في شهر آب الماضي، نفض فريق منتدى خيزران الثقافي في إدلب الغبار عن لوحات الفنان التشكيلي الراحل عبد القادر عبداللي ابن مدينة إدلب، من مواليد عام 1957.
داخل قبوٍ مظلمٍ في منزل ذوي عبداللي رقدت لوحاته لسنوات هرباً من أعين الأجهزة الأمنية التي لاحقت محاولته في التعبير عن رأيه باستخدام الريشة والألوان، لتعرض في معرض خاص معبرة عما جال في خاطر عبداللي قبل موته.
“عبد القادر كان الحاضر الغائب في المعرض” تقول سميرة بيراوي، زوجته التي رفضت مشاركة لوحات زوجها بأي نشاط بعد رحيله. لكنها اليوم وبعد مرور سبع سنوات على وفاته بسبب مرض السرطان عن عمر ناهز الستين عاماً، اقتنعت بأن الوقت قد حان لإنصافه، ولو بعد موته. تقول بصوت خافت “كان يستحق أن يُحتفى به وهو حي، لكن الظروف لم تكن في صالحه”.
في الثامن والعشرين من حزيران الماضي، وافقت عائلة عبد القادرعلى إخراج اللوحات من الصناديق الخشبية المركونة في القبو معزولةً عن الأعين. وبفضل محبيه ومجموعة من المثقفين والنشطاء في المدينة أُضيء مصباح القبو من جديد ليتم عرض أعماله في معرض خاص به.
عمار الأمير، مدير منتدى خيزران الثقافي الذي تأسس على يد ثلاثة عشر شاباً وشابة في إدلب بعد الثورة السورية، عبر عن فرحه وفخره باستضافة لوحات عبد اللي في مدينته إدلب واصفاً إياها بالكنز الثمين.
ببطء نزل متطوعو الفريق الدرج لإخراج اللوحات من القبو، يصف أحد الشبان المشهد قائلاً “اقتربنا من الصناديق التي نسجت العناكب خيوطاً فوقها، جثوت على ركبتيّ و نفخت على أحد الصناديق، فانتشرت سحابة كثيفة من الغبار، تبعها سعال جماعي من الشبان، ثم ما لبثنا أن وزعنا الابتسامات العريضة فرحاً بإنجاز المهمة”.
قدم منتدى خيزران الثقافي للجمهور ثماني لوحات للفن السريالي، جسد فيها عبد القادر عبداللي رؤيته للعالم من خلال رموز تعبيرية غنية. في إحدى لوحاته، صوّر تعطيل الحواس، مثل السمع والبصر والكلام، وعبّر عن الشلل بربط العمود الفقري بالقيود. يشرح زوار للمعرض بأن هذه القيود كانت حسب قراءتهم، تحيط بالإنسان من الداخل والخارج لتحدّ من حرية الفكر والحركة.
في لوحة أخرى، ألقى الضوء على آثار مدينة تدمر، وعظمة حضارتها وقيمتها التراثية الغنية. لكنه في الوقت نفسه، كشف عن الوجه الآخر لهذه المدينة، وهي الأقبية التي تحتضن صرخات وآهات المعتقلين والمظلومين، مشيراً إلى سجن تدمر كأخطر سجن في سوريا. كما رسم قوس تدمر مغلفاً بجدران عازلة للأصوات، في رسالة تعبر عن الصورة التي تصل للعالم دون أن يعي أحد الصوت الحقيقي للمعاناة في الداخل.
كانت اللوحات “دعوة للتأمل العميق في رسائل الفن” يقول أحد زائري المعرض الذي أقيم في شهر تموز الفائت بمدينة إدلب تحت عنوان “ويستمر”. كما استضافت مدينة جسر الشغور غربي إدلب معرضاً بعنوان “جسور” في شهر آب الماضي. بحسب أعضاء الفريق فإن هذين المعرضين لم يكونا مجرد فرصة لعرض اللوحات فحسب، بل كانا انتصاراً لذاكرة الإنسان والفن، واستمراراً لرسالة عبد اللي في مقاومة القمع.
خلف تلك اللوحات، تختبئ روح عبد القادر، تخبرنا زوجته التي تستعيد مع كل لوحة الظروف التي دفعته لرسمها. “مرت سنينه سريعاً” تهمس متذكرة بدايته الأولى ورغبته في دراسة الفنون الجميلة، والتي انتصرت على رغبة والده في دراسة الطب بعد نجاحه بالثانوية العامة في مدرسة المتنبي.
