مع بزوغ فجر كل يوم خلال موسم التين في العام الحالي تنطلق الحاجة أم عدنان، 77 عاماً، حاملة بيدها قرطلاً من القصب يتجاوز عمره أربعة عقود، متجهة نحو حقلها المزروع بأشجار التين والزيتون، الذي يقع على كتف بلدتها أبديتا، إحدى قرى جبل الزاوية الصغيرة البعيدة مسافة خمسة كيلومترات عن نقاط تمركز النظام السوري.
تحت ظل شجرة تين كثيفة الأوراق تأخذ قسطاً من الراحة لالتقاط أنفاسها محاولةً استعادة ما تبقى من عزمها بعد سنوات طويلة أمضتها بين الجد والكد في مواجهة ما وصفته بالعمر العاثر. بعين خبيرة تتفحص أشجار التين متنقلة بين واحدة وأخرى، ترتسم على وجهها أثناء تقليب الأوراق وتحسس الأغصان ملامح القلق، تقول في نفسها “هذا الموسم لا يبشر بخير، يبدو أن الإنتاج لن يغطي النفقات، فحشرة حلزون التين غزت الحقل وأثرت على قسم كبير من الثمار”.
مطلع شهر آب الفائت بدأ قطاف ثمار التين التي تعرضت لآفة حشرية تعرف بين المزارعين باسم “حلزون التين”، وهي حشرة تشبه السلحفاة الصغيرة تتغذى على الثمار والأوراق والأغصان، ما تسبب بتضرر المحصول والقضاء على جزء كبير من الثمار ليس في جبل الزاوية فحسب، إنما بمزارع التين في محيط مدينة إدلب وقرى أريحا وجبل الزاوية ومناطق أخرى، فانخفض إنتاج الموسم إلى النصف تقريباً مقارنة بأعوام سابقة، وفقاً لمزارعين تحدثنا إليهم.
لم تنتبه الحاجة أم عدنان لإصابة الأشجار بهذه الحشرة قبل انتشارها، بسبب عدم قدرتها على زيارة حقلها خلال الشتاء كونها تسكن رفقة ابنها الوحيد في مخيم سكني للنازحين قرب مدينة سلقين غربي إدلب، حالها حال أهالي القرية الهاربين من قذائف قوات النظام السوري منذ خمسة أعوام. كالضيوف تزور السيدة المسنة البيت والقرية والحقل مثل عشرات السكان الذين يعيشون قرب خطوط التماس، ما حرمهم من الاعتناء بحقولهم ومكافحة الآفات الحشرية في الوقت المناسب لضمان القضاء عليها.
“لم يظهر الصقيع هذا الشتاء” تقول الحاجة أم عدنان، بعد تنهيدة طويلة مختومة بتأفف، وهي تجلس بجانب حقلها. “ما أعلمه أن الصقيع يقتل الحشرات، لكنه لم يأتِ هذا العام، وها نحن الآن نواجه مشكلة كبيرة” تفسر الحاجة أم عدنان، التي لم تتلقَ تعليماً أكاديمياً في الهندسة الزراعية، مدركةً بخبرتها سبب المشكلة، فالشتاء الدافئ غير المعتاد كان بمثابة دعوة مفتوحة لهذه الحشرات لتتكاثر و تغزو أشجار التين.
في مكان آخر من القرية، يقف المهندس الزراعي خالد الطويل بجانب إحدى الأشجار المتضررة، مستعرضاً تحليله العلمي للمشكلة. “الأمر ليس فقط بعدم ظهور الصقيع شتاء العام الماضي” يقول وهو يشير إلى الأوراق والثمار المليئة بالحشرات “هذا العام شهدنا زيادة في نسبة الأمطار والرطوبة، ولم يتوقع المزارعون هذا الانتشار السريع، فتأخروا برشّ المبيدات المناسبة”.
ما عرفته الحاجة أم عدنان بالخبرة، فسره الطويل علمياً، فبيّن تقلبات الطقس وتأخر الاستجابة وجدت أشجار التين نفسها تحت حصار الحشرات، ما أدى إلى خسائر كبيرة في المحصول بسبب انتشار حشرة الحلزون في الحقول وبُعد المزارعين عن حقولهم في قرى جبل الزاوية، وما ترتب عليه من تأخر العناية بأشجار التين عن الوقت المناسب و انخفاض جودة الثمار وكمية الإنتاج، كما أفقد التين قيمته الغذائية والتسويقية فألحق خسائر كبيرة بعدد من المزارعين.
