بين الحياة والموت وصل الشاب عبد الرحمن حبوش، 27 عاماً، إلى قسم العناية المركزة في مستشفى المجد بمدينة إدلب منتصف شهر آب الفائت نتيجة تعب بعضلة القلب، ولا سبيل للمحافظة على حياته سوى بتركيب جهاز لتنظيم ضربات القلب يعرفه العامة باسم (بطارية قلب) قيمته مع التحاليل 4200 دولاراً.
لم يكن عبد الرحمن، المهجر من مدينة كفرزيتا بريف حماة الشمالي إلى مخيمات أطمة شمالي سوريا، يشكو من أي أعراض قبل يومين من تاريخ وصوله للمستشفى، حين تعرض لنوبة قلبية أثناء قيادته للدراجة النارية، بحسب أحد أقاربه، أسعف إثرها إلى مستشفى العيسى في مدينة الدانا شمالي إدلب حيث أجريت له قثطرة قلبية أظهرت حاجة ملحة لتركيب الجهاز.
لتأمين جهاز تنظيم ضربات القلب حاول الكادر الطبي في مستشفى أطمة التواصل مع مستشفى الزراعة بمدينة إدلب، وهو المستشفى الوحيد الذي يوفر الخدمة مجاناً شمالي غرب سوريا، فكان الرد بأن وفداً من أطباء الجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز) سيحضر من الولايات المتحدة الأمريكية منتصف شهر أيلول الحالي لتقديم أجهزة تنظيم ضربات قلب لمحتاجين مسجلين على قائمة الدور في مستشفى الزراعة، لكن وضع عبد الرحمن لم يتحمل الانتظار حتى ذلك الوقت، ففي مساء اليوم نفسه ساءت حالته فأسعف من جديد إلى مستشفى أطمة الذي قرر ضرورة تركيب الجهاز بأسرع وقت، فكانت الوجهة إلى مستشفى المجد الخاص في مدينة إدلب.
تحمل عبدالرحمن المسؤولية باكراً بعد وفاة والده منذ كان طفلاً، فكان عليه إعالة والدته، ثم تحمل أعباء الأسرة بعد زواجه في ظروف مادية صعبة خاصة مع قلة فرص العمل، يعتقد الحاج أحمد أبو محمد، عم الشاب، أن هموم الحياة كانت سبباً بما حدث معه، وحين تعرض لهذه الأزمة القلبية لم يكن يملك من ثمن البطارية ليرة واحدة، يقول: “كانت حياة عبد الرحمن مرهونة بتأمين المبلغ الذي لا طاقة له به، ما دفعنا نحن أقاربه، لجمع تبرعات على الفور وصلت لنصف المبلغ تقريباً، أما النصف الآخر فقد جمعه ناشطون من متبرعين بعد بث حالته على منصات التواصل الاجتماعي”.
على قائمة الانتظار في مستشفى الزراعة في مدينة إدلب، ينتظر عشرة مرضى وصول بعثة الأطباء لإجراء عمليات تركيب أجهزة تنظيم ضربات القلب بدعم من منظمة سامز التي تتكفل بكافة خدمات المستشفى مجاناً بما في ذلك ثمن الأجهزة والتحاليل الطبية التي تسبق عملية التركيب ثم برمجة الأجهزة كل فترة.
مريم السعيد، 75 عامًا، من مدينة إدلب، واحدة من المرضى في قائمة الانتظار، حصلت على دورها بعد مراجعتها للمستشفى نتيجة ظهور آلام مفاجئة في الصدر مصحوبة بضيق نفس وبطء شديد بنبضات القلب، ما دفع أبناؤها لإسعافها على الفور إلى مستشفى الزراعة، حيث خضعت لعملية قثطرة قلبية كشفت عن ضعف في عضلة قلبها.
عُلا تامر، طبيبة القلب المشرفة على حالة مريم في المستشفى، أخضعت المريضة لاختبار جهد لتقييم حالتها القلبية بدقة، ثم أجرت الفحوصات اللازمة، بما في ذلك تخطيط القلب قبل وبعد بذل الجهد، ما أظهر حاجة مريم لمتابعة دقيقة وربما تدخل طبي عاجل يحدد حسب تطورات حالتها.
كان أمام مريم خياران، إما إجراء العملية فوراً في مستشفى الشفاء بمدينة عفرين شمالي حلب، أو انتظار وصول بعثة الأطباء لإجرائها في مستشفى الزراعة في إدلب حيث تقيم. فضلت مريم الانتظار لإجراء العملية في إدلب، لأن ذلك سيوفر عليها مشقة السفر وتكاليف الإقامة هناك حتى إتمام العملية.
مستشفيان فقط شمال غربي سوريا تتوفر فيهما خدمة تركيب أجهزة تنظيم ضربات القلب بشكل مجاني، هما مستشفى الزراعة في مدينة إدلب، ومستشفى الشفاء في مدينة عفرين شمالي حلب، وهما مستشفيان مدعومان من منظمة سامز (SAMS) التي تعرف عن نفسها بأنها منظمة إغاثة طبية عالمية لمهنيين طبيين من أصل سوري تعمل على الخطوط الأمامية لإغاثة الأزمات في سوريا وخارجها لإنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة.
