فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

الجميلات النائمات : انحطاط الجسد وفلسفة الموت

الجميلات النائمات : انحطاط الجسد وفلسفة الموت

 

علي الأعرج .

 

 

قراءة

 

غابرييل غارسيا مركيز، قال ذات يوم في مقدمته عن رواية الجميلات النائمات بانها العمل الوحيد الذي تمنى لو أنه كان كاتبه، وبرغم أهمية هذا التصريح من أديب كمركيز، إلا أن ذلك – وبعيداً عن مقولته – لن يُنقص شيئاً من روعة وعبقرية ذلك العمل.

منذ البداية يضعنا كاواباتا أمام تحذير هو أشبه ما يكون بسلوك خاص :

  • أرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضعك أصابعك في فم الصغيرة النائمة، هذا غير لائق.

تقول مديرة المكان ذلك، تحذير وكأن تلك الممارسات قد حصلت قبلاً. أهي وصايا مقدّسة لذلك البيت الصغير ؟ .. ربما.

ذلك العالم الغريب والذي سوف يطالعنا عليه كاواباتا بعبقريته الفريدة ليناقش أكثر تفصيلات الحياة الفلسفية عمقاً.

إذاً نحن في البداية أمام شخصيتين رئيسيتين، إيغوشي، العجوز الذي أصبح في نهاية الستينات، والمضيفة أو العاملة أو مديرة المكان أو القوادة أو الأم، لا أحد يعلم. إنها شخصية غامضة، هادئة، إشكالية ببنائها النفسي والعقلي، غير واضحة المعالم.

نحن إذاً أمام شخص غريب سرعان ما سيتحول ضمن العمل إلى ثانوي، لكنه شخص يثير لديك دائماً حالة من الازعاج كلما حضر.

عالم غريب .. بيت صغير يحتوي مضيفة، وفتيات صغيرات نائمات تحت تأثير مخدر بكامل العري، وعجائز ينامون بجانب الفتيات، أُنهكوا من الحياة ومن تجارب الوجود، يمتلئون بالذكريات العتيقة لحياة طويلة، ولا يستطيعون سوى تأمّل كل الجمال الجسدي.

هذا كل ما هو موجود بين درفتي كتاب .. ولا وجود لسؤال واحد في هذا العمل، إنها مجموعة من الأسئلة الصغيرة والمتشابكة .. أهي شهوة الجنس، أم محاولة شعور العجائز بضرورة وجودهم في الحياة ؟ .. ربما. هو أحد الأسئلة التي تراود الذهن البشري في قراءة ذلك العمل.

 

غلاف رواية الجميلات النائمات

إيغوشي

يدخل بطل العمل إيغوشي بدافع الفضول والتجربة إلى ذلك المكان الصغير المنعزل عن كل ملهيات الحياة، يفكّر ما الذي يريده من هذا المكان ؟ ولما أتى حقاً إلى هنا ؟. هذه هي اللحظة الأولى التي يبدأ فيها إيغوشي العجوز بتقديم رؤيته عن الحياة والجمال والحب والجنس من خلال تذكره المستديم لعلاقاته القديمة.

إيغوشي عجوز في أواخر الستينات، يشعر بالتعب ويفكر بالموت، لجأ إلى هذا المكان بتحريض من صديق له، لا شيء يفعله في الحياة، يدخل إلى حجرات مختلفة على مدار خمسة أيام متتابعة، ينام بجانب فتيات صغيرات عاريات نائمات، يتأمّل كل تفاصيل الأجساد الشهوانية، تراوده أحياناً رغبات الجنس، لكن الافكار التي تجابه ذهنه تجعله أكثر تساؤلاً حول الصغيرات. في كل مرة وتجربة جديدة داخل ذلك المكان، هناك تفاصيل استطاع كاواباتا بعبقرية فريدة أن يقدّم دلالات مكانية هائلة، هناك نوع من الارستقراطية المفرطة لذلك العمل الذي يُدار في المنزل، إذاً أليس عملاً جليلاً ؟ .. لكن لماذا يشعر القارئ بالنفور من تفصيلات المكان وارستقراطيته ؟، ربما كان الحس بابتذال ذلك المكان رغم كل هدوئه، هناك شيء من رعب خفي بسيط.

يحاول إيغوشي فهم عنصر مهم، لماذا الفتيات عاريات؟ وما هي المتعة التي يمكن لهنّ أن يجلبنها لعجائز فقدوا متعة الحب والجنس ؟. والسؤال الأهم، عندما تستيقظ إحداهن هل ستدرك انها كانت مستلقية بجانب رجل متهدّل في جسده وروحه ؟.

هذا السؤال الذي سيطر على تفكير إيغوشي، لكنه لن يهتم كثيراً، فهو ينام دون أي أحلام يمكن له أن يراها.

السؤال المحير .. كاواباتا ماذا يريد ؟.

إيغوشي زبون مثل كل العجائز الذين يأتون كزبائن، لكن هناك إيغوشي واحد فقط يفكّر ويطرح تساؤلاته المثلى. يحاول دائماً أن يقارن بين جسده المتهدل العجوز وبين البشرات الناعمة للفتيات النائمات، إنه يشعر بانحطاط جسده، ولكي يتخلص من تلك الفكرة، يعود دائماً إلى ذكرياته ومغامراته القديمة مع النساء اللواتي عرفهنّ. لكن ألا يحق لنا أن نصف إيغوشي برجل الهاجس ؟.

إن شعور العجوز بعد تلك التجارب تظهر بشكل واضح رغبته العارمة بالموت في لحظة جمال، إيغوشي أساسا ومنذ شبابه مسكون بالموت. في مشهد تذكّره لصديقته .. ألم يدعوها للانتحار معه ذات يوم ؟.

