البحث عن قبول في واحدة من المدارس التركية، ضمن شروط تحرم الطلاب السوريين غير المسجلين في الولاية ذاتها ووفق مزاجية تمنح لإداريي هذه المدارس حق الرفض، دون القدرة على مراجعتهم أو تقديم شكوى بحقهم، يحرم آلاف الأطفال من مقاعد الدراسة، ويتركهم أمام خيارات لم تجد نفعاً، ما يخلق جيلاً من المتسربين دراسياً والمحرومين من حقهم في التعلم.
فشل عبد الرحمن حريري، والد طفل سوري مقيم في اسطنبول التي وصلها من ولاية هاتاي بعد زلزال شباط 2023، في تسجيل طفله ضمن مقاعد الدراسة للعام الثاني على التوالي، حاله مثل حال آلاف السوريين من حاملي “بطاقة الحماية المؤقتة” (الكمليك) في تركيا، والذين يشتكون من عدم قدرتهم على تسجيل أبنائهم في المدارس بسبب عناوين منازلهم غير المقيّدة في دائرة النفوس التركية.
يقول حريري إنه وقبل بداية الفصل الدراسي الأول الذي حددته وزارة التربية والتعليم التركية في 9 أيلول من العام الجاري، طرق أبواب جميع المدارس القريبة من محل إقامته الجديد، في منطقة فوزي تشاكماك بحي إسنلر في إسطنبول، لكن طلبه قوبل بالرفض في كل مرة، والحجة كانت دائماً أن “قيده مسجل في ولاية هاتاي التركية”.
في كل مرة يصل فيها حريري إلى إحدى المدارس كان الموظف يطلب منه “الكمليك” الخاص به وبابنه، وفاتورة اشتراك بالماء أو الكهرباء باسمه للتأكد من عنوان السكن، لكنه لم يكن يملك فاتورة باسمه في إسطنبول بسبب وجود قيده في ولاية هاتاي، ما يدفع الموظف لرفض طلبه. وجود حريري في إسطنبول شرعي بموجب إذن سفر وعقد إيجار كان يقدمهما لإداريي المدارس التي راجعها، لكنهم “لا يلتفتون لهذه الأوراق، يرفضون النظر إليها ويطلبون منك البحث عن مدرسة تقبل بتسجيل طفلك”، على حد قوله.
الابتعاد عن المدارس القريبة من مكان سكنك كسوري يمنح إداريي المدارس التركية حجة أخرى لرفض طلبك، يقول حريري إنه وعند مراجعته لمدرسة في حي بغجلار رفض الموظف تسجيل ابنه، وطلب منه البحث عن مدرسة بالقرب من عنوان سكنه، وهكذا “كل مدرسة ترسلني إلى أخرى، دون فائدة، كانوا يتقاذفوني وابني مثل الكرة”.
كان حريري يسابق الزمن للبحث عن مدرسة توافق على تسجيل ابنه قبل انتهاء الموعد المحدد، لكنه فشل للأسف، وبقي ابنه خارج المدارس للعام الثاني على التوالي.
ليست المشكلة فردية، إذ يوضح تقرير صادر عن وزارة التعليم التركية أن عدد الطلاب السوريين للعام الدراسي 2024-2025 يصل إلى مليون و30 ألف طالب، 65% فقط منهم يتلقون تعليمًا مدرسيًا، نحو 730 ألف طالب، في حين يوجد أكثر من 400 ألف طفل خارج إطار التعليم المدرسي، وفق ما نقله موقع “ترك برس“.
أسباب عديدة تحول دون قدرة الأطفال السوريين على إكمال تعليمهم، يقول من تحدثنا معهم من ذوي الطلاب إن “قرار الحكومة التركية بوجوب تثبيت العنوان للاجئين السوريين تحت وضع الحماية المؤقتة والبالغ عددهم وفق بيانات “رابطة اللاجئين” حتى نهاية آب الماضي، 3 ملايين و96 ألف و157 شخصًا، معظمهم في ولاية إسطنبول، التي يقطن فيها 529 ألفًا و944 سوري”، وتشديد الحكومة التركية على تنفيذ القرار وإجراء حملات على المنازل للتأكد من وجودهم في عناوينهم المسجلة، ومن لم يكن موجودًا خلال زيارة الشرطة، يتفاجأ لاحقًا بوجود الكود (V 160)، ويطبق هذا الرمز بحق الأجنبي في حال عدم تحديثه عنوان سكنه عند تغييره، يعدّ العامل الأهم في حرمان الطلاب السوريين من حقهم في التعلم”.
