افتتحت معاصر الزيتون في مدينة أعزاز أبوابها هذا العام قبل موعدها المعتاد استجابةً لرغبة مزارعين فضّلوا قطاف ثمارهم اليوم والحصول على كمية أقل من الزيت، على أن ينتظروا أسابيع أخرى فيفقدوا كامل محصولهم.
يقول المزارع سالم السعيد: “زادت السرقات التي طاولت حقولنا أخيراً، وأخشى على لقمة أطفالي من أن تذهب إلى جيوب اللصوص”. يمتلك سالم بستاناً على طريق بلدة سجو شمالي أعزاز فيه أكثر من مائة شجرة زيتون، لكن موسمه لم ينجُ كاملاً، فأكثر من عشرين منها تعرضت للسرقة فضلاً عن عشرات أخرى في بساتين جيرانه.
عندما قابلناه، كان السعيد يستعد للذهاب إلى المعصرة، ينقل في سيارته بضعة أكياس من الزيتون بوجه عابس تارةً ومبتسمٍ مرة أخرى. يقول كما لو أنه حقق انتصاراً لنجاته بجزء من المحصول، “نعم، سأحصل على كمية أقل من الزيت، لكن من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته”.
في أحواض المعصرة راحت حبات الزيتون تتدحرج عند إفراغ العمال للأكياس. كانت عينا المزارع تتفحصها بينما كان ذهنه شارداً في مكان آخر. يقول معبراً عما يجول في خاطره بعد صمت طويل “في السابق كان الحوض يفيض بالزيت، وكانت المعصرة تكتظ بمزارعين يشاركونني فرحة تدفق الزيت”.
موعد القطاف
يمتلك عادل كنو واحدة من أكبر معاصر الزيتون في مدينة أعزاز شمالي حلب يعرفها الأهالي باسم معصرة “حاج فاضل”، بدأت عملها منذ سنة 1960، أي أنها شهدت أكثر من ستين موسماً لعصر الزيتون. يقول إن موسم القطاف يبدأ عادة من أواخر شهر تشرين الأول إلى منتصف تشرين الثاني، بحسب التغيرات المناخية وموعد هطول الأمطار التي تلعب دوراً في إعلان بدء القطاف.
وبحسب محمد عنيزان، وهو مهندس زراعي خبير بمجال إنتاج زيت الزيتون، فإن صنف الزيتون يلعب دوره أيضاً في تحديد الوقت المناسب للقطاف، فتلون الثمار يختلف من صنف لآخر، كذلك المنطقة وطبيعة التربة.
بحسب المشاهدات التي رصدها بعد عدة زيارات ميدانية، يقدر عنيزان الموعد الأنسب للقطاف هذا العام بين 25 تشرين الأول الحالي وحتى الأول من تشرين الثاني القادم، لأن الثمرة تكون قد وصلت لمرحلة النمو النهائية وكذلك تكون نسبة الزيت قد وصلت لأقصى مرحلة، مؤكداً أن اختيار موعد جني المحصول مهم جداً.
القطاف المبكر ليس وليد اللحظة ، يعلق كنو على كلام المهندس الزراعي، ففي السنوات الأخيرة وبسبب ازدياد حوادث السرقة، ومع بدء تشكل حبات الزيتون، يتسلل القلق إلى المزارعين وخاصة أولئك الذين تبعد أراضيهم عن مكان سكنهم، فتحرم عيونهم من النوم خوفاً على أرزاقهم، فتنشط جولاتهم التفقدية ومع ذلك لا يستطيعون حماية جميع المحصول، ولحماية جزء منه يلجؤون للقطاف قبل الموعد الموصى به.
لمثل هذه الحالات لجأ كنو وأصحاب معاصر آخرين في المدينة لافتتاحها في وقت مبكر، فالمعاصر التي كانت تفتح أبوابها في منتصف تشرين الأول بدأت تدور هذا العام منذ مطلع أيلول استجابةً للظروف الجديدة التي فرضتها حالات السرقة المتزايدة.
جودة أقل.. كمية أقل
يشير عادل كنو بإصبعه إلى أكياس الزيتون المتراصة أمام معصرته ويطلق عبارات الأسف لحال المزارعين الذين قرروا تكبّد جزءاً من الخسارة على أن يفقدوا كامل محاصيلهم فيرد عليه أحد المزارعين المتواجدين في المعصرة: “معلش يا حاج.. الرمد أحسن من العمى”.
يشرح تأثير قطاف الزيتون قبل أوانه قائلاً: “عندما يُقطف في شهر أيلول ويُخزن في أكياس الخيش، ترتفع حرارة الثمار داخل الأكياس وبالتالي ترتفع نسبة الحموضة (الأسيد) في الزيت”، مؤكداً أن الزيت الذي ينتج بهذه الطريقة غالباً ما يكون منخفض الجودة.
