خلف سياج حديدي محيطٍ بخيام القاطنين في القطاع الأول من مخيم الهول شرقي سوريا، وتحديداً في المساحة الصديقة للطفل التابعة لمنظمة حماية الطفل، وبينما كنت أنتظر السيّارة الّتي ستقلّني وزملائي العاملين بإحدى المنظمات الإنسانية لخارج المخيم، اقترب أحد الأطفال مني محاولاً إعطائي رقم هاتف خالته الأمريكيّة علّها تخرجه مما وصفه بـ “جحيم المخيّم”.
من خلف الشِّباك اعتدت تبادل الحديث مع الأطفال باللغة الإنكليزيّة رغبة مني بتطوير مهارتي اللغوية، فالإنكليزية هي اللغة الأم لبعضهم، اعتذرت من الطّفل بكثير من الحسرة، وشرحت له بأنّ هذا العمل من اختصاص منظمة الصّليب الأحمر ومنظمة الإنقاذ الدّولية، ولا يمكنني المساعدة بأيّ شكل من الأشكال. وصلت السيّارة الّتي كنت أنتظرها وصعدت مع زملائي وذهني سارح بهذا الطّفل، متسائلة عن الشروط التي يجب توافرها ليستطيع البعض المغادرة.
في هذه المساحة أطفال من جنسيات مختلفة معظمهم أجانب، تتراوح أعمارهم بين خمس سنوات و خمسة عشر عاماً، بعضهم شقر بعيون زرقاء، وآخرون بعيون مسحوبة وملامح آسيوية، وبعضهم الآخر أسود البشرة، والشيء المشترك بين معظمهم هو اليتم والخوف. هؤلاء الأطفال هم أبناء لمقاتلين أجانب التحقوا بصفوف تنظيم داعش معظمهم ولدوا في سوريا، وقسم قليل منهم اختطفهم آباؤهم من أمهاتهم وبلادهم وجاؤوا بهم إلى سوريا، وغالبية الباقين من أُمهات سوريات.
يضم مخيم الهول اليوم بحسب الأرقام الّتي تشاركها إدارة المخيّم التّابعة لـقوات سوريا الديمقراطية “قسد” أكثر من 42781 شخصاً. بينهم 19530 عراقياً و نحو 16700 سورياً، بينما يبلغ عدد الأجانب من غير السوريين والعراقيين 6461 شخصاً، أما مجهولي النسب فعددهم 11 شخصاً. كانت هذه الأرقام مضاعفة قبل أن تسمح الإدارة الذّاتية بخروج عدد من قاطني المخيّم من خلال رحلات أطلق عليها اسم رحلات العودة.
ساهم اجتماع وجهاء العشائر في أيّار 2024 بتسيير هذه الرحلات، وتنصّ مخرجاته على العمل على إصدار عفو يشمل من لم تتلطخ يداه بالدم، ومن ثبت تأهيله و صلاحه ليعود ويندمج في إطار مجتمعه. وإعادة النظر في موضوع النزوح الدّاخلي سواء في المخيّمات أو التّجمعات المضيفة لمن لديهم الرّغبة في العودة الطوعيّة إلى مكان سكنهم الأصلي.
من خلال هذه الرّحلات تمكن عدد من النّساء وأطفالهنّ من مغادرة المخيّم بعد أن سمحت الإدارة الذّاتية بتسييرها لمغادرة المخيم بوساطة شيوخ عشائر من منطقة الرّقة ودير الزّور، إضافة إلى رحلات العراقيين بالتنسيق مع الحكومة العراقيّة.
أربع رحلات عودة خلال العام الحالي 2024 تم تسييرها، بالإضافة لثماني عشرة رحلة أخرى منذ بدء التنسيق مع الحكومة العراقيّة والّتي أبدت استعدادها لاستقبال رعاياها من المخيّم، ما عدا “أصحاب الملفات الأمنيّة ومن تلطّخت أيديهم بالدّم”، وفق ما جاء على لسان وزير الهجرة والمهجرين في الحكومة العراقيّة كريم النّوري. آخر هذه الرّحلات كانت صباح يوم الأربعاء في التاسع من شهر تشرين الأول الماضي حين غادرت 175 عائلة عراقيّة مخيم الهول متجهة إلى الوطن بعد معاناة استمرت لأكثر من خمس سنوات.
لكل شخص حكاية
خزنة هو اسم مستعار لسيدة أربعينية فضلت عدم ذكر اسمها الحقيقي تجنّباً للمساءلة الأمنية، من مدينة دير الزور شرقي سوريا، لم تكن في مناطق سيطرة داعش، وجاءت رفقة أختها الستينية إلى الحسكة لزيارة الأهل والأقارب بعد كسر الحصار عن مدينة دير الزّور عام 2018، وفي الطّريق طلبت نقطة تفتيش تابعة لـ “قسد” منهما إبراز بطاقاتهما الشخصية.