فاقم مشكلة تثبيت العناوين، نزوح سوريين من الولايات التي ضربها الزلزال جنوبي تركيا في شباط 2023، وانتقالهم إلى ولايات أخرى، زوّدت إدارة الهجرة النازحين بإذن سفر يجدد كل ثلاثة أشهر ويُسمح بموجبه للنازحين بالإقامة في الولايات الجديدة، لكن إداريي المدارس رفضوا هذه الوثائق، وشدّدوا على تطبيق القرار التركي الذي يجبر السوريين على تسجيل أولادهم في مدارس تتبع لمكان إقامتهم، تسبب ذلك بتسرب آلاف الطلاب أو البحث عن بدائل أقلّ سوءً لكنها لا تفي بالغرض.
البحث عن موظف بمزاج جيد، واحد من الحلول التي تُمكّن سوريّ في تركيا من ضمان مقعد لطفله في المدرسة، يقول حريري إن صديقه واجه مشكلته ذاتها في العام الماضي، إذ لم يقبل مدير المدرسة تسجيل طفله بسبب “عنوان السكن”، لكن محاولته في العام الحالي تكللت بالنجاح، يقول “تغيّر مدير المدرسة، المدير الجديد كان متعاونا جداً في العام الحالي”، مشيرًا إلى أن هناك مزاجية لدى الموظفين في تركيا، إذ تختلف القرارات وطريقة التعامل من موظف لآخر.
طرق أبواب المدارس الخاصة كان خياراً آخر لجأ إليه سوريون حرم أطفالهم من التعليم، تقول ياسمين درة، والدة طفلة بعمر الدراسة تقيم في إسطنبول، “بعد جدال طويل مع زوجي وافق على تسجيل ابنتي في مدرسة خاصة، فبدأت التواصل مع المدارس للاستفسار عن تكاليف التسجيل”.
صُدمت ياسمين التي تقيم في حي بيرم باشا بإسطنبول، بالأسعار التي طلبتها المدارس الخاصة، والتي تتراوح بين 3500 إلى 5000 دولار (120-170 ألف ليرة تركية)، للعام الدراسي، دون أن يشمل هذا السعر الطعام والمواصلات. الصدمة التالية التي تلقتها ياسمين، أن بعض تلك المدارس لم تقبل أيضًا تسجيل ابنتها لأن قيدها في ولاية أخرى، بينما وافقت عدة مدارس على تسجيلها.
حين تواصلت ياسمين مع مدرسة الأوائل الدولية التي يقع مقرها في بغجلار بإسطنبول، أخبرها الموظف أنه لا مانع من تسجيل ابنتها، لكنه كان صريحًا معها، حيث أخبرها أن الوثيقة التي ستحصل عليها ابنتها بعد إنهاء العام الدراسي، لن يتم الاعتراف بها عند عودتها إلى ولاية هاتاي التي كانت تقيم فيها مع عائلتها قبل الزلزال، حيث لن تقبل التربية التركية حينها معادلة الوثيقة لأنها صدرت عن ولاية لا تتطابق مع قيد “الكمليك” الخاص بهم.
تقول ياسمين “ما الفائدة أن ندفع كل هذا المبلغ الكبير للتسجيل في مدرسة خاصة، وفي النهاية لن نستفيد من الوثيقة عند العودة لولايتنا، لذلك قررت تسجيل ابنتي ضمن دورة تدريبية، أون لاين، عبر تطبيق زووم، بمبلغ رمزي قدره ألف ليرة تركية فقط شهريًا. بعد شهر من تسجيل ياسمين لابنتها ضمن كورس تعليمي عبر تطبيق زووم، قررت التخلي عن هذا الخيار، إذ لم تبد طفلتها تفاعلًا جيدًا، ولم تكن تركز جيدًا مع المعلم، كما أنها أحيانًا كانت توهم مدرسها أنها تتابع الدرس، وتقوم بتشغيل لعبة عبر الهاتف أو مشاهدة التلفاز، على حد قولها.
