يتنقل الشاب محمد، 25 عاماً، بين مكاتب السيارات في المنطقة الحرة بمدينة سرمدا شمالي إدلب بحثاً عن سيارة ركّاب نوع “فان” لتكون مصدر دخل يعيل به عائلته. وبالرغم من توفر طلبه إلا أن المبلغ الذي بحوزته لم يعد كافياً بسبب ارتفاع أسعار السيارات مؤخراً.
قبل نحو شهر قرر محمد مع والده بيع أدوات زراعية كانت العائلة تستعملها قبل تهجيرها من قرية معرتحرمة جنوبي إدلب عام 2019. يقول: “كنا نقتني جراراً زراعياً وصهريج ماء وأدوات حراثة، فكرنا أننا ربما لن نستطيع العودة لأرضنا التي تسيطر عليها قوات النظام السوري، لذلك فالحل الأفضل هو بيعها وشراء سيارة أعمل عليها مع إحدى المنظمات الإنسانية، أو في الطلبيات والنقل، لكن بيع المعدات تزامن مع بدء عملية ردع العدوان التي ارتفعت خلالها أسعار السيارات كثيراً”.
لم يحالف الحظ محمد هذه المرة، فبعد أن خسر الجرار ومعدات الزراعة التي باعها بالسعر القديم صار بإمكانه وغيره من المهجرين العودة لقراهم وأراضيهم، كما أن المركبة التي كان يرغب بشرائها ارتفع ثمنها إلى الضعف. يخبرنا أن فارق السعر لا يقل عن خمسة آلاف دولار أمريكي، إذ وصل إلى 11 ألف دولار.
أسعار السيارات الأوروبية ارتفعت بشكل مفاجئ في المنطقة الحرة شمالي إدلب، وهي سوق تستورد السيارات الأوروبية عبر المعابر الحدودية من مدينة مرسين التركية. جاء هذا الارتفاع بالتزامن مع بدء تحرير مناطق واسعة ثم سقوط نظام الأسد في المعركة الأخيرة في 27 تشرين الثاني من هذا العام، ومع ذلك لاقى سوق السيارات إقبالاً كبيراً من معظم المحافظات السورية وتوسعت حلقة الانتشار لتتخطى حدود إدلب.
زيادة الطلب من مختلف المحافظات السورية كان سبباً بارتفاع السعر بحسب من التقيناهم. سبق هذا الارتفاع فترة استقرار على الأسعار المنخفضة نسبياً نتيجة توافر السيارات بكثرة في مكاتب السيارات شمال غربي سوريا، وبأسعار مقبولة، على عكس ما يجري اليوم.
عوامل أخرى أسهمت في ارتفاع الأسعار اليوم، فبالإضافة إلى توافد سكان المحافظات التي سيطرت عليها قوات عملية ردع العدوان حديثاً مثل حلب وحماة وحمص ودمشق إلى سوق السيارات الأوروبية في المنطقة الحرة، لعب فرق السعر بين سيارات الشمال السوري وهذه المحافظات دوراً بهذا الارتفاع.
فراس العثمان تاجر سيارات من مدينة حماة، توجه نحو مدينة سرمدا شمالاً بعد أيام قليلة من تحرير مدينته لشراء سيارات أوروبية. يقول: “عند فتح الطريق نحو منطقة إدلب أصبحت وجهة تجار السيارات إلى السوق الحرة، حيث يمكننا الحصول على بضاعة بنصف القيمة تقريباً مقارنة مع السوق في حماة وحلب والساحل وغيرها”.
ويتابع فراس: “الناس في مناطق النظام كانت تحلم تركب سيارات الجيب، فسعر سيارة الجيب كان يتراوح بين 500- 600 مليون ليرة سورية، أي ما يزيد عن 33 ألف دولار، واليوم بإمكاننا الحصول على سيارة أوروبية بربع القيمة تقريباً، أي بما يعادل 150 مليون ليرة سورية، (حوالي عشرة آلاف دولار) ما دفعنا للاتجاه شمالا وشحن بضائع من المنطقة الحرة بإدلب”.
يصف العثمان الارتفاع الحاصل على أسعار السيارات الأوروبية بالطبيعي، فأي نوع من البضائع يكثر الطلب عليه يرتفع سعره، ولكن رغم هذا الارتفاع ما يزال سوق السيارات الأوروبية أرخص من سوق السيارات النظامية والذي توقفت فيه الحركة بشكل كامل بعد سقوط النظام.