تقول: “لأننا من مدينة دير الزّور بحسب البيانات الشخصية، اقتادونا قسراً إلى المخيّم ولم يشفع لنا امتلاكنا لأراضي في ريف الحسكة الجنوبي منذ أكثر من ستين عاماً”. توفيت أُخت خزنة في العام الأوّل من إقامتها بعد تدهور صحتّها وعدم تحمّلها للشتاء القاسي في الخيام، أما خزنة فما زالت عالقة تنتظر دورها برحلات العودة.
تواصل خزنة سرد قصتها: “حاصرتنا داعش في مدينة دير الزّور لأربع سنوات، ثم حاصرتنا قسد في المخيم منذ خمس سنوات. تسع سنوات من عمري خسرتها دون أيّ ذنب، وما يجعلني أشعر بصعوبة الحياة هنا إضافة للظروف الجويّة القاسية، هي الإجراءات الأمنيّة المشددة التي زادت بسبب أنشطة تقوم بها داعشيات، منها محاولات الهرب أو إعادة تنظيم أنشطة خاصّة بهنّ مثل الحسبة وبيت مال المسلمين”.
المركبات الخاصة بالسكان هي المواصلات الوحيدة في المخّيم، يسمح باستخدامها من السّاعة الثّامنة صباحاً وحتّى الثالثة بعد الظهر فقط، ويجب تسليمها في الكراج الخاص بالسيّارات خارجاً تحت طائلة المسؤولية والمصادرة، مهما كانت حاجة قاطني المخيّم للتنقل، حتى في الحالات الصحّية أو الإسعافيّة، بالرغم من أن أغلب قاطني المخيم هم أطفال ونساء وكبار سن ولا يمكنهم قطع مسافات طويلة سيراً على الأقدام في طرقات ملتهبة حرارةً في الصّيف وغارقة في الطين شتاءً حسب شرح خزنة.
“لم تقف الإجراءات الأمنية عند هذا الحد، بل فرضت إجراءات جديدة” تضيف خزنة ساخرة. مؤخراً فُرضت قيود على الحوالات الخارجيّة، فأيّ شخص بجانب اسمه نقطة ولو كانت بقلم رصاص سيُمنع من استلام حوالته، مهما كانت الأسباب، سواءً مشاجرة أو شكوى بسبب خلافات صغيرة أو تذمر من الأوضاع المعيشية أو إجراءات إدارة المخيّم التي تشرف عليها منظمة بلومونت، جميع هذه الأسباب كفيلة بتقييد حوالته.
نور، اسم مستعار لشابة كانت تعمل ميسرة في إحدى المنظمات، وتم الاستغناء عن خدماتها وعدم تجديد عقدها بحجة التقليص لتصدم بعد عدة أيام بتوظيف فتاة في نفس منصبها من خارج المخيّم. عندما حاولت نور التواصل مع المسؤولة عنها للاستفسار عن سبب استبدالها، كان الجواب بأنّ التعليمات الجديدة لإدارة المخيّم تمنع بشكل قطعي توظيف قاطني المخيّم إلّا في حالات استثنائيّة جداً.
تقول نور: “أشعر بالإحباط وخيبة الأمل لأنّ هذه الوظيفة كانت بمثابة ضوء ينير لي حياتي، وحافز لي لتطوير نفسي بقراءة ملفات إلكترونيّة عبر الانترنت على أمل أن أصل إلى وظيفة ومستقبل أفضل بعد أن أخرج من المخيّم. الآن بعد أن فقدت وظيفتي أشعر بأنني عدت إلى نقطة البداية”.
سلطة المخيّم منعت المنظمات من توظيف قاطني المخيّم بحجة الحيلولة دون وقوع رواتب هؤلاء الموظفين في نهاية المطاف في “جيوب الإرهاب” القابع تحت سقف الخيام، الأمر الّذي حرم العشرات من فرص عمل كانت تسد حاجتهم وحاجة عائلاتهم.
سبق هذه الإجراءات التي طبقت منذ أشهر أنشطة قام بها التنظيم خارج المخيم، مثل أحداث سجن الصناعة الواقع في أطراف مدينة الحسكة حيث نفذ معتقلو التنظيم استعصاءً وحاولوا الفرار من السجن، أمّا في المخيم فأعلنت سلطة المخيم لأكثر من مرّة عثورها على أنفاق جهزها قاطنون وصفتهم ب “المتطرفبن” في المخيم تحضيراً للهروب.
