فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

من لبنان إلى سوريا.. رحلة العودة إلى الوطن المخيف

أميمة محمد

خروج اللاجئين السوريين المفاجئ من لبنان بسبب الحرب شكل صدمة لهم، لكن المفاجأة الأكبر كانت عند دخولهم الأراضي السورية

عند الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 30 أيلول (سبتمبر) الماضي، كان أبو محمد، اللاجئ السوري في لبنان، يستعدّ لرحلة العودة إلى مدينته إدلب في شمالي سوريا. لم يكن قرار رحيله عن لبنان سهلاً، لكنّ التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل الذي تحوّل إلى حربٍ شاملة على لبنان، دفعه مع عشرات الآلاف إلى ترك منازلهم بحثاً عن الأمان.

أبو محمد، البالغ من العمر 47 عاماً، الذي عاش تجربة النزوح لمرات عدة منذ مغادرته سوريا قبل 12 عاماً، وجد نفسه هذه المرة مضطراً للرجوع في الاتجاه المعاكس. كان يُدرك أنّ الرحلة إلى الشمال السوري الخارج عن سيطرة نظام الأسد، هي رحلة محفوفة بالمخاطر، طويلة وشاقة، قد يتعرّض فيها للاعتقال، وسيضطر لعبور نقاط تفتيش تسيطر عليها فصائل عسكرية متعدّدة، كلّ منها مدعوم من جهة مختلفة.

تبدأ الحواجز العسكرية بالظهور في دمشق وبعدها في حمص وريف إدلب الجنوبيّ ثم في حلب، وهي تخضع بأكملها لسيطرة النظام السوري. تأتي بعدها حواجز تتبع لـ “قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردية، تتبعها حواجز يُسيطر عليها الجيش الوطني المدعوم من تركيا، وصولاً إلى إدلب التي تخضع لسيطرة فصائل “هيئة تحرير الشام” المعروفة سابقاً باسم “جبهة النصرة”.

حاول أبو محمد تجاهل مخاوفه من هذه الشبكة المعقّدة وغير المفهومة من الجيوش والميليشيات، وأقنع نفسه بأنه وجميع النازحين سيحظون بمعاملة لائقة وتسهيلات دخول كونهم هاربين من الحرب، لكن سرعان ما سيخيب ظنّه كما أخبرنا لاحقاً.

خروج دون تعقيدات

يروي أبو محمد الذي عمل طوال فترة إقامته في لبنان مياوماً في ورش البناء والإنشاءات تفاصيل رحلته العكسية. كان جزءاً من قافلة تضمّ مئات العائدين. يُخبرنا أنّ عناصر الأمن العام اللبناني حذّروهم، قبل مغادرتهم الأراضي اللبنانية، من خطورة العبور عبر نقطة المصنع التي استهدفت غارة إسرائيلية مبنى قريباً منها صباح اليوم نفسه، لكن دون أن يمنعوهم من الاستمرار في رحلتهم.

توقّفت الحافلة عند المعبر، وكان فريق من الصليب الأحمر اللبناني بانتظارهم لتقديم مساعدات غذائية وعبوات مياه وبطانيات. “شعرنا بشيء من الراحة النفسية التي هوّنت علينا أولى خطوات النزوح الجديد” يقول، ثمّ يصف شعوره بالدهشة من التعامل اللائق معهم، “الأمن العام اللبناني سمح لنا بالمرور دون تعقيدات تُذكر، لم يطلبوا أيّ أوراق أو ثبوتيات شخصية وهو أمر غير معتاد على الإطلاق، وكان الطريق مفتوحاً أمام الجميع سواء كانوا سوريين أو لبنانيين للدخول باتجاه سوريا”.

بعدما عبر نقطة الحدود اللبنانية، كان أبو محمد يسير بخطوات متردّدة نحو بلده، قاطعاً حوالي كيلومترين سيراً على الأقدام مع عائلات أخرى تحمل أطفالها على الأكتاف وبايديها حقائب وأكياس. كانوا يقفزون بين الحفر وأكوام الردم، وهم يسمعون صوت الضربات الإسرائيلية تصل إليهم من المناطق المجاورة، ممّا زاد من توترهم.