يختلف تصنيف السيارات في سوريا وتندرج تحت مسميات مختلفة، مثل النظامية، اللفة، الأوربية والقصّة. والنظامية هي التي تسجل في مناطق سيطرة النظام السوري سابقاً ولها أوراق خاصة وتفرض عليها رسوم وضرائب مختلفة كانت تفوق سعر السيارة نفسها. أما الأوروبية فكانت تتوفر في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام السابق وتستورد من عدة دول عن طريق تركيا ولها أوراق منشأ، وهي أحدث من معظم السيارات النظامية، منها الكورية والألمانية.
أما سيارة اللفة فهي ذاتها النظامية لكن دون أوراق منشأ أو ملكية لأسباب مختلفة، منها ما تترتب عليها أقساط بنكية أو تحتاج لإجراءات حصر الإرث، أو أحياناً تكون مسروقة من مناطق سيطرة أخرى. أما سيارة القصة فهي تجميع لقطع تشمل الهيكل الخارجي يتم وصلها ولحامها في مراكز خاصة في إدلب بحيث لا يختلف مظهرها وأداؤها عن السيارات الأوروبية.
اشترى العثمان سيارات من السوق الحرة بسرمدا مثل الـ “سنتافيه” والـ “موهافي” وغيرها من سيارات الجيب مرفقة بأوراق منشأ، يتم تسجيلها باسم مشتريها وشحنها مباشرة إلى حماة والمدن الأخرى. يقول العثمان إن بعض هذه الأنواع ارتفع سعرها في السوق الحرة من 3500 دولار إلى 10 أو 12 ألف دولار للسيارة الواحدة، مشيراً إلى أن أنواع السيارات الأوروبية المستوردة تعمل على المازوت بينما تعمل معظم السيارات النظامية على البنزين.
يرجع العثمان ارتفاع أسعار السيارات النظامية إلى فرض الرسوم الجمركية والضرائب عليها. بينما تغير الحال اليوم بشكل مفاجئ، وانخفض ثمن معظم السيارات النظامية إلى النصف، فالسيارة التي كان سعرها مائتي مليون ليرة سورية صار سعرها مائة مليون ليرة سورية وتجمد سوقها تماماً.
تختلف توقعات من التقيناهم من تجار السيارات حول بقاء الأسعار على حالها أو انخفاضها، فبعضهم يتوقع أن تكون هناك دفعات جديدة من السيارات في طريقها للدخول من المعابر والبحر ومن المحتمل أن تنخفض الأسعار حال وصولها، بينما يرجح البعض الآخر أن يكون الانخفاض على المدى البعيد مع بقاء السوق بهذا الشكل وانخفاضه بشكل طفيف لحين سد الطلب في جميع أنحاء البلاد.
يقول حسن الأحمد تاجر سيارات في الشمال السوري “إن السيارات التي تدخل من معبر باب الهوى حالياً هي طلبيات وتواصي قديمة للمستوردين، فكل طلبية تحتاج فترة أربعين يوماً لتصل إلى المنطقة الحرة في سرمدا”. وفي ظل الوضع الراهن يرى الأحمد أن الشخص الوحيد الرابح هو التاجر الذي يملك بضاعة قديمة، إذ ارتفعت الأسعار بنسبة 150 بالمائة في أول أسبوع بعد التحرير، لتنخفض في الأسبوع الثاني إلى حوالي مائة بالمئة أو أقل قليلاً وتستقر عند هذا الحد وذلك بسبب مواصلة الطلب من الأهالي والتجار من حلب وحماة ودمشق وغيرها.
يضرب الأحمد مثالاً على سيارة توسان موديل عام 2005، والتي كان سعرها بحدود 3500 دولار ثم ارتفع مباشرة إلى ما يزيد عن سبعة آلاف دولار، ثم عاد للانخفاض ليتوقف عند حد خمسة آلاف دولار، ويمكن القياس على ذلك بالنسبة لبقية الأصناف حسب تعبيره.
ويرجع الأحمد سبب توافد السكان من المحافظات السورية إلى حاجتهم لنوعيات حديثة وبتكلفة أقل فمعظم أنواع السيارات المتوفرة هناك هي من نوع السابا والتاسيا والبيجو والبريجو، أما السيارات الحديثة فلم تكن تصل إلا لذوي الطبقة المخملية لأن أسعارها تكون خيالية بسبب الضرائب والرسوم، حسب تعبيره. فعندما كان سعر سيارة CM في منطقة إدلب خمسة آلاف دولار كان سعرها في مناطقهم 15 ألف دولار.
ينتظر معظم السوريين استقرار سوق السيارات بعد التقلبات الأخيرة، ويأمل آخرون ضبط السوق واستيراد كميات كافية تسدّ حاجة المنطقة وبأسعار مناسبة كالتي كانت عليه السوق الحرة قبل التحرير.