كما عثرت على خيم مجهزة لتدريب الأطفال الّذين يسمونهم “أشبال الخلافة” ولمحاكمة الخارجين عن “الفكر الدّاعشي” من قاطني المخيّم. على خلفية هذه الأنشطة شددت سلطة المخيّم الإجراءات الأمنية التي شملت منع الإنترنت الفضائي وإغلاق مقاهي الإنترنت الّتي كان يرتادها قاطنو المخيّم، في المقابل تمّ السّماح لهم باستخدام الإنترنت المحلي (لشركتي الاتصالات السورية سيريتل و ام تي إن) على أجهزتهم الخاصّة كون تغطية الشّبكة رديئة جداً.
خدمات بالتنقيط
آخر سنتين تقلصت المساعدات الغذائية بشكل كبير، تروي نور، فقد حُذفت أصناف من السلة مثل المرتديلا والفول والحمص، لتقتصر المواد الممنوحة على البقوليات والأرز والزيت والسّكر، أما ما يسمى بسلّات الكرامة الّتي تحتوي على الفوط النسائية وألبسة داخليّة وبعض الاحتياجات الخاصّة بالمراهقات والنساء لم نعد نراها إلّا نادراً.
وعن الخدمات الطبية فتبدأ نور بتعدادها واصفة إياها بالسيئة، فالنقاط الطبيّة لا تقدّم أكثر من مسكنات وأدوية أوّلية مثل السيتامول. تقول”منذ ستة أشهر صار على المرضى تحمل تكاليف عملياتهم وأدويتهم بعد توقف كل من الصليب الأحمر ومنظمة الصحّة العالميّة عن تمويل العمليات الجراحيّة لقاطني المخيّم من السوريين والعراقيين، كذلك امتنعت المفوضيّة المسؤولة عن إحالة المرضى لإجراء عمليّات جراحيّة خارج المخيم في مستشفى الحياة ومستشفى الحكمة وغيرها من المستشفيات في مدينة الحسكة.
هناء شابّة في مطلع العشرينيات من محافظة حمص، انصاعت لرغبة والدها وتزوجت أحد عناصر الجيش الحرّ عندما كانت في الرابعة عشر من عمرها، لكنه انتسب لاحقا لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واصطحبها إلى مدينة الرّقة حيث رزقا بطفلهما الوحيد محمد قبل أن يُقتل زوجها خلال المعارك في الرقة عام 2017.
بعد هزيمة التنظيم عام 2018 وجدت هناء نفسها في مخيم الهول مع طفلها ذو العام الواحد. تقول “إنّ الحياة في المخيم لشابّة وطفلها دون وجود عائلتها إلى جانبها جعلتني هدفاً لرجال المخيم الرّاغبين بزوجة رابعة، لم يكن عمري أو جمالي حافزهم لخطبتي، بل طمعهم بالحصول على الخيمة والكيروسين وغير ذلك من مساعدات عينية أو نقديّة، ناهيك عن أنّ الظفر بزوجة شابّة أمر مرحب به بالتّأكيد”.
لم تعثر هناء على فرصة عمل في المخيّم، وتعتمد على المساعدات بشكل كامل، حاولت متابعة تعليمها الّذي توقف عند شهادة الصّف السّادس ولكن محاولتها باءت بالفشل، فالتعليم في المخيّم مخصص للصّغار، أما الكبار فلا فرصة أمامهم إلا لمحو الأمية، ولو حاولت أن تدرس بنفسها فلن يسمح لها بمغادرة المخيّم للخضوع للامتحانات. تقول “كلّ ما أحلم به هو أن أستغلّ هذه الأيّام المتشابهة الّتي أعيشها، وأن أتعلم شيئاً ينفعني، ولكن رجائي يخيب في كلّ مرّة أحاول فيها التقدم خطوة إلى الأمام”.
تؤكد سيدار العلي، 30 عاماً (اسم مستعار)، موظفة سابقة في منظمة تموّل مدرسة غير حكوميّة في مخيم الهول، ما قالته هناء واصفة العملية التعليمية في المخيم بالمعقدة على الرغم من اعتماد المدارس القليلة على منهاج اليونيسف للحلقتين الأولى والثّانية، إلا أن هؤلاء الأطفال يحرمون من استكمال تعليمهم الثانوي ثم الجامعي، معتبرة أنه يجب التّركيز بشكل أكبر على استكمال تعليمهم ودمجهم في المجتمع خارج المخيّم لأنّهم عرضة للاستغلال من قبل الجهاديين والجهاديات”.
تصف سيدار المدرسة التي عملت فيها بأنها كانت مجموعة من الخيام، لا يكترث المعلمون فيها لطلابهم معتبرين أنهم ليسوا إلا دواعش صغاراً. أما العوائل فبعضهم يمتنعون عن إرسال أطفالهم للمدرسة على اعتبار أنّ المرتدّين هم من يدرّسون فيها، ويحاولون تسميم عقول أطفالهم بأفكار الإلحاد والكفر.
