قبل أكثر من عام وفي آب 2023، نظّم نحّالون أمام وزارة الزراعة والري التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب وقفة احتجاجية ، بعد خسارتهم آلاف الخلايا لأسباب أرجعوها إلى استخدام مبيدات حشرية ضارة بالنحل في حقولهم.
مشهد النحل النافق والخلايا الفارغة أثار موجة من الغضب والمطالب، دفعت الوزارة حينها إلى اتخاذ إجراءات وإصدار تعميم برش المبيدات الزراعية في الفترة المسائية لتجنب تضرر النحل، وطالبت بإنشاء جمعية للنحّالين لمناقشة مشكلاتهم وتحقيق التوازن بين احتياجات المزارعين والنحّالين على حدّ سواء.
تفاقمت مشكلة النحّالين، رغم تأسيس جمعيتهم مطلع العام الحالي 2024، وزادت أعداد الخلايا والنحل الذي نفق، يتصدّر بخ المبيدات الحشرية الضارة بالنحل الأسباب التي يرجع إليها النحالون، في كل مرة، خسائرهم، ما دفع وزارة الزراعة لإصدار تعميم في 15 تموز الماضي يفيد بمنع بيع عشرة أنواع من المبيدات الحشرية حرصاً على الثروة النحلية، عارضه المزارعون الذين قللوا من أهمية هذا التأثير و أرجعوا تضرر النحل لأسباب أخرى، أهمها ارتفاع درجات الحرارة وضيق المراعي، وطالبوا في الوقت ذاته بوجود بدائل للمبيدات الحشرية المحظورة بأسعار مناسبة، خاصة وأن هذه المبيدات ضرورية لمحاصيلهم التي قد تتأثر بغيابها ما يعني خسارتهم.
التعميم الصادر عن الوزارة جاء نتيجة مطالبات من جمعية النحالين، بحسب رئيسها ياسر العبد الله، والذي قال إن “مطالب النحالة بحظر استخدام مبيدات ضارة بالنحل اصطدم بموجات معارضة ورفض من قبل المزارعين”، وإن القرار جاء بعد لقاءات ومشاورات متعاقبة جمعت ممثلين عن الجمعية ووزارة الزراعة إضافة لإتحاد الفلاحين.
وأضاف العبد الله “القرار أتى تلبية لرغبة 1297 نحالاً مسجلاً في الجمعية، إضافة لنحالين آخرين لم ينضموا للجمعية بعد”. وبيّن أن التوقف عن استخدام المبيدات الحشرية المذكورة، سيسهم في حماية، 55 ألف خلية نحل، تتوزع أنواعها بين الفني والبلدي المعروف (بالزمر). وبأن انتاج الشمال السوري من العسل لا يقل أهمية عن الإنتاج الزراعي، مع كميات وصلت في العام الماضي لنحو 970 طناً من العسل بدرجاته المختلفة”.
ويصف العبد الله العلاقة بين المزارعين ومربي النحل بـ “العلاقة التبادلية التشاركية”، لما للنحل من أهمية في تلقيح الزهرات التي يحط عليه لجني الرحيق، ما يسهم بزيادة إنتاجية المحصول ويعود بالفائدة على الفلاح بالتالي.
دفاع العقدة، يعمل في تربية النحل منذ 35 عاماً في ريف إدلب، أيّد ما جاء في التعميم الذي تأخر لسنوات، بحسب رأيه، إذ تعرض شخصياً، حاله حال مئات مربي النحل، لخسارات كبيرة كان آخرها مطلع شهر آب الماضي، بعد صدور التعميم، أفقدته عشرات الخلايا بفعل “بخ المبيدات الحشرية الضارة بالنحل خلال رعي نحله في بلدة تل عمار بقضاء سلقين”، ما دفعه لـ “الفرار” بما تبقى لديه من خلايا إلى “سهل الروج رغم عدم توفر المرعى المناسب”، يقول “هذا أفضل من فقدان نحلي بالكامل”.
وقدّر مرعي الزعتور، مربي نحل في بلدة كفرنوران بريف حلب الغربي، خسارته في العام الماضي بنحو 8 آلاف دولار، مرجعا السبب وقتها لرش موسم اليانسون في البلدة بمبيد حشري من النوع المديد قوي التأثير.