مواسم أخرى طالتها الآفات الحشرية هذا العام مثل الكرز والمشمش واللوز، وساهم انسحاب فصل الشتاء باتجاه الربيع وطول فصل الصيف على حساب فصل الخريف بتأثر الزراعة، بحسب توضيح أنس رحمون، مهندس زراعي باحث في مجال المناخ والبيئة في مدينة إدلب. يذكر الرحمون كيف تسبب ارتفاع درجات الحرارة المبكر في شهر نيسان الفائت بإجهاد موسم القمح وانخفاض إنتاجه. كذلك تأثر موسم الكمون بالأمطار الغزيرة وتقلبات المناخ فألحق خسائر بالمحصول.
المهندس خالد الطويل يقول إن حلزون التين آفة سريعة الانتشار صعبة المكافحة، كونها تغطي نفسها بطبقة شمعية منذ بداية تشكلها، وبمجرد وضعها للغطاء فإنها لا تتأثر بالمبيدات الحشرية، فتضع عدداً كبيراً من البيوض قد تصل إلى 1500 بيضة أحياناً، وفي حال كانت البيوض مغطاة فإن ذلك يسمح بتكاثرها جميعا. لذا فإن مكافحتها يجب أن تسبق وضعها وإلا فإن التخلص منها يحتاج لفترة طويلة قد تمتد لنهاية الموسم مسببة خسائر كبيرة كما حصل مع أم عدنان و عشرات المزارعين في ريف إدلب.
يقول الطويل: “تمتص الحشرة عصارة النبات فتضعفه وبالتالي تنقص كمية الإنتاج في الشجرة الواحدة المصابة، ويتغير شكلها الخارجي ولونها للأخضر بدل أن يصفرّ عند النضوج، أما حجم الثمرة الواحدة فيصير أصغر من الحبة السليمة، ويميل مذاقها للحموضة. هذه الثمار المصابة لا تلقى رواجاً في السوق وبالتالي تباع بأسعارَ زهيدة”.
يمكن تفادي هذه الآفات الحشرية بمتابعة مبكرة قد تبدأ في أشهر الشتاء، مع استخدام المبيدات اللازمة بوقت مبكر، إضافة للعناية المستمرة عن طريق رش الأشجار بزيت شتوي يُخلط مع مبيد حشري، وكذلك باتباع المكافحة الميكانيكية من خلال حفّ الأغصان وتركها تتعرض لعوامل الطقس من حرّ وبرد، وفق شرح الطويل.
الحاجة أم عدنان تعرف الطريق إلى حقلها كما تعرف كف يدها، كانت تسير فيه كل صباح مع ابنها كما يفعل مزارعو القرية في رحلة العناية بأشجارهم التي كانت جزءاً من حياتهم اليومية. لكن هذا الروتين الدافئ (كما تصفه) تغير عندما أجبرها القصف المتكرر على النزوح من قريتها، تلك اللحظة لم تكن مجرد مغادرة لمنزلها، بل كانت بداية تخلٍ قسريّ عن رعاية الأشجار التي تشكل مصدر رزقها وتربطها بها علاقة تكاد تشبه علاقة الأم بأطفالها تقول “لم أكن أعتقد أن النزوح سيؤثر بهذا الشكل على المحصول، أيعقل أن تشعر أشجار التين بالفقد والحنين كما أشعر أنا” تتساءل مشبهةً تجاعيد يديها بجذع الشجرة التي تجلس تحتها مؤكدة أن القصف كان أشد من قدرتها على الاحتمال.
لم ينجُ من غزو الحشرات في حقل الحاجة المسنة سوى عدد قليل من الأشجار، ورغم نجاتها لم تكن كافية لتغطية تكاليف الإنتاج من سقاية وفلاحة وتقليم ومبيدات. تقول “ما حدث هذا العام كان ضربة كبيرة، لم أنتبه لخطورة الحشرة إلا بعد أن غزت الأشجار واستفحلت بالثمار. كل محاولاتي لمكافحتها هذا الموسم باءت بالفشل”.
في حاكورة أم أنس، وهي أرض ملحقة بالمنازل الريفية في قرية بسامس بجبل الزاوية، أصيبت غالبية أشجار التين بحشرة الحلزون، وحرمتها من تجفيف التين على سطح منزلها وتخزينه للشتاء، ومن تحضير مربى التين الذي اعتادت صنعه لها ولأحفادها كل عام. تقول” سأبيع الثمر المصاب لمربي المواشي بربع القيمة، ثم سأشتري تيناً أفضل لتحضير المؤونة المنزلية”.