بمجرد أن وطأت قدماه الأرض السورية بدأت ضربات قلبه بالتسارع، يحكي أبو محمد لنا، فقد كان ضباط الحدود السوريين يطلبون من الركاب البطاقات الشخصية ويدقّقون في أنواع المخالفات التي قد يكون بعضهم ارتكبها، كالدخول خلسةً إلى لبنان عبر طرق التهريب أو التخلّف عن أداء الخدمة العسكرية. “كنّا صيداً ثميناً لهم” يعلّق أبو محمد ساخراً، “لكنهم لم يهتموا بالتحقيق معنا، بل كانوا يلقون نظرة على الأوراق ثم يطلبون الرشوة علناً. وكلّ مخالفة بسيطة كانت أو كبيرة بدت لهم فرصة لجني المال”.

يربط معبر المصنع بين بلدة جديدة يابوس في محافظة ريف دمشق وبلدة المصنع في البقاع اللبناني، وهو واحد من ستة معابر رسمية بين لبنان وسوريا، يسيطر عليها النظام السوري، وهي الدبوسية وجوسيه، وتلكلخ ومطربا،  جميعها تصل الحدود اللبنانية بمدينة حمص. هناك أيضاً معبر العريضة الذي يربط محافظة طرطوس السورية بقرية العريضة اللبنانية، فضلاً عن وجود أكثر من عشرة معابر أخرى غير رسمية تُستخدم للتهريب.

“الفرقة الرّابعة” ترحّب بكم

استقلّ أبو محمد واحدة من الحافلات المنتظرة على الجانب الآخر[u4]  على الأراضي السورية، وتابع طريقه مع القوافل المكتظة بالمهجّرين. سارت القافلة بضعة كيلومترات ثم تّوقفت عند حاجز الفرقة الرابعة التابع للجيش السوري وهو أول حاجز عسكري قبل الوصول إلى دمشق. هناك بدأ العساكر بإجراء التدقيق الأمني للمرة الثانية على المتخلّفين عن الخدمة العسكرية والمطلوبين.

أبو محمد الذي كان على متن إحدى الحافلات يصف لنا المشهد بصوت مرهق: “كانت علامات التعب واضحة على وجوه الركاب الذين أنهكهم الوقوف المتكرر. اعتقدنا أننا سنحظى بمعاملةٍ خاصة لأننا هاربين من حرب مع إسرائيل، لكن الواقع كان مختلفاً”.

لم تكشف السلطات اللبنانية بعد عن أعداد النازحين إلى سوريا، لكن مصدراً في إدارة الهجرة والجوازات في حكومة النظام السوري صرّح لـ جريدة الوطن شبه الرسمية أنّ العدد يفوق الـ 97 ألف لبنانياً وأكثر من 247 ألف سوري حتى تاريخ التاسع من تشرين أول (أكتوبر) من أصل حوالي مليوني سوري متواجدين في لبنان حسب التقديرات.

أجبر عناصر “الفرقة الرابعة” جميع الركّاب على النزول من الحافلات المزدحمة وإنزال أمتعتهم لتفتيشها. “كانت جميع الحافلات مكتظّة لدرجة غير طبيعية وعدد الواقفين من الرجال والنساء والأطفال يفوق عدد الجالسين” يقول أبو محمد، مشيراً إلى أنّ عدد الركاب في حافلته تجاوز السبعين أي ضعف طاقتها الاستيعابية. الجميع وقف ينتظر لساعاتٍ وسط الازدحام بينما المكان يعج بأصوات متداخلة من صرخات عناصر الحاجز وهمهمات الركّاب وبكاء الأطفال وصوت الأنفاس المتسارعة للشبان الذين يتملّكهم الخوف من الاعتقال.

