آلاف العائلات في قريتي تركمان بارح والحردانة ومخيمي الرحمة والإغاثة، التابعين لناحية أخترين بريف حلب الشمالي، يبحثون عن حلّ لمشكلة وصول المياه إلى منازلهم، بعد إعلان المجلس المحلي في تركمان بارح لعجزه عن تأمين تكاليف تشغيل مضختي المياه اللتين تعملان وفق برنامج التقنين، إذ تصل المياه لمدة ساعة أسبوعياً عبر أنابيب الشبكة ولا تغطي المنازل كافة، إثر توقف دعم المنظمات وخلل نظام الجباية.
وتعتمد القريتان والمخيمان على مصدرين للمياه، في كل بئر منهما محطة طاقة شمسية وخزان هوائي، نفّذت إحداهما بوساطة المجلس المحلي بالتعاون مع منظمة التنمية المحلية في كانون الأول 2022، أما الثانية فنفذّتها منظمة (أكتد) في تشرين الأول من العام ذاته، وتضمنت كل واحدة منهما مضخة مياه ومحطة طاقة شمسية.
مشكلة توفر المياه بدأت بعد نحو سبعة أشهر من إنشاء المحطتين، إثر توقّف منظمة “سوليدرتي” عن تغطية التكلفة التشغيلية لهما من (فواتير كهرباء، رواتب موظفين، كلور الماء، صيانة الشبكات) في الأول من حزيران 2023.
توقف الدعم، آنذاك، دفع المجلس المحلي إلى تقليل ساعات تشغيل المياه إلى ساعة واحدة أسبوعياً، لم تكن تلبي احتياجات الأهالي من المياه ما يضطرهم لشرائها عبر الصهاريج من الآبار الخاصة، لكنها كانت تفِ بجزء من هذه الاحتياجات، قدّرها الأهالي بنحو 400 لتر أسبوعياً.
خلال عام ونصف العام، وجه المجلس المحلي في تركمان بارح، على حدّ قول رئيسه، نداءات عديدة إلى المجلس المحلي في مدينة أخترين التي يتبع لها إدارياً بهدف توجيه منظمات داعمة لإيجاد حل لمشكلة المياه وتغطية التكلفة ومتابعة صيانة خطوط الشبكة، لكن دون جدوى.
عدم استجابة المنظمات دفع المجلس المحلي لـ “تفعيل نظام الجباية الشهرية من الأهالي، بهدف تغطية تكاليف تشغيل محطة المياه وضخها إلى الخزان الهوائي، ومنه إلى المنازل عبر أنابيب شبكة البلدية”، بحسب أيوب أيوب، رئيس المجلس المحلي في تركمان بارح.
حدد المجلس المحلي البدل الشهري للحصول على المياه بقيمة 100 ليرة تركية صيفاً، و150 ليرة تركية شتاءً على كل منزل، رغم ارتفاع نسبة التجاوزات التي طالت شبكة المياه وتعدد خطوط المياه في المنزل الواحد، يضيف أيوب الذي اعتبر “أن كثرة التجاوزات قلّلت من استفادة سكان البلدة من المياه”.
برر أيوب، تفاوت تكلفة الاشتراك الشهرية بين الصيف والشتاء، بأن نسبة الاستفادة من الطاقة الشمسية معدومة شتاءً، مما يضاعف التكلفة التشغيلية الشهرية إلى 65 ألف ليرة تركية، بينما تنخفض خلال فصل الصيف إلى النصف بسبب دمجها مع الطاقة الشمسية.
تفاقمت مشكلة المياه خلال الأشهر الأخيرة، بحسب رئيس المجلس المحلي، الذي قال إن “الجباية لم تغطّ التكلفة التشغيلية الشهرية ما أوقع المجلس بعجز مالي لصالح شركة الكهرباء التي قطعت الطاقة عن المضختين لمدة شهرين متتالين، مرجعاً العجز للتكلفة الكبيرة بسبب اعتماد المحطتين بنسبة 100% على الكهرباء لتشغيلهما في الشتاء، وبنسبة 45% في الصيف.
قلّة ساعات تشغيل المياه أو انقطاعها تسبب بتخلف مستفيدين عن السدّاد وعزوف آخرين عن دفع الاشتراك الشهري نهائياً، بحجة عدم وصول المياه إلى منازلهم، وأنها في حال وصلت بخطة التقنين المتبعة، سيكون ثمنها أعلى من ثمن شراء المياه من الآبار الخاصة.
تستهلك عائلة مصطفى عبد الرحمن (52 عاماً) أحد سكان الحي الشمالي في تركمان بارح (مكونة من 12 شخصاً) نحو 15 ألف لتر من المياه شهرياً شتاءً، تزيد في الصيف إلى 20 ألف لتر، يقدّر ثمنها بنحو ألف ليرة تركية عبر الصهاريج، وهو ما دفعه إلى سداد فواتير الجباية عن المياه للمجلس المحلي، أملاً في تخفيف الأعباء المادية عنه.