يجهل كثير من المرضى توفر الخدمة التي لا يزيد عمرها عن أربعة أشهر، ففي 22 من شهر أيار الماضي دخل جهاز البرمجة حيز العمل في مستشفى الزراعة، وبحسب معاوية آغا، إعلامي منظمة سامز، فقد راجع المستشفى منذ تفعيل الخدمة وحتى شهر آب، 153 مريض قلب لبرمجة أجهزة القلب الخاصة بكل مريض، كما تم خلال هذه الفترة تركيب خمسة أجهزة في مستشفى الشفاء بمدينة عفرين شمالي حلب، بعضها محولة من مستشفى الزراعة عبر نظام الإحالة بين مستشفيات منظمة سامز.
بناءً على حالة المرضى الصحية ومدى الحاجة الطارئة للجهاز يتم تحديد الدور، ويكون ذلك بعد تقييم الحالة وإرسال الملف الطبي لأطباء الجمعية الطبية السورية الأمريكية، وتعطى الأولوية للمرضى الأكثر حاجة، بحسب الدكتورة علا.
قبل توفر الخدمة كان المرضى يضطرون لتركيب البطاريات في مستشفيات خاصة منها مستشفى دوا في مدينة إعزاز شمالي حلب ومستشفى المجد ومركز نبض في مدينة إدلب، بتكاليف يعتبرها أهالي مرضى باهظة الثمن مقابل مستوى دخل الفرد في منطقة بلغت فيها نسبة القابعين تحت خط الفقر 91,18 % بحسب فريق منسقو استجابة سوريا.
في المستشفيات الخاصة شمالي سوريا يتراوح ثمن الجهاز بين ثلاثة إلى أربعة آلاف دولاراً بحسب نوعه. أما في تركيا فيقل ثمنه إلى النصف تقريباً، لذا حاول ذوو عبد الرحمن حبوش، الذي أجرى العملية أخيراً في مستشفى المجد، قبل إجراء العملية، الدخول إلى تركيا إذ لا تزيد التكلفة عن 2000 دولار، لكنهم لم يحصلوا على الموافقة من المعبر.
مدرس الرياضيات منذر محمد عمير، 45 عاماً، أجرى عملية تركيب جهاز تنظيم ضربات القلب في تركيا في الشهر الأخير من العام الفائت، صادف توفر الخدمة مجاناً في مستشفى الزراعة الوقت الذي حدد له لبرمجة الجهاز بعد ستة أشهر من العملية، ما وفر عليه مبلغ 150دولاراً كان يحاول تأمينها للبرمجة أو المعايرة، عدا المصاريف الأخرى.
“والمعايرة مصطلح عاميّ يستعمله المرضى، أما علمياً فتعني برمجة جهاز تنظيم ضربات القلب، أي إعطاء تعليمات أو خوارزميات لضبط كل حالة يتعرض لها المريض” تقول الدكتورة علا. ويتوفر في الشمال السوري أنواع مختلفة من البرمجيات programmers (الأجهزة التي تبرمج البطاريات) وفي مستشفى الزراعة يتوفر نوعان لشركتي Boston Scientific و Medtronic، تسعى إدارة المستشفى لتوفير أنواع أخرى حتى يتم تخديم أكبر شريحة من المرضى بحسب الدكتورة علا.
ابتسامة منذر لم تغادر وجهه حين علم أنه لن يضطر للسفر إلى تركيا لبرمجة الجهاز ليس من أجل ثمن المعايرة فحسب، إنما لأنه سيتعامل مع أطباء يتكلمون اللغة ذاتها، يقول: “فرق كبير بين التعامل مع أناس من بلدي، يحملون الوجع نفسه ويتكلمون اللغة ذاتها، وبين آخرين نشعر بالغربة بينهم في وقت يكون فيه المريض بوضع نفسي وجسدي قاسيين”.
تنظم الأجهزة ضربات القلب وتضمن استمرار عمله بشكل طبيعي، خاصة لدى المرضى الذين يشكون من أعراض خطيرة مثل بطء نبضات القلب أو عدم انتظامها، وحرصاً على سلامة المريض يجب أن تخضع للبرمجة بشكل دوري ففي حال تلفها، قد تكون حياة المريض بخطر، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة.
نفاد عمر الجهاز قد يعرض المريض لغياب عن الوعي أو بطء شديد في ضربات القلب أو حتى توقف القلب في حال كان الاعتماد عليه تاماً، أما إن كان الجهاز من نوع الصادم الكهربائي التي توفر الصدم المناسب بالوقت المناسب، وكان فيها خلل ما، فمن الممكن أن يتعرض المريض لنوبة تسرع قلب مهددة للحياة، بحسب الدكتورة علا، تقول شارحةً عمل أنواع أخرى: “بعض أنواع الأجهزة عملها تنظيمي (مزامنة انقباض) بين البطين الأيمن والأيسر لتحسين أداء عضلة القلب، فإذا كان فيه خلل ما قد يحصل قصور قلب شديد ونقص كفاءة عضلة القلب وبالتالي أعراض تعب وضيق نفس واحتباس سوائل بالجسم”.
تراقب السيدة مريم عقارب الساعة منتظرةً وصول بعثة الأطباء، تأمل أن تستعيد قوتها وأن تلتقط أنفاسها دون تأنيب الضمير، فأولادها لن يقتطعوا ثمن الجهاز من قوت أطفالهم حتى يحافظوا على حياتها، كذلك المرضى الآخرون في القائمة ذاتها لن يضطروا لمناشدة الجانب التركي للموافقة على دخولهم لتلقي العلاج.