تتحضر المدارس العامة شمال غربي سوريا وتستعد معها أسر لاستقبال العام الدراسي الجديد بتجهيزات تثقل كاهلهم، بعد أن أضيفت طباعة كتب مدرسية إلى الالتزامات التي يجب على رب الأسرة توفيرها ليضمن لأطفاله دراسة ومتابعة سليمة.
لم تفرّط والدة رهف، طالبة في الصف السادس، بكتب العام الفائت على أمل أن تبيعها لتشتري كتباً مستعملةً أيضاً لرهف أو أن تستبدلها مع طالبة أخرى تحتفظ بكتبها للسبب ذاته، فتوفر على نفسها ثمن طباعة نسخة كتب جديدة، الأمر نفسه تتّبعه مع بناتها الثلاث الأخريات.
والدة رهف واحدة من أمهات أخريات تحاولن التحايل على عدم توفر الكتب المدرسية في المدارس أو نقصها لسدّ حاجة أطفالهنّ تفادياً لتقصيرهم بأداء الواجبات المدرسية من حفظ وحل التمارين وكتابة الدروس وغيرها.
محاولة جارتها الحصول على نسخة كتب لابنها طالب الصف السابع أفلحت لأنها كانت “ضربة استباقية” حسب وصفها، فمع انتهاء العام الدراسي السنة الماضية طلبت نسخة كتب أحد أقاربها، لأنها لم تستطع طباعة كتب لابنها العام الفائت فأمضى السنة الدراسية يدرس من نسخة الـ pdf عبر جوال والدته.
تسعى والدة رهف لأن تبقي أطفالها خارج إحصائيات الأطفال المتسربين، فأكثر من 386 ألف طفل شمال غربي سوريا و 84 ألف طفل داخل المخيمات تسربوا عن التعليم لأسباب مختلفة منها عدم قدرة الأهل على تأمين مستلزمات الطفل التعليمية بحسب تقرير لـ فريق منسقو استجابة سوريا صدر في التاسع من أيلول الجاري الذي يوافق اليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات.
ياسر العثمان، عامل تمديدات صحية، وهو أب لخمسة طلاب في المدرسة أكبرهم في الصف التاسع من مرحلة التعليم الأساسي، لم يستطع تأمين كتب لأطفاله بسبب ضيق الأحوال المادية يقول: “أمضى أبنائي العام الدراسي الفائت يعتمدون في قراءة دروسهم على صور الدروس التي يرسلها المعلمون إلى مجموعة الواتس آب الخاصة بكل شعبة صفية للمدرسة”.
يتراوح سعر نسخة الكتب الواحدة بين 200 إلى 450 ليرة تركية، حسب عدد الكتب والصفحات لكل طالب، يقول العثمان الذي يقدّر تكلفة طباعة الكتب لأطفاله الخمسة بنحو 1700 ليرة تركية (50 دولار)، وهو ما يعادل أكثر من نصف ما يتقاضاه من عمله شهرياً مؤكداً أنه عاجز عن دفع هذا المبلغ لا سيما أنه سيحتاج أيضاً لتأمين حقائب مدرسية وقرطاسية ولباس وأحذية وغيرها من التحضيرات.
يلعب مكان طباعة الكتب دوراً في تفاوت سعر النسخة الواحدة، إذ يلجأ أهالٍ لطباعة الكتب المدرسية في المكتبات التي تبيع القرطاسية وتعتمد في طباعتها على آلة طباعة صغيرة تغلف الكتب بغلاف كرتوني يكتب عليه اسم المادة، وقد يكون فيها السعر أعلى قليلاً من السعر في المطابع المختصة التي تطبع كتباً بأعداد كبيرة.
يقول صاحب مكتبة النجمة في مدينة سلقين شمالي غرب سوريا إن سعر طباعة الصفحة الواحدة يتراوح بين 0,34 إلى 0,51 ليرة تركية (0.010 و 0.015 دولار)، فالتكلفة الوسطية لطباعة كتاب العلوم للصف السادس المؤلف من 200 صفحة أي 100 ورقة هو 40 ليرة تركية (1,2 دولار). وهو السعر ذاته في مطبعة حديثة مخصصة لطباعة الكتب (فضل صاحبها عدم ذكر الاسم).