بينما كانت العيون تترقّب، لجأ عدد من المتخلّفين عن أداء الخدمة العسكرية إلى دفع الرشى علناً لضباط الحاجز كحلّ وحيد يضمن لهم العبور بسلام. دفع كل منهم نصف مليون ليرة سورية، ما يعادل حوالي 35 دولاراً أمريكياً، وهو مبلغ زهيد مقارنة بخطر التوقيف. فقد سُجّلَت عدّة حالات اعتقال تعسفية بحق سوريين عائدين من لبنان في الفترة الماضية دون أي مذكرات قضائية، آخرها ما وثّقته الشبكة السورية لحقوق الإنسان  في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، لرجلٍ ثلاثينيّ أوقفته شعبة المخابرات العسكرية التابعة للنظام السوري، لدى عودته من لبنان إلى محافظة إدلب.

تحرّكت الحافلة مجدّداً باتجاه مدينة حمص وتوقّفت عند حاجز الرستن التابع للنظام السوري. يخبرنا أبو محمد أن جميع الإجراءات على حواجز النظام كانت متشابهة، من تفتيش الركاب والباصات ودفع الرشى للضباط  لتسيير الأمور والسماح لهم بالذهاب سريعاً. هكذا عبروا حاجز خان شيخون بريف إدلب الجنوبي ثم حاجز خان طومان أو ما يُسمّى (إيكاردة) وصولاً إلى منطقة الراموسة بحلب، وبعدها ظهر الحاجز الأخير للنظام في منطقة التايهة، والذي يتبع للفرقة الرابعة والأمن العسكري معاً، ويتّصل بمناطق “قوات سوريا الديمقراطية” (الكردية). من هناك سوف يجتازون معبر “عون الدادات” فيدخلون إلى مناطق سيطرة المعارضة ويصلون بعدها إلى إدلب.

استغرقت الرحلة من لبنان يوماً وليلة، لكن أبو محمد وصفها بأنها أطول رحلة في حياته. يقول: “مشقة السفر وحدها كانت كافية، فما بالك حين يرافقها الخوف من القصف ومن الاعتقال”، ثم تساءل: “ما هو شعور الأطفال الذين لا يفهمون تماماً ما يحدث؟ يشاركوننا المتاعب وينتظرون وعود الأمهات بأنهم سيصلون سريعاً وأن كل شيء سيكون على ما يرام”.

فضلاً عن متاعب الطريق كان على ركاب الحافلات المتجهة إلى الشمال السوري دفع 350 دولاراً للسائق مقابل نقلهم في القافلة، وهو مبلغ ثابت للشخص الواحد. أما بالنسبة للأطفال دون سن العاشرة، فقد سُمح لعوائلهم بدفع أجرة راكب واحد لكلّ ثلاثة أطفال. مع ذلك، أدرك أبو محمد أن وضعه أفضل بكثير من الشبان الهاربين من الخدمة العسكرية، فقد أنفق هؤلاء أضعاف المبلغ للعبور من مناطق النظام إلى الشمال السوري، واضطروا بعدها لسلك طرق أكثر خطورة ومشقّة.

بوّابة الشمال السوري

في اليوم الأوّل من تشرين الأول (أكتوبر) وصلت القافلة إلى معبر “عون الدادات” شمالي سوريا. يتّخذ المعبر اسم القرية التي يوجد فيها، ويمثّل نقطة الدخول الوحيدة للمدنيين القادمين من مختلف المناطق السورية إلى القرى والبلدات الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا، وله بوابتان؛ واحدة تسيطر عليها القوات الكردية (قسد) والثانية بيد الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني.

عبرت الحافلة البوابة الأولى، فانضم أبو محمد إلى حوالي 1700 شخص كانوا ينتظرون السماح لهم بعبور البوابة الثانية. لكن الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني، منعتهم من المرور بحجة الأوضاع الأمنية في المنطقة، وهو ما شكل صدمة للأهالي الذين وجدوا أنفسهم عالقين في المنتصف، ليس بمقدورهم العودة للوراء ولا التقدم للأمام.