ولدى أصحاب المعاصر تصنيفان أساسيان للزيت الصالح للاستهلاك بحسب درجة حموضته ، يعرف الأول بالنوع البكر الممتاز، والثاني بالبكر العادي، وهناك صنف ثالث يسمى الوقاد وهو غير مناسب للاستهلاك. ويشير مصطلح “حموضة الزيت” إلى كمية الأحماض الدهنية الحرة ولا علاقة مباشرة له بالنكهة، بحسب المجلس الدولي للزيتون (IOC).
غير أن تأثير القطاف المبكر للزيتون لا يقتصر على جودة الزيت فحسب. يقول كنو “حتى في حال عدم إبقاء الزيتون في الأكياس ستتأثر كمية الزيت عند عصر الزيتون غير الناضج، إذ يمكن الحصول على نحو 20 إلى 26 كيلوغرام من الزيت من كل 100 كيلوغرام من الثمار الناضجة، أما الزيتون غير الناضج، فلا يعطي سوى 12 إلى 18 كيلوغرام”.
وتنتج شجرة الزيتون الواحدة حسب حجمها بين ثلاثين إلى خمسين كيلوغراماً من الزيتون أو مايعادل 7 إلى 12 كيلو غراماً من الزيت، حسب قوله، ويقدر سعر الكيلوغرام الواحد من الزيت وسطياً بــ خمسة دولارات ما يعني خسارة ما لا يقل عن 35 دولاراً أمريكياً للشجرة الواحدة.
وتتوزع في مدينة أعزاز سبع معاصر للزيتون بحسب عادل كنو، الذي يشير إلى أن ستة من كبار المزارعين الذين يمتلكون مساحات واسعة من البساتين في المنطقة قصدوا معصرته لعصر المحصول خلال شهر أيلول الفائت، كذلك لجأ آخرون إلى بقية المعاصر.
أضرار بعيدة المدى
في إحدى جولاته التفقدية وجد أبو أحمد 17 شجرة زيتون في بستانه الكائن على أطراف مدينة أعزاز مكسورة الأغصان بعد تجريدها من الثمار ما يدل على أنها كسرت بغرض سرقة الزيتون. كانت الأوراق ذابلة لكنها مصفرّة قليلاً، وكأن السرقة حديثة، بحسب تقديره.
ضرب الشجرة قبل سرقتها قد يعني كارثة مضاعفة لأصحابها بحسب المهندسة الزراعية راما كرطة التي تشرح أن ضرب الأشجار بهدف انتزاع الثمار يؤدي إلى تلف الأغصان والبراعم الجديدة التي كان من المفترض أن تحمل الثمار في الموسم القادم، “هذه الأضرار تقلل من إنتاجية الشجرة لسنوات طويلة وتزيد من احتمالية تعرضها للأمراض والحشرات”، وتشير إلى أن خسارة محصول موسم واحد قد تكون كارثية، لكن المشكلة الحقيقية تكمن بخسارة الأغصان التي تؤذي الشجرة نفسها.
الظروف المعيشية السيئة والارتفاع الكبير في أسعار زيت الزيتون عالمياً قبل عامين بفعل عوامل مختلفة -إذ يتراوح سعر تنكة الزيت (16 كيلوغرام) بين سبعين إلى مائة دولار- زاد من وتيرة السرقات في المنطقة في ظل غياب سلطة محلية فعالة.
ويعتقد مزارعون أن تركيا تتدخل بتحديد سعر زيت الزيتون في الشمال السوري وخاصةً بعد أن افتتحت الشركة السورية التركية لإنتاج الزيت في مدينة جنديرس، وغالب الظن أنها تتبع للحكومة التركية بحسب مزارعين التقيناهم، أخبرونا أن الشركة عرضت عليهم شراء تنكة الزيت بسعر 75 دولار أمريكي، في حين يتوقع عنيزان أنه ومع وفرة حمل الزيتون هذا العام يجب أن لا تتجاوز الأسعار 70 دولاراً، حسب تقديره.
يقول المزارع نادر العبود، من ريف أعزاز “يلجأ بعض الناس إلى سرقة أغصان الأشجار من أجل التدفئة في الشتاء بينما يعمد آخرون إلى سرقة الثمار من أجل بيعها وجني الأموال في ظل ضعف الرقابة الفعّالة من قبل الجهات المسيطرة من مجلس محلي وشرطة وفصائل عسكرية”، ويؤكّد العبود أن الأمر لم يعد مرتبطاً بالظروف الاقتصادية الصعبة عند بعض الناس، وإنما تعداه ليصبح عملاً ممتهناً في وقت يجد مزارعون أنفسهم عاجزين عن حماية أراضيهم، حتى مع تعيين حراس لها.
سرقة ضد مجهول
عيّن العبود ناطوراً لحماية أرضه من السرقة مقابل 100 دولار شهرياً، لكنه لم يتوقع أن يسبب له هذا الأمر المزيد من المشكلات عوضاً عن حماية رزقه. فعندما حاول الناطور قبل أسابيع التصدي لمجموعة نساء كنّ يسرقن الزيتون، نشب شجار بينهم انتهى بإصابة الحارس بضربة على رأسه من قبل مجموعة رجال كانوا يوصلون النساء إلى الأراضي الزراعية بهدف السرقة وينتظروهنّ على دراجاتهم النارية عند أطراف الطرقات. “انتهى الأمر باحتجاز الحارس في السجن لمدة أسبوعين، وترتب على القصة إجراءات قانونية ومصاريف محامين وخسائر مالية كبيرة”، يقول عبود بأسف.