مصطفى الحمدون، مربي نحل من أبناء سهل الغاب بريف حماة، ويقطن اليوم في مخيم قسطون بالقرب من سرمدا، يقول إنه فقد 432 خلية نحل من أصل 500 خلية كان يملكها قبل 4 سنوات، مرجعاً السبب للمراعي التي رشت بالمبيدات الحشرية الضارة للنحل، وهو ما دفعه لنقل ما تبقى من خلاياه إلى بلدة كفرعويد في جبل الزاوية رغم قربها من خط الجبهة مع قوات النظام.
يقول من تحدثنا معهم من مربي نحل إن المزارعين لم يلتزموا بعد بالتعميم الصادر مؤكدين تكرار حالات موت النحل بحسب المبيدات الحشرية، لكن رئيس جمعية النحالة لا يحمل المسؤولية للفلاح، بل المسؤولية تقع على عاتق التاجر المستورد والصيدلي الذي يبيع للفلاحين مبيدات يعلم خطورتها على الإنسان و الثروة النحلية، على حد قوله، يشاركه الرأي نحّالة في المكان، إذ يقول الزعتور “لست ضد الفلاح فأنا ابن فلاح أيضاً، لكن يجب محاسبة التاجر المستورد، والصيدلي الذي يبيع الفلاحين مبيدات هو يعلم مدى خطورتها، على النحل والبشر كذلك، فقط ليجني الربح المادي”.
في الجهة المقابلة، يرى مزارعون وأصحاب صيدليات زراعية وأصحاب مستودعات أدوية زراعية أن التعميم جاء إرضاء لفئة قليلة من المربين على حساب التسبب بخسائر كبيرة طالت الشريحة الأكبر من سكان المنطقة الذين يعملون في الزراعة، معبرين عن عدم رضاهم عن فحوى القرار.
على باب سوق الهال في مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي، تحدثنا إلى فلاحين يحملون محاصيلهم لبيعها في السوق حول التعميم الصادر، معظم من التقيناهم عبروا عن استنكارهم للقرار الذي وصفوه بـ “غير المدروس”، مؤكدين أن ذلك سيفاقم من خساراتهم الموسمية.
يرى فلاحون تحدثنا معهم أن القرار جاء إرضاء للنحالة على حساب المزارع البسيط، يقولون إن حظر هذه المبيدات سيجبرهم على شراء مبيدات معينة وبأسعار مضاعفة أو يضطرهم لعدم رش المبيدات ما يزيد من أمراض النباتات. أكثر الردود التي حصلنا عليها كانت منتقدة للقرار بعبارات مثل “لسى لاحقين هالفلاح المعتر على بخ ولا تبخ”، “سكان إدلب بيعيشوا بلا عسل، بس أسبوع واحد ما بيعيشوا الناس بدون خضار”، أو طرق كف بكف والاكتفاء بـ “الحوقلة”، فعلى حد قولهم “الوزارة التي تصدر قراراً عليها أن تؤمن البدائل، في منطقتنا نكتفي بالقرارات وروحوا دبروا حالكم”.
أصحاب صيدليتين زراعيتين في الدانا وسرمدا عبرا عن رفضهما لما قاله النحالة من وجوب محاسبتهم على بيع المبيدات الحشرية بغرض الربح المادي فقط، يقولان إن الصيادلة يبيعون ما يتوفر في السوق من مبيدات يتم استيرادها ، باعتبارهم “منافذ للتصريف لا أكثر”، ويلقون بالمسؤولية على من سمح باستيرادها، وتساءلا عن مصير كميات المبيدات الحشرية من الأنواع المذكورة في تعميم المنع، من سيتحمل تكلفتها وكيف سيتم التعامل معها؟
رغم ذلك أيّد آخرون ممن تحدثنا معهم ممن يعملون في صيدليات زراعية القرار، رغم الخسائر المادية التي لحقت بهم، يقول محمد الحسن صاحب صيدلية زراعية في سرمدا “نقدم الإرشادات التوعوية اللازمة للفلاحين حول المبيدات قبل بيعها، نخبرهم عن طرق استخدامها وأضرارها، وننصحهم باستخدام المبيدات الحشرية، على سبيل المثال، بعد وقت المغرب، وهي فترة يكون النحل فيها ضمن خلاياه، ليختفي أثر المادة السمية مع ساعات الصباح الأولى أي قبل قدوم النحل”.