المرصد السوري لحقوق الإنسان كشف عن حجم الاستغلال الذي تعرّض له العائدون من لبنان على يد أبناء عشائر يعملون في التهريب ويسيطرون على هذه المنطقة الواقعة بين بوّابتي المعبر. هؤلاء يفرضون سطوتهم بقوة السلاح، يهدّدون العائدين بالضرب والإهانة ويأخذون منهم الإتاوات.

يستعيد أبو محمد بمرارة الليالي الثلاث التي أمضاها هناك متحدّثاً عن المعاملة اللاإنسانية التي تعرض لها، قائلاً “خروجنا المفاجئ من لبنان تحت وقع القصف العنيف وتركنا منازلنا وأعمالنا التي بنيناها على مدار 12 عاماً سبب لنا صدمة ما زالت تسيطر علينا حتى اللحظة… لكن الصدمة الأكبر كانت عند معبر عون الدادات”.

احتُجزت عشرات العائلات منذ وصولها في مكان أشبه بالوادي. “لم تُقدّم لنا أي مساعدات إنسانية أو غذائية، ولم تُسرّع الإجراءات التي كان يفترض أن تيسّر دخولنا نحو المناطق الآمنة في الشمال السوري”.

في المكان المعزول كان الليل بارداً بشكل لا يُطاق. النساء اللواتي كنَّ محظوظات بما يكفي لأن لديهن أطفالاً صغاراً حصلن على بطانية صغيرة من فرق الإنقاذ لكنها لم تكن تفي بالغرض. بالكاد كانت ترد شيئاً من برودة الليالي الثلاث التي أمضاها الأهالي في العراء دون مأوى أو أبسط مقومات الحياة، يقول أبو محمد، ويضيف: “كل ليلة كانت تمرّ أشد قسوة من سابقتها، كنا نتجمع حول بعضنا بحثاً عن الدفء”.

كانت أموال الناس على وشك النفاذ بعد إنفاقهم مبالغ كبيرة على أجور النقل والاتاوات. ومن بين العائلات القابعة هناك، أُسعِفت سبع حالات إلى المشافي والمراكز الصحية القريبة؛ واحدة لرجل أصيب بأزمة قلبية، والبقية لنساء وأطفال وأصحاب أمراض مزمنة، نقلتهم فرق الدفاع المدني بسرعة إلى مستشفى جرابلس.

بالليرة التركية

يعرف أبو محمد أساليب العصابات المسيطرة بين البوابتين وعلاقاتها المتداخلة مع عناصر الجيش الوطني، ونشاطات التهريب التي تقوم بها، لكن “الأمر زاد عن حده هذه المرة” حسب وصفه، من ناحية سوء المعاملة التي تعرض لها، والشتم والنعت بألفاظ سيئة، وصولاً إلى الضرب في بعض الأحيان.

ووفق شهود عيان، لم يقتصر الأمر على دفع الإتاوات وسوء المعاملة، بل وجدوا أنفسهم عرضة للاستغلال عبر مضاعفة أسعار المواد الغذائية وعبوات المياه والعصائر والأطعمة الجافة التي تُباع في الدكان الصغير الوحيد الموجود عند المعبر. وكذلك عبر تصريف العملة بطرق غير عادلة، إذ يجري التعامل هنا بالليرة التركية، ويتم استبدال كل دولار بـ 26 ليرة تركية بدلاً من 35 وهو السعر الرسمي. هذه الممارسات زادت من الأعباء المالية على العائلات التي كانت أصلاً مرهقة بالتكاليف الكثيرة وساعات الانتظار الطويل.

لحسن حظ أبو محمد، لم يكن من بين أولئك الذين تعرضوا للاستغلال في تصريف العملة، فقد كان على دراية بأسعار الصرف، بخلاف الكثير من العائدين الذين أمضوا أكثر من عقد في لبنان. بينما كان يشاهد استغلال الآخرين، حاول أن ينصح أصدقاءه ومن حوله بعدم تصريف مبلغ كبير، مكتفياً بالمساعدة قدر استطاعته، بينما كان الجميع ينتظر قراراً يسمح لهم بالعبور.