رغم معارضة والده، أصر عبد القادر على التوجه إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق، وخضع لامتحان القبول في 1976، لكنه فشل. “لم يعرف سبب رسوبه في ذلك الوقت” تقول زوجته بصوت مرتجف. وبدافع الغضب وخيبة الأمل، قصد عبد القادر جامعة حلب وسجل في قسم الرياضيات، متحدياً نفسه وميوله الفنية، لكنه بعد دراسته للفصل الأول أيقن أن الفن يمشي في عروقه، وأنه لن يكون قادراً على تجاهله، فلم يكمل وعاد إلى حلمه الأول، لكن هذه المرة في مصر.
في عام 1977، حمل عبد القادر حلمه وسافر إلى مصر، حيث قُبِل في كلية الفنون الجميلة وبدأ حضور ودراسة مقررات الفصل الأول، لكن السياسة كان لها رأي آخر، فبعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى إسرائيل، ثار الطلاب العرب في مصر ضد هذه الخطوة، وكان عبد القادر واحداً من بين هؤلاء الذين ارتفعت أصواتهم اعتراضاً، فقررت السلطات المصرية طرد جميع الطلاب العرب من الجامعات، ليجد نفسه مجبراً على ترك حلمه مرة أخرى.
تركيا كانت وجهة عبد القادر الجديدة، قُبل فيها بكلية الفنون الجميلة بجامعة المعمار سنان، وهو قرار أغضب والده الذي بعث له برسالة يعاتبه فيها قائلاً: “ليش عملت هيك ياعبدو.. ليش ماقدمت على كلية الطب؟” لكن عبد القادر كان حازماً في رده، قائلاً: “أن أكون فناناً ناجحاً خيرٌ من أن أكون طبيباً فاشلاً”.
في تلك الفترة من الثمانينات، كان والده يسعى لحمايته من الوضع الأمني المتردي في سوريا، حيث سُجن معظم أصدقائه دون سبب واضح. كانت الأجهزة الأمنية تستدعي الشبان تحت ذريعة الاستجواب، ومع مرور الوقت عدد كبير منهم تمت تصفيته، بينما قضى آخرون حياتهم في السجون. لذلك كان أكثر ما يهم والده هو السماح له بالدراسة خارج البلاد، أملاً في أن يضمن له مستقبلاً أفضل.
مع ندرة الاتصالات في تلك الأيام، ابتكر الأب شيفرة للتواصل مع ابنه، فعندما يريد منه عدم زيارة سوريا، كان يرسل له رسالة يقول فيها: “ياعبدو لاتجي.. عمتك عيوش مرضانة”، ليشير بذلك إلى أن الوضع السياسي والأمني في البلد ليس مستقراً. كانت تلك الرسائل تزيد من رغبة عبد القادر في متابعة أحلامه بعيداً عن شبح الخوف والتهديد.
بعد أن أنهى دراسته الجامعية في تركيا وعاد إلى سوريا في عام 1985، وجد عبد القادر عبداللي نفسه متورطاً في عمل غير مأجور داخل أروقة القصر الجمهوري كمترجم للّغتين العربية والتركية. يروي صديقه عبد الرزاق غنوم: “كان يُستدعى كل أسبوع من إدلب إلى دمشق للترجمة، وكان يُطلب منه أحياناً المشاركة في صياغة الخطط الاستراتيجية الخمسية للحكومة، تلك الخطط التي تحدد رؤية الحكومة وأهدافها المستقبلية، وتضع آليات التنفيذ”.
الاستدعاءات المتكررة إلى القصر الجمهوري صارت روتيناً يومياً، وكان هذا الانخراط المستمر سبباً ليتناول في مقالاته فكرة “المنفى الطوعي”، ذاك الشعور الذي يعايشه الإنسان حين يجد نفسه مضطراً للبقاء في مكان لا يختاره بحرية، بل تحت وطأة الواجب والمسؤولية، حتى وإن بدا اختياره في ظاهره طوعياً، حسب ما روته لنا سميرة.