إيغوشي منذ زمن مسكون باليأس العارم وبرؤيا الموت، هناك رابط خفي بين الرؤيا الخاصة للجسد وبين الموت لدى إيغوشي. بطبيعة الحال البشرية فإن الموت مرعب بالنسبة لأي عجوز.

صديق إيغوشي فوكورا، الم يمت وهو بحالة من الحب المُتخيّل في ذلك المنزل ؟، ألم يكن احساس إيغوشي هو القرف من طريقة إيجاد فوكورا في مكان جانب المنزل وكانه جثة كلب مرمي دون معرفة ما حصل؟، ألم يشعر إيغوشي باحتقار الذات لأنه يعلم كيف مات فوكورا ولا يستطيع قول شيء ؟.

لكن إيغوشي يستمر .. يسأل، ايمكن له أن يموت أيضاً بجانب جسد إحدى الفتيات النائمات ومن ثم يُوجد بمكان سيء مثل فوكورا ؟

لكن ذلك سيشكل متعة لإيغوشي، إذاً إنه يرغب بموت مثل ذلك، إنه حلم عجوز فقد كل شيء تقريباً في الحياة.

فلسفة إيغوشي عن الموت ليست مرتبطة لأنه عجوز، إنها اعمق من ذلك، إنها طبيعته التساؤلية (الشكيّة) إذا أُجيز القول عن كل تفاصيل الحياة والجمال، إنه فيلسوف صغير لا يعرف كيف يُدوّن أفكاره العميقة إلا بالخيال.

 

مديرة المنزل

إنها سيدة هادئة قوية وذكيّة مثلما أراد كاواباتا تصويرها، في الأربعينيات من عمرها، لكن الغموض يلف كل تفاصيلها، إنها حريصة على فتياتها من شهوات الانحراف التي يُصاب بها العجائز، أو هذا الإيحاء الذي توصله للقارئ، ومع ذلك إنها تبحث عن راحة الزبائن المنكسرين في الحياة، إنها اشبه بملاك يخاف على الجميع ويبحث عن راحة الجميع، لكن ما الذي يدعوها ان تتعامل مع موت صغيرتها وفوكورا بمثل ذلك الهدوء ؟. أهي مجرمة ؟.

بالتأكيد إنها ليست كذلك، لكن عملها الاحترافي بكامل دقته يجعلها أكثر صلابة من أي إنسان يمتلئ بهواجس مخيفة كالموت لكنه ليس على احتكاك مباشر معه. إنها سيدة بطبيعة عمل قد تشاهد موتاً كثيراً فهي الأقدر على أن تتحول إلى ذلك النوع من البشر الصلبين والمزعجين. سيدة مزعجة بكامل وجودها وكامل حضورها.

سيدة وكأن عملها يقتصر على تلاوة الوصايا الخاصة بذلك المنزل.

  • لا تحاول تنبيه الصغيرة من نومها، فإنها لن تفتح عينيها ابداً مهما فعلت. إنها تنام منذ البداية حتى النهاية، إنها لا تعلم شيئاً مما يحصل.

إذا نحن أمام معضلة وجودية. بالنسبة لمديرة المنزل فإنها تتعامل مع الزبائن من منطق البحث عن وجود العجائز لذوتهم، وهي مخادعة، فإن الفتيات لا يعلمن شيئاً، أهي تخدعهنّ ؟. ربما.

مديرة المنزل تتعامل مع فتيات شبيهات بالموت، إذاً فهي معتادة على عدم وجود حركة في عالمها، إنها أقرب إلى الصمت المطبق، لا وجود لحركة سوى للعجائز القلائل، لكنهم أيضاً أشبه بحلزونات متحركة لا يؤثرون في لواقع شيئاً.

سؤال كاواباتا .. هل أراد ان يقدّم الموت بشخص مديرة المنزل ؟.

ذلك المفهوم الغامض اللاانساني، إنها لا تهتم لشيء، تتعامل مع الجميع بصيغة الهدوء المستشري، باردة لأقصى الحدود ونظراتها لا تحمل المعاني التي يحملها أي كائن بشري طبيعي.

إن مضمون العلاقة منذ البداية بين ايغوشي ومديرة النزل، واضح للعيان، والنهاية معروفة تماماً بالنسبة لأجساد العجائز والفتيات. إنها دوامة كبيرة من الحياة والموت والتساؤلات التفصيلية.

 

فوكورا

ذلك العجوز الذي أراد حياة جديدة بعد كل الاحباط او الروتين الذي عاشه، لكن فوكورا مات لأنه لم يحتمل شهوات الجمال بعد ستين عام من حياة فعل بها ما يريد، وربما مات بالنسبة لكاواباتا لأنه لم يسأل ماذا تعملن فتيات صغيرات في هذا المكان سوى ان يشعر قليل من المشوهين في الحياة بمتعة ما قبل الموت.

 

إن تلك الشخصيات بكل ما فيها من حوارات داخلية تحوّل العالم وتقدمه رغم كل جمال الكلمات التي تصفه، إلى ياس وجودي اتجاه الحياة. إن الجميلات النائمات ليس أكثر من رؤية للحياة من زاوية مختلفة.

ويبقى السؤال الاهم في ذلك العمل …

من هو الإنسان في الحياة وما هو موقفه إزاء الحب والجمال والذكريات في لحظة موته ؟. أليس الجنس هو أكثر شيء مؤلم بالنسبة للعجائز ؟.

إننا حقاً أمام عمل يستحق كل الاهتمام في قراءته ويبقى الشيء الأهم، كل الاجساد إلى زوال والخلود للروح والعقل.

إنها رؤيا ايغوشي قبل الموت.