طريق الذل

راجي الأحمد (اسم مستعار)، صاحب شركة نقل في إدلب، لا يستطيع إخفاء حزنه عندما يتحدث عن رحلة السوريين العائدين إلى بلادهم. بنبرةٍ غاضبة، يصف الطريق بأنه “ذل بذل”، مشيراً إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في الشمال، والتي تسيطر عليها فصائل متعددة.

يروي من خلال تجربته اليومية في رحلات النقل، كيف أن “العائلات الفارة من لبنان لم تجني في عودتها سوى المزيد من الذل والاستغلال”، ويتابع “على المعابر البرية، تنتظرهم الأتاوات المفروضة من المتحكمين، دون أي اعتبار للظروف التي أجبرتهم على العودة، حتى وإن كانت هذه المناطق غير آمنة ومعرضة للقصف في أي لحظة”.

في إحدى رحلاته الأخيرة، سمع الأحمد شهادات من عائلات كاملة، بينها أطفال، أمضت أياماً تحت الشمس الحارقة نهاراً، وفي البرد القارس ليلاً، دون طعام أو ماء، أو حتى وسائل تواصل مع أقاربهم لعدم السماح لهم باستخدام الإنترنت.

ومع ازدياد أعداد القادمين، تتضاعف المعاناة، ويصبح الوضع أكثر تعقيداً، خصوصاً عند معبر “عون الدادات” مع التشديد الذي يفرضه الجيش الوطني التابع لتركيا على العائلات. يُضيف الأحمد “الناس لا تملك القدرة على دفع تكاليف التهريب التي تصل إلى 650 دولاراً للشخص الواحد“، لافتاً إلى أن الطرق غير الرسمية محفوفة بالمخاطر ولا تحتملها العائلات، لهذا اختارت عائلات أخرى البقاء في مناطق النظام رغم خطر الاعتقال، خوفاً من المخاطرة وخوض تجربة التهريب.

مناشدات

في اليوم الرابع من وصولهم، بدأ الأهالي العالقين في المعبر وعددهم نحو 1700 شخصاً معظمهم من الأطفال والنساء، باقتحام حواجز الشرطة العسكرية التي تعرقل دخولهم بحجة التدقيق الأمني واستخراج البطاقات الشخصية والتأكد من عدم انتمائهم لحزب الله اللبناني. شجّعهم على ذلك توافد مئات من المتظاهرين الذين طالبوا الجيش الوطني بالسماح لأقاربهم بالدخول، ما أجبر الشرطة العسكرية على فتح المعبر شريطة ترك هوياتهم الشخصية لإجراء تحقيقٍ أمني لاحق.

بدأت عملية إدخال العائدين، لكن ببطء شديد، إذ لم يسمح إلا بدخول شخصين أو ثلاثة في كل ساعة. احتشد الناس وسط الهتافات، محاولين الضغط على الجيش الوطني لتسريع فتح المعبر. “العودة إلى الوطن باتت تحتاج لمناشدات العالم بأسره”، يقول أبو محمد.

طُلب من الأشخاص الانطلاق نحو المركز سيراً على الأقدام مسافة كيلومتر. مشقة السير بدت أصعب من قبل، قوافل النازحين تكمل مسيرها على الأقدام، حاملين ما تبقى من أمتعتهم التي نجت من الحرب لكنها أصبحت الآن عبئاً ثقيلاً على ظهورهم. كثير منهم لم يتحمل العبء وقرر التخلي عنها أو عن جزءٍ منها.

تغريبة سورية

يعيش في لبنان حوالي مليون ونصف المليون لاجئ سوري، 90 % منهم في حالة من الفقر المدقع، وتعد منطقة البقاع أعلى كثافة باللاجئين السوريين حسب تقديرات مفوضية اللاجئين في لبنان.