يصف مصطفى المياه الواصلة خلال ساعة التشغيل الأسبوعية بـ “الشحيحة”، يقول “لم أستطع أن أملأ الماء في الخزان إلا برميلين فقط (400 ليتر) مما اضطرني إلى الاعتماد على الصهاريج من جديد.
يقول مصطفى أنه دفع 150 ليرة تركية عن كل شهر لإيصال المياه إلى منزله، ما حصل عليه لا يتجاوز 1500 لتراً، ثمنها لا يتجاوز 75 ليرة تركية من الصهاريج، وهو ما يعني أن “المستفيد يدفع ضعف التكلفة للحصول على المياه من الشبكة!”. يعمل مصطفى على بسطة خضار وفاكهة، ولا يتجاوز دخله اليومي 150 ليرة تركية، ما يعني أنه يضطر لدفع ربع ما يجنيه لقاء الحصول على المياه فقط، حاله حال آلاف السكان في المنطقة ممن تحدثنا معهم، ومنهم حسين عثمان (48 عاماً)، أب لـ 7 أطفال يسكن الحي الشمالي من تركمان بارح.
يقول عثمان “ندفع ثمن ماذا؟ حين تصل المياه وتغطي احتياجاتنا، حتى لو بدرجة قليلة عندها سيدفع الجميع، لكن هناك من تصله مياه شحيحة و لساعة واحدة مع انقطاعات قد تدوم لأسابيع، وهناك من لم تصله المياه مطلقاً”. ويضيف أنه يدفع بين 700 إلى 800 ليرة تركية ثمناً للمياه شهرياً، وهو ما يستهلك نحو ثلث ما يجنيه من عمله في (دكان سمانة في القرية)، وأنه لم يسدّد فواتير شبكة المياه التي لم تصل إلى منزله منذ أكثر من شهرين متتالين.
تختلف تكلفة شراء المياه عبر الصهاريج، تبعاً لبعد المسافة بين المنازل والآبار، إذ تتراوح بين 200 ليرة تركية لصهريج بسعة 4 آلاف لتر داخل القرية، وتصل إلى 230 ليرة تركية للصهريج الواحد في قرى العزيزية، الغيلانية، بوزدبة، وبحورتة، التابعة لتركمان بارح والتي لا تصلها المياه رغم توفر خطوط شبكة البلدية، وهو أمر أرجعه المجلس المحلي إلى ضعف موارد التشغيل.
ويحاول سكان هذه القرى البحث عن حلول أقل تكلفة، لكنها جميعاً دون قدرة المواطن، نظراً لانخفاض الدخل وارتفاع معدّل البطالة وارتفاع ثمن المياه، يقول حسين علاوي (55 عاماً) نازح مع عائلته المكونة من 9 أشخاص من بلدة فافين إلى قرية العزيزية (تبعد 2 كيلومتر عن تركمان بارح). ويضيف علاوي إنه يشتري المياه وينقلها بسيارته الخاصة التي زودها بخزان (سعة ألف لتر) من مناهل المياه إلى منزله، إذ تباع من البئر بسعر 35 ليرة تركية لكل ألف لتر، وبذلك يستطيع توفير نحو 22 ليرة تركية في كل خزان، لكنه يصف هذه المهمة بـ “الشاقة”.
في الوقت ذاته تلجأ عائلات إلى تقنين استخدام المياه التي لا يجدون للوصول إلى كفايتهم منها سبيلاً، إذ تقدّر الأمم المتحدة “أحقية الفرد في الحصول على كفايته من المياه للاستخدام الشخصي والمنزلي بين (50-100) لتر يومياً على أن تكون تلك المياه مأمونة و بأثمان معقولة أي لا ينبغي أن تزيد تكلفة المياه عن 3% من مجمل الدخل الأسري، وأن تكون متاحة مكاناً وزماناً ولا تبعد أكثر من (1000) متر من المنزل، ولا يستغرق الحصول عليها أكثر من (30) دقيقة”.
جميع هذه الشروط غير محققة في مناطق كثيرة من الشمال السوري، ومع ذلك يوماً بعد يوم يتوقف الدعم الدولي عن دعم السكان، رغم ظروفهم القاسية، ما يهدّد ملايين في المنطقة، وأكثر من 12 ألف شخص في قريتي تركمان بارح والحردانة، بنقص حادّ في مياه الشرب والاستخدام المنزلي، لا تنفع معه الحلول الفردية ويحتاج لحل مستدام يضمن الحصول على المياه كأول شرط من شروط الحياة.