يؤكد صاحب مكتبة النجمة أن سوق الطباعة يشهد إقبالاً كبيراً بداية العام الدراسي الحالي سواءً من قبل الأهالي أو من قبل منظمات تتعاقد مع مطبعة ما بعد نشر مناقصة وحصولهم على عروض أسعار، وتلعب المنافسة في السوق دوراً كبيراً في ضبط الأسعار وحدّ الأرباح لذلك قلّ ما تتجاوز الأسعار الحدّ المذكور، مفسراً سبب إقبال أهالٍ على الطباعة بأنهم فضلوا عدم تكرار تجربة العام الماضي بجعل العام الدراسي يمر على أمل تأمين المدرسة للكتب.
هبة، هي الأخرى طالبة في الصف السابع الإعدادي اضطرت لشراء نسخة كتب من إحدى الطالبات اللواتي نجحن في الصف الثامن بـ 150 ليرة تركية نحو (4,5 دولار)، أقل من نصف سعر النسخة الجديدة.
تقول هبة إنها الطالبة الثالثة التي تتوارث تلك النسخة، بعد زميلتها التي اشترتها من طالبة أخرى مبررة اعتمادها على نسخة قديمة بأن والدها لا يملك القدرة المادية لشراء نسخ جديدة لها ولإخوتها.
تشعر هبة بالسعادة رغم تلف بعض الأوراق نتيجة الاستعمال المتكرر إلا أنها لا تشعر بالنقص الذي تشعر به طالبات لم يستطعن شراء كتب، تقول: ” أشعر بالحرَج عنهنّ عندما يُجبَرن على تبرير تقصيرهن بحفظ الدروس في الصف بعدم امتلاكهن للكتب، فوالدي يقتطع من أجرة عمله على حساب مصاريف البيت لتأمين الكتب، ولولا ظروفهنّ المادية الصعبة لما بقينَ دون كتب”.
قلّ ما تتوفر نسخة كاملة من الكتب المدرسية الجديدة بحوزة طلاب في المدارس العامة، وقد يكون طلاب الحلقة الأولى أسوأ حظاً من غيرهم لأنها مرحلة تأسيسية بامتياز، فدفتر التلميذ الذي أُلحِقَ بالمناهج الحديثة لن تتحقق الفائدة القصوى منه إلا إذا كان جديداً أو غير مستعمل، حتى يستطيع الطفل حلّ التمارين والواجبات على صفحاته، بحسب معلمين التقيناهم.
وحدة تنسيق الدعم في تقريرها الصادر تحت مسمى الإصدار التاسع قدمت تقييماً للمدارس في سوريا للعام الدراسي 2023- 2024، عرضت فيه رؤى حول المشهد التعليمي في المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام السوري.
تشير الدراسة إلى أن إجمالي الطلب على الكتب في المدارس التي شملها التقييم وصل لأكثر من 677 ألف كتاب، وفي مدارس إدلب المشمولة بالتقييم بلغ عدد الكتب المطلوبة 247.72 ألف نسخة أما الكتب المتوفرة فإن 80% منها مستخدمة سابقاً.
أثناء محاولتها مساعدة إخوتها بفهم الواجبات المدرسية تمسك هبة ممحاة تمحو كل تمرين محلول في كتب إخوتها لكنها لا تستطيع حلّ المشكلة فبعض التمارين تكون فيها الإجابة مكتوبة بأقلام الحبر ولايمكن محوها، كما يحاول إخوتها أحياناً طباعة الحل السابق إذا شعروا بصعوبة الإجابة ما يحدّ من جدوى التمرين بحثّ العقل على التفكير.
تعجز مديرية التربية في إدلب عن تغطية معظم المدارس بكتب مدرسية جديدة تتناسب مع عدد الطلاب، يرافق هذا العجز مطالبات من مدرسي المواد للطلاب بتأمين كتب لضمان سير العملية التدريسية دون منغصات، زاد من الضغوط توقف معظم المنظمات عن دعم طباعة كتب مدرسية وتوزيعها على الطلاب بعد انتهاء مذكرات التفاهم مع الجهات المانحة، التي كانت تقدم الكتب خلال السنوات السابقة.
تستقبل المدارس التابعة لحكومة الإنقاذ 599 ألف طالب وطالبة في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، بحسب مدير مديرية التربية والتعليم أحمد الحسن، يقول الحسن لفوكس حلب: “إن تكلفة طباعة الكتب ضخمة جداً، كانت بعض المنظمات المعنية بالتعليم تساهم في طباعة الكتب أما الآن وبعد نقص دعم المنظمات حالت التكلفة الكبيرة دون قدرتنا على تغطية نفقات الطباعة، وتحاول المديرية التنسيق مع بعض المنظمات لطباعة وتوزيع كتب بالتشارك معهم”.
