فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

وأنت يا حفّار القبور .. من سيحفر قبرك ؟!

وأنت يا حفّار القبور .. من سيحفر قبرك ؟!

مصطفى حسين .

 

حفار القبور / تصوير : خليل عشاوي

 

يسندُ فأسَه على كتفه متجولاً في المكان الذي يحفظه قبراً قبراً، يجسّ الترابَ فيعرف أيّ القبور هي الأقدم ليعيد نبشَها ثانيةً بفأسه، ويضعَ جثةً أخرى فوق الجثة التي استحالت إلى رفات عظام، إنه في مدينة تُهدي لمنْ تسكنهم الكثير من الموت دون أن تفكّر في تأمين قبور لأجسادهم.

قبل أن يصبح يوسف واحداً من حفاري القبور؛ كان يعمل في الحدادة، يفصّل أبواباً ونوافذَ وأقفاصاً، يلحم ويقطع، لكنْ منذ مطلع عام الـ 2013 توقف الناس عن حب الحديد المزخرف أو الملوى، لم تعدِ المهنةُ التي يتقنها تساعده في مصروف أسرته، التي لم تستطع النزوح مثلما فعل بعض الميسورين، بقي في القسم الشرقي من مدينة حلب حيث بيته ومكان عمله، فكر في كل الحديد الذي طيّعه وشكّله، فقطْ مفارقةٌ بسيطةٌ ربّما جعلتْه يعيد النظرَ في كل شيء: إنّ الحديد الذي كان بالأمس يلين على يديه.. هو ذاته الحديد الذي يحصد الأرواح ويضعه في كل لحظة على قائمة الموتى" .

ربما كان قراره صائباً وعبثياً في آن عندما همس لزوجته بحزم فقير لا يملك حلاً آخرَ"هون رح نكمل الحياة"، وكان يكفيه هذيانها ليشعر أنه أقوى "حياة الموت قصدك ؟!"،  صمتَ طويلاً، تابعتْ هي: "ألا ترى هذه الشوارع التي تغصّ بغيّابها، بعضهم غيّبتهم المدن البعيدة، وبعضهم غيّبهم الموت، أما الذين يحاربون والذين يوارون الجثث هم فقط مَنْ لديهم عملٌ يشغلهم".

هنا لمعت الفكرة في رأسه، لقد وجد عملاً له. بالتأكيد عمله الجديد ليس القتال وحمل قطعة حديد -لن تلين بين يديه – يسمونها "البندقية "، هو لا يجرؤ على النظر إليها فكيف بحملها؟! إنما سيعمل في لم أثرها، سيصيرَ حفّارَ قبور لمدينة تقدّم الموت على طبق من رماد، "سينجو من الموت عندما يلاقيه دوماً" قال في نفسه.  

عندما وقف أمام زوجته وأخبرها بنيته الجديدة، وقفت بحزم أيضاَ أمامه معترضةً واتّهمته بالجنون، لم تكد تمضي ثلاثة أشهر منذ تلك المواجهة بينهما، حتى توقّفت عن نعته بالجنون وأرادته أن ينسى أنها قالت ذلك، فقد أصبح "حفار قبور" وتغيّرتْ حياتهما تماماً، أصبح لهما دخلٌ ماليّ يفيض عن حاجاتهم، ودخلت بيتهم أساسيات الحياة التي تعدّ ترفاً في الحرب.
تقول "خلال ما يقارب العامَيْن عشنا كما لم نعشْ من قبل وكنّا بخير، حتى إصابتي وابنتي نتيجة سقوط برميل متفجر وتشظي الزجاج في المنزل كانت حدثا عادياً".
استمرّ يوسف بعمله في الحفر والجس، شاهد مئات الجنازات، دفن أناساً يعرفهم وآخرين لم يسمع بهم من قبل، عاش كما كل حفار قبور، على هامش يفصل بين الحياة والموت وسمع عشرات من قصص الحلبيين التي لم تُروَ أبداً.

في الخامس من شباط في العام الماضي، كان يوسف يوسّع قبراً لجثة أطول من العادة، يحتاج الميت لمساحة تكفل له المزيد من الراحة، بعد أن انتهى من التوسعة، عدّل وقفته واستوى، نظر حوله، ثم إلى القبر، سريعاً، سقط في القبر الذي حفره، جاءت شظية واخترقت رأسه وبات على الأرض ميتان، واحد حفر له يوسف القبر، وثانٍ لن يجد من يحفر له قبراً .