يرجع أحد أصدقائه بذاكرته إلى عام 1985، مشبهاً الثقافة في سوريا آنذاك بالمريضة، كشجرة شبه يابسة، بفعل ماوصفه بالأيدي الفاسدة التي تشرف عليها، يقول “إن العيون كانت تراقب المثقفين آنذاك، تحاول أن تتسلل إلى عقولهم، تفتش في أحلامهم ومشاعرهم، تحاصر أفكارهم كما حدث مع عبد القادر”.
كان عبد القادر آنذاك يجتمع مع مجموعة من الشبان المثقفين في غرفة صغيرة في منزل صديقه نجيب كيالي تسمى العليّة، يجتمعون فيها مساء كل أربعاء، منهم الكاتب خطيب بدلة، القاص نحيب كيالي، الأستاذ ياسر السيد، والأستاذ علي عفارة، والفنان خير الدين عبيد. يقول صديقه “ومن الأسماء التي تتوافد إلى العليّة: حسام رجب، عبد الله خطيب، نبيل أصفري، محمد خالد عمر، أحمد شيخ محمد، وأنيس بدوي، يرافقهم شبان في مقتبل العمر”.
كانت العلية في تلك الأيام ملاذاً لأدباء ومثقفين في محافظة إدلب، إذ كان عبد القادر وأصدقاؤه يجتمعون ليبحثوا في الأدب والفن والسياسة، لكن سرعان ما تحولت تلك الاجتماعات إلى مصدر قلق لقوات الأمن، وصارت مكاناً مشبوهاً ممنوعاً. بدأت السلطات تضيق الخناق عليهم، وأصبح الاستدعاء إلى فرع الأمن في مركز مدينة إدلب روتيناً شبه يومي أيضاً، وكان نصيب عبد القادر الأثقل، إذ وجد نفسه في أحد الأيام مدعواً إلى فرع الأمن المركزي بدمشق.
هكذا مرّت فترة التسعينيات على عبد القادر عبداللي، قضى أيامه على الطرقات متنقلاً بين أروقة فروع الأمن في إدلب ودمشق. تتذكر زوجته تلك الأيام وكيف كانت تقف بجانبه محاولة تهوين محنته السياسية. تقول “كان يقضي ساعات طويلة حين الاستدعاء في غرفة فارغة، إلا من كرسي وطاولة. لم يكن هناك محقق، ولا أسئلة، فقط صمت مطبق يكسره دخول عنصر الأمن مرة واحدة في اليوم، يسأله باقتضاب إن كان بحاجة لشيء، ثم يخرج”.
تلك الممارسات النفسية كانت أقسى عليه من السجن ذاته، فانعكست آثارها على لوحاته بحسب الناقد التشكيلي و مدرس الرسم، عبد الغني غفير، صديق الفنان عبد اللي، مؤكداً أن ريشته كانت سلاحه الوحيد ليدون قصة نضال طويل امتزجت فيه السياسة بالفن.
في إحدى زوايا صحيفة “السياسة” الكويتية، كتب عبد القادر مقالاته بأسلوب نقدي ساخر تحت عنوان “فرشاة”، عبر من خلالها عن رؤيته الفنية للعالم. بدأت هذه الزاوية بالظهور في أواخر عام 1997، واستمرت حتى عام 2000، حين جمع مقالاته في كتابه الذي حمل نفس الاسم.
وجد عبد القادر عبداللي في الكتابة متنفساً لتوثيق ما عاشه من قمع وضغوط على مدار سنوات حياته في سوريا. في إحدى مقالاته المنشورة عام 1991، وثّق إحدى تجاربه في مدينة الرقة شرقي سوريا حين دُعي لإقامة معرض فني في المركز الثقافي. كان مدير المركز خلف المفتاح، عضواً في حزب البعث حينها. بحماسٍ بدأ عبد القادر تجهيز لوحاته لعرضها، بينما تولى المفتاح مهمة فرز الأعمال.
وقف “المفتاح” أمام اللوحات، وبدأ يتفحصها واحدة تلوَ الأخرى، وأخذ يهز رأسه ببطء ويشير بإصبعه قائلاً: “هذي ماتنعرض.. وهذي ماتنعرض” بعد فترة قصيرة، حصل المفتاح على منصب سياسي أعلى، وكأن قرار منع اللوحات من العرض كان بوابته للترقي. هكذا عايش عبد القادر كغيره من الفنانين والمثقفين قمع الفنون والأفكار، لكنه واصل الكتابة والرسم، موثقاً الظلم الذي عايشه، رافضاً الصمت في وجه التهميش.