تتنوع المدارس شمال غربي سوريا بين عامة وخاصة وشرعية، جميع طلاب المدارس الخاصة ومعظم طلاب المدارس العامة يشترون كتباً على حسابهم الخاص باستثناء بعض المدارس التي ما تزال مدعومة من قبل الجمعيات أو المنظمات، في حين تتكفل الإدارة في المدارس الشرعية بتسليم الكتب للطلاب على حسابها الخاص بشرط تسليمها نهاية العام الدراسي، لتوزيعها على طلاب جدد في العام التالي.
مديرية تربية إدلب أوضحت لفوكس حلب أن 12% فقط من المدارس وزعت فيها كتب جديدة العام الفائت، وهذا العام يجري التنسيق مع منظمات لطباعة كتب لتغطية ما تيسر من نسبة الاحتياج المتزايد.
مديرة مدرسة العبقري الخاصة في مدينة الدانا شمالي إدلب، الآنسة ميادة تقول إن المدرسة تطبع الكتب المدرسية في مطابع خاصة وتضيف إليها شعار المدرسة بعد تزويد التربية للمدرسة بنسخة المنهاج المقررة، وتبيعها لطلاب المدرسة بسعر التكلفة، وتتراوح قيمة النسخة الواحدة بين 170 إلى 500 ليرة تركية (5 إلى 15 دولاراً)، وفي بعض الحالات الخاصة تمنح المدرسة نسخاً مجانية لتلاميذ لا قدرة لهم على شرائها”.
الاختلاف في سعر نسخة الكتب يكون بحسب عددها في كل مرحلة دراسية، في الحلقة الأولى من التعليم الأساسي(من الصف الأول وحتى الرابع) يكون عدد الكتب بين عدد 4 إلى 6، أما في الحلقة الثانية (من الصف الخامس وحتى التاسع) فيتراوح بين 8 إلى 10 كتب، ويصل عدد الكتب في المرحلة الثانوية من 10 إلى 14 كتاباً.
ليست الأسباب المادية وحدها من تجعل طلاباً يلجؤون للطباعة أو لاستعمال كتب قديمة، فتأخر وصول كتب جديدة من المديرية لأسابيع من بدء العام الدراسي، وقد تطول لأشهر، وعدم تناسب عدد الطلاب مع عدد النسخ التي يتم طباعتها سنوياً يجبر طلاباً على التأقلم والقبول بالكتب المتوفرة لبعض المواد لمتابعة دروسهم اليومية.
فريق وحدة تنسيق الدعم أوضح في تقريره السابق أن الجزء الأكبر من نسخ الكتب المدرسية، يتم توزيعها بعد عدة أشهر من بداية العام الدراسي في الوقت الذي تؤكد فيه معايير الشبكة المشتركة لوكالات التعليم في حالات الطوارئ على توفير الكتب المدرسية في بداية العام الدراسي، مشيرة إلى أنه “يجب توفير مواد التعليم والتعلم بشكل كافٍ وشراؤها محلياً بطريقة مناسبة وفي الوقت المحدد”. وأنه يجب تأمين نسخ كافية من الكتب المدرسية في بداية العام الدراسي وتوزيعها على الطلاب فور حضورهم المدرسة.
يختلف تعامل المدرسين مع مشكلة نقص الكتب في الصف الواحد من خلال مجموعة استراتيجيات، يقول الأستاذ محمد السلوم، معلم صف في مدرسة بمخيم الفتح في بلدة باريشا شمال غربي إدلب، إنه يكتب الدروس على السبورة ثم يتابعها مع الطلاب، فأكثر من ثلث الطلاب لا يملكون كتباً وقسم من كتب البقية فيها أوراق تالفة.
يقول السلوم ” هذا الحل يأخذ من الوقت المخصص للحصة الدرسية، إلا أنه الحل الوحيد أمامي، كما أقوم بتصوير الدروس بعد الانتهاء من إعطائها وأرسلها إلى غرفة دردشة تجمع الطلاب ليتم متابعتها من قبل أهاليهم”.
