الأعلى إذ أن 10% من سكان مصر مدمنون بحسب “صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي” منهم 28.71% مدمناً على أقراص الترامادول بحسب تقرير أعددته bbc،
ولم يورد التقرير أرقاماً تخص سوريا بسبب ظروف الحرب، إلّا أن الشعبان يرى أن النسبة تماثل الأعداد في مصر إن لم تتفوق عليها، وسجل الترامادول نسبة تعاطي تفوق مثيلاته من الأدوية الأخرى كـ “بنزوهكسول وألبروزولام وديازبام…”، وزاد بنسب متفاوته، بحسب الدول، عن تعاطي الحشيش والهيرويين، وذلك لسهولة الحصول عليه ورخص ثمنه (ثمن 10 حبات من الترامادول يقدر بـ 1% من سعر “عجينة الحشيش 20 غرام”، وأقل من 0.1 من سعر غرام الهيرويين في سوريا).
الترامادول ضيافة وفي دكاكين السمانة والحلاقين
يقول محمد الاسماعيل “23 سنة يتعاطى عقار الترامادول منذ 6 سنوات” بأن الحصول على الترامادول عملية سهلة في الشمال المحرر، وتباع من قبل أشخاص متعاطين، وبعض الصيادلة، وفي دكاكين السمانة وعند بعض محلات الحلاقة، وبات تعاطي الترامادول نوعاً من أنواع “الضيافة” بين الشباب، ويشار إليها بـ “الأزرق وتعني الترامادول السوري من عيار 50 ملغ” أو “الأحمر الهندي من عيار 225”.
وعن سبب تعاطيه يقول الاسماعيل “حاولت مراراً التخلص منه، ولكن دون جدوى، أشعر بأن رأسي فارغاً إن لم أتناوله، كما أشعر بالوهن وعدم القدرة على المشي”.
أما أم سمير (توفي زوجها بغارة جوية) فتحصل على الترامادول من جارتها التي أعطتها هذه الحبوب بعد وفاة زوجها لـ “تخفيف ألم الرأس” على حد قولها، وبعد فترة من الزمن بات هذا العقار أساسياً في بيتها و “أهم من الأكل والشرب” على حد قولها.
تدفع أم سمير 1000 ليرة سورية =2.2 دولار ثمن 10 حبات من الترامادول الأزرق، فهي لم تتعاطى (الأحمر) على حد قولها لما سببه من “آلام في معدتها” حين جربته لمرة واحدة، بينما “تعتاش جارتها على مهنة بيع الترامادول التي تأتي به من زوجها المتعاطي” على حد قول أم سمير.
إجراءات للحد من تعاطي الترامادول
يقول الصيدلاني معتصم الموسى ” الترامادول السوري (50-100 ملغ) يوزع من خلال شركات الأدوية إلى المستودعات فالصيدليات، وهنالك الترامادول عيار 225ملغ الذي يأتي بطرق غير شرعية وعن طريق التهريب” ولا تتجاوز سعر علبة الترامادول السوري 20 حبة 400 ليرة سورية =أقل من دولار واحد”.
بمقارنة بسيطة نرى أن سعر الترامادول الرخيص يجعله بـ “متناول الجميع” يقول الشعبان، وهو ما زاد من نسبة التعاطي، يضاف إلى ذلك غياب القوانين الرادعة وانعدام مراكز معالجة الإدمان ونشرات التوعية وجشع التجار وبعض الصيادلة.
الدكتور محمد حاج حمود رئيس الرقابة الصيدلانية في مديرية إدلب قال إن إجراءات اتخذت لخفض نسبة الإدمان وذلك من خلال “مراقبة الصيدليات وفرض التراخيص، وإغلاق الصيدليات المخالفة التي يديرها غير الحاصلين على شهادة الصيدلة” ويرى الحمود “إن وجود صيدلي مختص في الصيدليات يضمن بنسبة كبيرة الالتزام بالقوانين الناظمة للمهنة والتقيد بالصرف الصحيح للأدوية النفسية والمخدرة بموجب وصفة طبية”.
وعن القوانين الرادعة لبيع الأدوية المخدرة قال الحمود “تصل العقوبة إلى إحالة الصيدلي إلى النيابة العامة والقضاء المختص ويسحب منه الترخيص للعمل بشهادته في حال تكرار صرفه للأدوية المخدرة ثلاث مرات، في حين يتم استدعاؤه إلى النقابة وتوجيه إنذار خطي له في المرتين الأوليتين”.
ويعتبر رئيس الرقابة الصيدلانية تلك العقوبة “رادعة” وأسهمت في الحد من بيع هذه العقارات في المنطقة، إلّا أنه لا بدّ من تضافر الجهود للحيلولة دون تفاقمها وذلك من خلال “ضبط الحدود” لمنع تهريب الأدوية التي، غالباً، ما تباع في أماكن من الصعب الوصول إليها أو محاسبة أصحابها، يرى محمد الشعبان أن الحل يكون بالاتفاق بين الشرطة الحرة والقضاء ومديرية الصحة والمدارس والمنظمات الإنسانية وحتى أئمة المساجد، ولكن الأهم بوجهة نظره “توفير مراكز معالجة إدمان مختصة” وهو ما يغيب في الشمال السوري بشكل كامل. في انتظار افتتاح مشفى متخصص في مدينة سلقين، والذي سيخصص، بحسب الحمود، واحداً من أقسامه لعلاج الإدمان.
يموت 9 من بين كل 1000 شخص يومياً، لإدمانه على نوع من المخدرات، بحسب تقرير الصحة العالمية، إلّا أن محمد الاسماعيل لا يأبه بهذه الأرقام “أشعر بالنشوة والنسيان، وهو كل ما أرجوه ولا آبه للموت” يقول، في حين يلقي محمد اللوم على العالم الذي نسيه “بعد أن بترت قدمه”، وبات يهرب من مشاكله وآلامه “إلى عالم من صنع حبة ترامادول”.