في مقالة أخرى، استرجع عبد القادر عبداللي ذكرى تحضير معرضه في مدينة حلب، كان ذلك في 15 حزيران عام 2000 حين اتفق مع الأب إبراهيم فرح على نقل لوحاته من إدلب إلى صالة الفنون الجميلة في حلب، مستخدمين سيارة الأب الخاصة. بعد وصولهم إلى الصالة، وضعوا اللوحات داخلها، ثم انطلقوا في جولة داخل المدينة للاستمتاع ببعض الوقت قبل العودة إلى العمل. عادوا إلى الصالة لترتيب اللوحات، لكن خبر وفاة حافظ الأسد وصلهم قبل البدء. التقت أعينهم، وابتسموا دون أن ينطقوا بكلمة واحدة، بعد لحظات قليلة، اقترب الأب إبراهيم وقال محاولاً إخفاء ابتسامته “دوّر السيارة، ما في معرض”.
عاش عبد اللي في ظل تضييق السلطات عليه منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اندلاع الثورة السورية في 2011. ومع اشتداد الحرب في سوريا، لم يكن أمامه سوى الرحيل مجدداً، لكن هذه المرة لم تكن رحلته إلى تركيا بغرض الدراسة أو العمل كما في الماضي، بل كانت هرباً من أهوال الحرب رفقة عائلته. في مدينة أنقرة، وجد ملاذاً جديداً، حيث تفرغ للرسم مرة أخرى.
بعد تهجيره حملت إحدى لوحاته اسم “مدينتي”، عبّر فيها عن المدن السورية الغارقة بدماء الشهداء، راسماً مشاهد القصف والدمار التي لم تفارق ذاكرته، وكأن مدينته أصبحت رمزاً للوطن بأكمله.
ظل عبد القادر عبداللي متمسكاً بفنه، يرسم لوحات تجسد قضيته الأسمى: الحرية والوطن. لكن ضغوط الحياة كانت تفرض نفسها، خاصة مع حاجته لتأمين مستقبل أسرته. وسط هذا الصراع بين الفن ولقمة العيش، انهالت عليه عروض الترجمة من دور النشر، فلم يكن أمامه سوى قبولها. بدأ بالعمل على ترجمة الأفلام الوثائقية لمحطات تلفزيونية مثل الجزيرة والعربية، ثم انخرط في ترجمة العديد من الأعمال الدرامية التركية، ليصبح هذا العمل مصدر رزقه الأساسي.
ورغم انشغاله الشديد بمتطلبات الحياة اليومية، لم يتخلَّ عبد القادر عن حلمه القديم بإقامة معرض في إدلب، وكان يشغله استعادة لوحاته التي تركها مدفونة في وطنه، وظل هذا الحلم عالقاً حتى آخر أيامه، حيث وافته المنية في ولاية أضنة التركية عام 2017.
تكريماً له عرضت في الذكرى الأولى لرحيله، عشر لوحات في مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، لتكون شاهداً على رحلته الفنية الطويلة والمليئة بالتحديات، وحلمه الذي لم يكتمل.
قبل وفاته، كلما تذكر عبد القادر لوحاته العشرين التي تركها في دمشق شعر بغصة، فقد حاول مراراً استعادتها، لكنه رحل عن الدنيا حاملاً تلك الحسرة. سميرة زوجته، تتأمل صورته في هاتفها المحمول، وتنظر إليه وتهمس بصوت خافت: “لقد حصلنا عليها، أصبحت لوحاتك البعيدة بين أيدينا اليوم”.
يصف أصدقاء عبد القادرعبداللي تهريب اللوحات بالمغامرة، فأصدقاؤه في دمشق لم يسمحوا بضياع إرثه الفني، فنقلوها لوحة لوحة، من منزل لآخر، بعد طيّ كل لوحة بعناية داخل غلاف ما، أو توضع بين صفحات الكتب المدرسية، حتى لا تلفت الأنظار. فعبرت المدن، حتى وصلت أخيراً بالبريد إلى منطقة أضنة، ليصل رصيده من اللوحات قرابة ثمانين لوحة عبرت عن ما عاشه وشاهده، تاركاً للنقّاد والمشاهدين وجمهوره حرية التفسير والتعبير.