مجموعة من الاستراتيجيات الأخرى يجريها معلمون لمواجهة نقص الكتب المدرسية أو تلفها، بحسب دراسة فريق وحدة تنسيق الدعم، ومنها اشتراك عدد من الطلاب على نسخة واحدة، وتمثل هذه الحالة ما يعادل نسبة 45% من المدرسين الذين شملتهم عينة البحث، بالإضافة إلى ذلك يلجأ مدرسون بشكل متكرر إلى كتابة محتوى الدرس بالكامل على السبورة، ونسبتهم 41%، إضافة إلى استعارة نسخ كتب من صفوف أخرى وتمثل 13% من نسبة المعلمين الذين شملتهم الدراسة.
تأمين الكتب المدرسية يتصدر قائمة الاحتياجات التعليميّة هذا العام، إذ يكفي وجوده بيد الطالب تحت إشراف المعلم إلى استمرار العمليّة التعليميّة وتحقيق الفائدة العلميّة المرجوة، إضافة إلى الأثر النفسي الإيجابي الذي يشعر به المتعلم وخاصة الطفل عند امتلاكه لكتبه الخاصة وأدائه لواجباته المنزلية بحسب من قابلناهم من مدرسين وأهالي.
وبحسب الأستاذ محمد بكر وهو مشرف تعليمي على المدارس في مخيم الهدى شمالي مدينة الدانا، فإن مشكلة نقص الكتب أو إعادة تدويرها على الطلاب من جديد يفرض آثاراً سلبية وقيوداً على الفوائد التعليمية، ويضعف فاعلية العملية التعليمية، فمعظم الطلاب الذين تعاملوا مع هذه الكتب سابقاً لا سيما طلاب الحلقة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي أتمّوا حل التمارين والأنشطة الموجودة فيها، ما يجعل الطلاب الجدد يعتمدون على الحل القديم الذي قد يكون خاطئاً أحياناً.
يقول محمد بكر “تقديم كتب مدورة لطلاب المرحلة الابتدائية خطأ كبير للغاية ويجب تداركه لوجود أمور كارثية فصفحات بعض الكتب تالفة أو مفقودة مما يزيد من تعقيد استخدامها وضعف قيمتها التعليمية”.
يقرّ مدير التربية والتعليم في إدلب، أحمد الحسن، بعجز المديرية عن تأمين الكتب المدرسية لأسباب مختلفة منها زيادة عدد الطلاب وعدم توفر كتلة مالية كافية وعدم تغطية مشاريع المنظمات لطباعة الكتب المدرسية، ويؤكد أن المديرية تسعى لتنظيم اتفاقيات أو مذكرات تفاهم مع جهات مانحة لتقديم الكتب المدرسية لجميع الطلاب هذا العام.
“بارقة أمل” وهي منظمة محلية، رأت أن الحل لسد جزء من الاحتياج قد يكون بمخاطبة المجتمع المحلي، فأطلقت حملة تبرعات مخصصة لطباعة كتب لطلاب الحلقة الأولى بدأت بمدارس مدينة إدلب، لتكون بحسب القائمين على المبادرة عوناً لأسر في ظل وضع اقتصادي صعب يدفع بالعديد منهم لتفضيل إطعام الأسرة على التعليم.
اعتمدت المبادرة استراتيجية سد احتياج المدارس واحدةً تلوَ أخرى، ولايوجد عدد محدد للوقوف عنده فكلما تنتهي من تزويد مدرسة تنتقل لأخرى حسب المساهمات بحسب مديرة مكتب المشاريع سوسن السعيد. تقول السعيد إن المبادرة لاقت تجاوباً جيداً، واستطاعت حالياً طباعة 1700 نسخة ويتم العمل لتأمين نسخ لـ 600 طالب في مدرسة جديدة.
تأمل السعيد أن لا تقف المساهمات عند حد تأمين الحلقة الأولى، وفي حال حققت الهدف ستسعى لسد احتياج المراحل الدراسية كافة، لكن الأمر متوقف عند حد الاستجابة المجتمعية لدعم هذه المبادرة.
في الوقت الذي يساهم فيه أهالٍ بدعم المبادرة يشعر آخرون بالأسف لأنه واجب حكوميّ يتم التملصّ منه بحجج وتبريرات غير مقنعة حسب رأيهم، خاصة أن مديرية التربية والتعليم رغم هذا التقصير لا تعفي الأهالي حتى من الاشتراك المدرسي.