أبو رامي، البالغ من العمر 47 عاماً، لجأ إلى الجنوب اللبناني في عام 2012، هارباً من القصف والمعارك التي اجتاحت بلدته بريف إدلب الجنوبي. جاء برفقة والدته وزوجته وأطفاله الأربعة وأخته آمنة التي تكبره بعشرة أعوام. إصابتها بمرض السرطان جعلته يحرص على ذهابها معه علّها تجد العلاج في لبنان. لكن زيادة التصعيد العسكري واندلاع الحرب على الجنوب قريباً من مكان سكنه جعله عاجزاً عن توفير العلاج لها، ما اضطره إلى التنقل بين عدة مناطق في لبنان دون جدوى، فكانت العودة العكسية باتجاه سوريا خياره الوحيد.

تركت عائلة أبو رامي وراءها كل شيء. والدته العاجزة عن الحركة بقيت عند شقيقه في بيروت. حملت العائلة فقط أوراقها الثبوتية وانطلقت في رحلة شاقة نحو مدينة إدلب، رحلة وصفها أبو رامي بأنها أشبه بالجحيم. مع كل خطوة كان يسعى جاهداً لتأمين تكاليف النقل، خاصة أنه مسؤول عن عائلته وأخته وأجور الحافلات وسيارات الأجرة كانت مضاعفة.

دفع أبو رامي مبلغ 2450 دولاراً، تكاليف نقل عائلته المؤلفة من سبعة أفراد. 350 دولار عن كل شخص، هو وزوجته وأخته وأولاده الأربعة الذين تجاوزوا جميعاً العشر سنوات، ما جعلهم يُعاملون معاملة الكبار في حسابات النقل. جمع المال من معارفه واصدقائه في لبنان استعداداً للهروب بأقل الخسائر. يتذكر بمرارة تلك اللحظات الصعبة التي عاشتها أخته المريضة وأولاده خلال الطريق، يقول: “لا أعرف كيف صبرت، كان الله معها”.

عند وصولهم، انتهى المطاف بعائلة أبو رامي في مخيمات سكنية بمدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي، حيث يقضون كل ليلة في مكان مختلف عند أقاربهم بعدما دمّر النظام منزلهم خلال الحملات العسكرية على مناطق جبل الزاوية بريف إدلب في 2018. حاله يشبه حال الكثير من العائلات العائدة من لبنان، بعضها ما زال عالقاً على الطرقات بدون أي تدخل من السلطات لتخفيف معاناتهم.

وفق أحدث إحصائية صادرة عن فريق “منسقو استجابة سوريا”، قدّر عدد السوريين العائدين من لبنان إلى مناطق الشمال السوري بأكثر من ألفي لاجئ، توزعوا على إدلب وأرياف حلب. وبذلك يرتفع العدد الإجمالي للعائدين إلى الشمال منذ بداية العام الحالي وحتى السادس من تشرين أول (أكتوبر) إلى 4355 شخصاً. ومن المتوقع أن يستمر توافد المزيد من السوريين خلال الأيام المقبلة.

أبو محمد وصل هو الآخر إلى مخيمٍ في مدينة إدلب حيث يعيش أقاربه، منهكاً ومفلساً بعدما أنفق كل ما يملك من مال خلال رحلته الطويلة. يستعيد ذكرياته عن تلك الرحلة قائلاً: “كأننا نعيش مشهداً في مسلسل التغريبة الفلسطينية، لكن هذه المرة هي تغريبة سورية“. إنها مشهد من قصة مستمرة لأكثر من عقد تتوالى فيها موجات النزوح والتهجير مع كل أزمة، وتتمزّق فيها الخرائط بحيث يصعب على السوريين معرفة أسماء الجهات المسيطرة فيها، لكنهم مجبرون على التعامل معها في كلّ خطوة.

تنشر هذه القصة الصحفية بالاشتراك مع موقع khatt 30