في سوق التين المحلي بريف إدلب، كانت الحركة التجارية في العام الماضي تتسم بالوفرة والنشاط والحيوية، أما اليوم ومع اقتراب نهاية موسم التين بات المشهد مختلفاً، فقلة الكميات المطروحة في السوق مقابل زيادة الطلب على الفاكهة أثرت بشكل مباشر على أسعار التين الجيد. التاجر مرعي الأطرش، الذي اعتاد على شراء التين كل عام، يؤكد على أن انتشار الآفة الحشرية كان له أثر على عمليات البيع والشراء، يقول “الحشرة تسببت بركود واضح في السوق، فمع اقتراب نهاية الموسم، وجد التجار أنفسهم مترددين بشراء التين بالوتيرة المعتادة، ما أثر على عائدات المزارعين”.
زاد سعر التين الجيد هذا العام عن دولار واحد (35 ليرة تركية)، بينما تراوح سعر كيلو التين المجفف بين ثلاثة دولارات إلى ثلاثة ونصف الدولار، بناءً على جودة المحصول، بمعدل زيادة نصف دولار لكل كيلو غرام عن العام الماضي، لكن الأطرش يرجح ارتفاعاً في الأسعار خلال الفترة المقبلة مع استمرار قلة الكميات المتوفرة وارتفاع الطلب.
التين بالنسبة لأهالي قرى جبل الزاوية وريف إدلب الجنوبي ليس مجرد محصول، فهو جزءٌ من ذاكرتهم الجماعية خاصةً أنه صار ذاكرة بالفعل بعد أن شن النظام السوري حملته العسكرية الأخيرة عام 2019، ولم يترك لهم سوى الذكريات المُرّة بعد أن حرموا من الاهتمام بموسم كان يدرّ عليهم أرباحاً سنوية ليصبحوا منذ سنوات بمصدر رزق ضعيف نتيجة الإهمال الحاصل بسبب النزوح في القرى المتاخمة لحدود السيطرة.
بعد النزوح صار للتين نكهة غريبة لا يستسيغها الأهالي حتى وإن كان من النوعيات الجيدة، فالتين الطازج الذي كان فطور العائلات في فصل الصيف، والتين المجفف رفيق السهرات في الشتاء، لم يعد يحمل نفس الطعم ولم تعد السهرات بالبهجة نفسها “فأراضي جبل الزاوية المشهورة بأشجار التين والزيتون، كانت تنتج نوعيات لا تقارن بتلك الموجودة في مناطق النزوح” بحسب أبو عبد الله، نازح من بلدة معرة حرمة بريف إدلب الجنوبي، لم تسمح له ظروفه المادية بشراء التين هذا العام.
يقول إن بلدته التي سيطرت عليها قوات النظام قبل عدة أعوام، كانت تنتج أصنافاً متنوعة من التين، منها ما هو مفتوح الثمرة كـ تين الزهرة، ومنها ما هو مغلق بالكامل، وهو النوع المثالي لصنع القلائد التي قد يصل طولها إلى متر كامل. يعتبر أبو عبدالله هذا النوع من التين من أغلى الأصناف، ليس فقط لجودته العالية ولكن أيضاً لسهولة التعامل معه أثناء عملية التصنيع.
الطقس والتربة في ريف إدلب الجنوبي من العوامل الأساسية التي تسهم بجودة محصول التين بحسب أهالي المنطقة التي تنتج أصناف متنوعة تختلف مسمياتها من بلدة إلى أخرى، من هذه الأصناف: التين الخضراوي، السطاحي، العَمري، السوادي، والصفراوي، إضافة إلى العديد من الأصناف الأخرى التي تُعرف بمسمياتها الخاصة بكل قرية. هذه الأصناف تُظهر التنوع الواسع الذي تزخر به المنطقة، ما يجعلها واحدة من أهم مناطق زراعة التين في سوريا.
وشجرة التين من أهم الأشجار المثمرة التي يعتمد عليها أهالي إدلب، وتقدّر المساحة المزروعة بأشجار التين في إدلب بـ 3.8 ألف هكتاراً، وعدد الأشجار بنحو 882 ألف شجرة، متوسط إنتاجها 17.5 ألف طن، بحسب المجموعة الإحصائية، واليوم تغيب الأرقام الدقيقة التي تقيس حجم التراجع الذي شهده موسم التين شمالي غربي سوريا.
مع نهاية النهار وضبت الحاجة أم عدنان حاجياتها بعد جمعها ما تيسر لها من ثمار التين اليابسة والخضراء واستعدت للعودة إلى منزلها لتسارع فور وصولها إلى تجفيف ثمار التين تحت أشعة الشمس، على أمل أن تتحسن جودة الثمار في العام القادم، وأن تتخلص من الآفات التي أصابت الموسم اليوم وهي تدرك في قرارة نفسها أن طعم التين مثل حياتها، ربما لن يعود كما كان.