القسم الآخر يرسلون الأطفال طمعاً باستلام القرطاسيّة والحقائب وغيرها من المساعدات الّتي توزعها المنظمات على الطلاب، وشريحة صغيرة من العائلات تحاول تحفيز أطفالها على التعلم وتتابعهم في الخيمة بعد رجوعهم من المدرسة، ولا تتجاوز هذه الشريحة 10%.
بحسب خارطة الخدمات المشاركة من قبل منظمة بلومونت المسؤولة عن إدارة مخيّم الهول هناك خمس مدارس ومراكز رعاية وتعليم في المخيّم وروضة واحدة، كما يوجد مركزي تعليم آخرَين أحدهما تابع لجمعية GOPA والآخر لجمعيّة اليمامة، بالإضافة إلى مركزين للتدريب المهني مدعومين من منظمة QRD و GOPA.
لا عودة دون مقابل
هبة الله، ثلاثينيّة من ريف مدينة دير الزّور الغربي، خرجَتْ من المخيّم في الرحلات الأولى عام 2022 بعد أن تعرضَت للابتزاز من مسؤول في سلطة المخيّم حين طلبت منه مساعدتها بالخروج، فاستغل رغبتها بالخروج وراح يهددها بأنّه يستطيع إبقاءها في المخيّم طيلة حياتها إن لم تستجب لمطالبه بإرسال صور شخصية لها، مدعياً أنه يستطيع استخدام نفوذه في إضافة اسمها إلى الرحلة المغادرة إن نفذت ما يريد. تقول إنها استجابت له لكن ضغوطه الزائدة جعلتها تهدده بفضحه أمام المنظمات الإنسانية إن لم يفِ بوعده، فأدرج اسمها ضمن الرحلة المنطلقة خوفاً من الفضيحة.
تروي هبة الله حديثها بنبرة حزينة متقطعة، تقول “غادرت المخيّم ولكنّه لم يغادرني، المخيّم وصمة على جبيني أحملها سواء كنت داخله أو خارجه، تعامل موظفي المنظمات والحرّاس وموظفي سلطة المخيّم كانت سيئة جداً، كنت أشعر بأنني معتقلة ولست مهجرة بسبب الحرب وداعش”.
نجت هبة الله من مخيم الهول، لكنها لم تنجُ من معاملة الجيران السيئة حسب وصفها، تقول: “رغم الحقد والكراهية التي كنا نراها في عيون مسؤولي المخيم، إلا أننا على الأقل لم نكن نشعر بالتمييز من حيث المعاملة، أمّا خارج المخيّم فإنّ نظرات وهمزات ولمزات جيراني وأقاربي لا تتوقف، رغم أنهم يعرفون جيداً بأنني لم أكن داعشية وبأنني نزحت إلى الحسكة هرباً من الاشتباكات وقصف طيران التّحالف، ومع هذا تراودهم مخاوف منّي ومن التّعامل معي، ويتجنبونني تماماً ويمتنعون حتى عن تأجيري منزلاً لأعيش فيه”.
تشير مصادر محليّة بأنّ عمليات التسجيل في رحلات العودة يمكن تسريعها بواسطة سماسرة وموظفي الأرشيف والإدارة ليتم تسريع الدّور مقابل عشر ورقات، أي ما يعادل ألف دولار عن الاسم الواحد. أما في حال تهريب أحد قاطني المخيّم بشكل فردي وغير رسمي فيصل المبلغ لحدود العشرين ألف دولار، ويتضاعف الرقم في حال تهريب أحد الأجانب. يفضّل بعض قاطني المخيّم الخروج عن طريق التّهريب ليتمكنوا من السّير في طريقهم الخاص والتّسلل عبر الحدود إلى تركيا ثمّ أوربا، ولا يرغبون بالعودة إلى بلدانهم خوفاً من مواجهة مصير مجهول.
مؤخراً ألقي القبض على شبكة مؤلفة من سماسرة مقيمين ضمن المخيّم، وخمسة من موظفي الأرشيف بتهمة التزوير والتلاعب بهذه الرّحلات، وحذف أسماء لأشخاص مستحقين للخروج بسبب أوضاعهم الصحيّة واستبدالها بأسماء أشخاص دفعوا المال لتسجيل أسمائهم في الرحلة.
هناء وخزنة ونور وهبة الله، مثال لقاطنات استطاعت بعضهنّ الخروج من المخيم لكنهنّ لم يتمكنّ من التخلص من اسمه وذكرياته التي لازمتهنّ، ومنهنّ من رحلنَ إلى القبر قبل أن يحققن حلمهنّ بالعودة لحياة طبيعية ربما لن يجدنها، فالحرب مازالت قائمةً خارج أسوار مخيم الهول.