اتفقت ياسمين مع أربع من صديقاتها اللواتي فشلن كذلك في تسجيل أطفالهن في المدارس التركية، على أن يسجلوا في دورة خاصة لدى معلمة، مقابل 2500 ليرة تركية شهريًا لكل طالب. تضيف ياسمين، “تجربة التعليم المباشر كانت أفضل بكثير من التعليم عن بعد، أصبحت طفلتي أكثر تحمسًا للتعلم، كما أن المعلمة تقوم بتدريسهم كل المواد، وتستعمل معهم أسلوب التعلم باللعب لتشجيعهم على التركيز وفهم المعلومة ببساطة”.
الجمعيات التعليمية التي تستقبل الطلاب السوريين مجاناً أو بأسعار رمزية كانت حلّاً وجد فيه ذوو طلاب ملاذاً لإنقاذ أطفالهم من الأمية والتسرب الدراسي، لكنهم صدموا برفض قسم من هذه الجمعيات تسجيل أطفالهم للحجة ذاتها، كذلك ضعف المناهج التعليمية في هذه الجمعيات.
تقول رولا لقموش (28 سنة) لاجئة سورية في ولاية بورصة، إنها لجأت لتسجيل طفلها في واحدة من الجمعيات بعد رفض المدارس التركية استقباله، وإنه “رغم سلبيات نظام التعليم في تلك الجمعيات لكنها قررت تسجيل ابنها، على مبدأ الرمد أحسن من العمى”. تضيف رولا التي سجّلت ابنها في جمعية الأمل الواقعة ضمن منطقتها، “التعليم يقتصر على اللغة العربية والقرآن الكريم، ولا تعلّم فيها اللغة التركية أو الرياضيات أو باقي المواد التدريسية، كما أن الدوام فيها يقتصر على يومي السبت والأحد فقط، وبالتالي سينقطع الطلاب عن التعليم بقية أيام الأسبوع”.
أسعف الحظ رولا بقبول تسجيل ابنها في جمعية الأمل، بخلاف كثر من ذوي الطلاب الذين رفضت جمعيات تسجيل أبنائهم، إذ اشترطت أن يكون الطلاب مسجلين ضمن المدارس الحكومية التركية.
ابراهيم الحسن، مدير جمعية الحياة في إسطنبول، برّر سبب رفض تسجيل الطلاب في الجمعيات بقوله “تسجيل الطلاب ضمن الجمعية ممن لم يلتحقوا بالمدارس الحكومية، قد يعرضنا للمساءلة من قبل وزارة التربية التركية، بحجة أننا نساهم في تسرب الطلاب السوريين من مدارس الدولة”. وأضاف الحسن، أن هدف الجمعية ليس استقبال الطلاب الذين لم يُقبلوا في المدارس الحكومية، بل تقوية مستوى الطالب في اللغة العربية، كون مدارس الدولة تدرّس اللغة التركية فقط، لذلك تقوم الجمعية بدور مساعد للمدارس الحكومية وليس بديلًا عنها، حيث أن الدوام يقتصر فقط على يومي السبت والأحد.
ما يزال مئات آلاف الطلاب السوريين في تركيا خارج مقاعد الدراسة، أو في أحسن الأحوال يقتصر تعليمهم على ما يقدمه الأبوين أو جمعيات تعليمية دون شهادات أو آمال بإكمال تحصيلهم العلمي، والحجة ورقة تثبت مكان إقامتك أو مزاج موظف وقرارات حكومية لا تجبر المدارس على قبول الطلاب ولا تمنح الجمعيات والمنظمات حقاً في مساعدتهم بصورة تضمن مستقبلهم.