مصدر مسؤول في الشرطة المدنية نفى أن تكون نسبة السرقات كبيرة، مستنداً إلى عدد الشكاوى القليل الذي سجل هذا العام، مؤكداً أن معظمها تسجل ضد مجهول في حال تعذر التعرف على السارقين. وتعتمد الشرطة المدنية في حال تقدم المزارع بشكوى لمعرفة الجناة على أساليب مختلفة منها قيود الكاميرات والشهود، وهو ما يندر في مثل هذه الحالات، إذ قلما يلجأ أصحاب البساتين إلى نصب كاميرات خوفاً من تعرضها للسرقة.
يؤكد أحد المزارعين (فضّل عدم ذكر اسمه) أن الوضع في أعزاز يختلف عن مناطق ريف حلب الشرقي وعفرين، فمعظم أصحاب الأراضي لم يغادروا المنطقة ويقومون بتحصيل حقوقهم بأيديهم دون اللجوء للسلطات، فهم من أهل المنطقة الأصليين وليسوا وافدين ويعرف كل منهم حدود جيرانه ومن السهل كشف الورشات الغريبة وإبلاغ صاحب الأرض فور دخولهم الحقل، ومع ذلك يستغل السارقون أشجاراً على أطراف الطرقات لسهولة الهرب في حال كشف أمرهم.
وفقاً للمحامي إبراهيم محمد الحومد، تُعامل سرقة الزيتون في سوريا مثل بقية جرائم السرقة، وتتفاوت العقوبات بناءً على قيمة الغرض المسروق وطريقة ارتكاب الجريمة، وفي بعض الحالات، يمكن أن يتم تخفيف العقوبة إذا أثبت الجاني اضطراره للسرقة بسبب الظروف المعيشية القاسية.
لكن حتى في حال إصدار أحكام قضائية، يقول عبود، يجد مزارعون أن تطبيق القانون ليس بالسهولة المتوقعة في ظل الفوضى الأمنية القائمة، لذلك، وفي بعض الحالات يتم حل النزاع بالصلح بين السارق وصاحب الأرض مع تعويض الأضرار.
في منطقة أعزاز يقدر عدد الأشجار بنحو مليون ونصف المليون شجرة، حسب إحصائية عام 2014- 2015 وتختلف كمية الإنتاج من عام لآخر، بسبب أعوام الجفاف التي أصابت المنطقة في السنوات الخمس الأخيرة والتي أثرت على الحمل، كذلك بسبب المعاومة التي تعني أن الغصن الذي يحمل هذا العام لن يحمل في العام اللاحق، وفقاً لمحمود فاضل، عضو المكتب الزراعي التابع للمجلس المحلي بمدينة إعزاز.
أغلب أصناف الزيتون المزروعة في أعزاز بحسب المهندس الزراعي محمد عنيزان هي: الزيتي، الصوراني بنسبة قليلة، خلخالي، دعيبلي، الخضيري. وأجود هذه الأصناف هو الصوراني، لأن نسبة الزيت فيه عالية ويصلح للمائدة أيضاً، وله أسماء مختلفة منها المعري، وينتشر في مناطق إدلب بشكل أكبر.
ويخضع صنف آخر يسمى الأربكانا للتجربة، وفقاً لعنيزان الذي يتلقى أسئلة من مزارعين عنه، وهو صنف إسباني دخل إلى الشمال السوري منذ ثلاث سنوات وما زال في طور التجربة، يمتاز بأنه ذو كميةٍ إنتاجية عالية جداً من الزيت ولكنه يحتاج لكميات كبيرة من الماء، وهذه عقبة تقف في وجه المزارعين كون المنطقة تشكو من شح كبير في المياه.
أما أهم مكونات وجبة الإفطار في المنطقة وهو العطون (الزيتون الأسود) فيتمنى مزارعون ألا يؤثر القطاف المبكر عليه لأن نضوجه يتطلب البقاء لفترة أطول على الشجرة حتى يتحول لونه إلى الأسود ويصبح ناضجاً تماماً، فهو من أنواع مؤونة الشتاء الهامّة في المطبخ السوري.
بعد قطفه لثمار الزيتون وعصرها، يتأمل سالم السعيد عبوات الزيت المركونة في المطبخ، يتلذذ بمذاق زيت الزيتون على سفرة الإفطار، وعلى الرغم من أنه كان سيحصل على كمية أكثر من الزيت لو أنه لم يعجل بالقطاف، إلا أنه يشعر بالرضا لهذه الكمية، فقليل من الزيت أفضل من لاشيء، حسب تعبيره.