ويقول المهندس الزراعي أنس الرحمون إن القرار يدرأ مخاطر محتملة على صحة الإنسان والبيئة والنحل في آن معاً، لكن تنفيذه يرتبط بضرورة توفير مبيدات أقل خطورة، وبأسعار تتناسب مع ظروف الفلاح المعدم اليوم، ويضيف “للأسف هذا النوع من المبيدات الحميدة مكلف وأسعاره تتجاوز ثلاثة أضعاف الأصناف الموجودة في السوق اليوم”.
تمام الحمود، مدير عام الزراعة في محافظة إدلب، قال لفوكس حلب إن التعميم الذي نص على حظر بيع واستخدام عشرة أصناف من المبيدات الحشرية يهدف لـ “حماية الإنسان بالدرجة الأولى”، وأنه جاء “نتيجة دراسات قامت بها لجنة مختصة من وزارة الزراعة، مبنية على دراسات تتعلق بـ سمية المواد الكيميائية المستخدمة في المبيدات الحشرية المذكورة في القرار، بالإضافة لاطلاع اللجنة على قرارات دول الجوار مثل تركيا والأردن ولبنان، ولوائح المبيدات المحظورة لديها، ومقارنتها بواقع الشمال السوري وحاجته لها”.
وأضاف الحمود أن اللجنة نبهت إلى ضرورة توفير مبيدات حشرية بديلة أقل خطراً، ونفى أن تكون هذه البدائل أعلى ثمناً من المبيدات المحظورة، يقول “الأسعار متقاربة والحديث عن أسعار مضاعفة ما هو إلا شائعات” ويرجع سببها “لاعتياد الفلاح على استخدام المبيدات السابقة، وبأنه لا يريد تجربة مبيد جديد حتى وإن تساوى بالسعر مع القديم”، قاذفاً بالكرة إلى ملعب الفنيين الزراعيين “فعليهم” تقع مسؤولية تعريف الفلاح بالمبيدات الجديدة، وحثه على استخدامها، مع التوقف عن التعامل بالمبيدات المذكورة في القرار.
التناقض بين كلام مدير الزراعة والفلاحين والمهندسين الزراعيين دفعنا للبحث في صيدليات عديدة من ريف إدلب عن البدائل التي يجري الحديث عنها، لنجد أن معظم البدائل غير متوفرة بانتظار استيرادها لكن، وبحسب أصحاب الصيدليات، فإن أسعارها العالمية مضاعفة عن تلك الموجودة، باستثناء بديل وحيد متوفر بسعر مقارب لكن فعاليته أقل من تلك المحظورة، إذ يحتاج الفلاح لرش حقله مرات عديدة وهو ما يضاعف التكلفة مرة أخرى!
وإجابة عن سؤال حول أن يكون التعميم جاء إرضاء لفئة على حساب أخرى قال الحمود إن “كلا الثروتين تشكلان دعماً للاقتصاد في المنطقة، ولا يمكننا التضحية بواحدة على حساب أخرى”، مؤكداً أن التعميم أرفق بتعميم مماثل وزّع على المنافذ الحدودية الموصلة لمحافظة إدلب، يمنع دخول تلك المواد المحظورة أو استيرادها.
وبيّن الحمود أن أي مخالفة لمضمون القرار، لجهة الحيازة أو التعامل بالمبيدات المذكورة “يستوجب اتخاذ عقوبات بحق المروج والصيدلي الذي قام ببيعها، قد تصل لسحب ترخيص مزاولة المهنة منه، وإغلاق الصيدلية”، ولم يأت الحمود على ذكر أي عقوبة تنتظر الفلاح والمزارع الذي يقوم بشراء أو رش أرضه بأي من الأصناف المحظورة.
بين نفوق النحل وتلف المزروعات يطالب النحالة والفلاحون معاً وزارة الزراعة والمنظمات الدولية الداعمة بإيجاد بدائل ترضي الطرفين، وتأمين المبيدات بأسعار مدعومة تحد من خسارة الفلاحين وتضمن حياة النحل، إضافة لتقديم الاحتياطات الواجب اتباعها من قبل المزارعين والحرص على تنفيذها مثل “تطبيق المبيدات في الصباح الباكر أو في المساء بعد رجوع النحل السارح، وتجنب انجراف المبيدات عند رش الحقول نحو النباتات المزهرة والجاذبة للنحل، وتنبيه النحالة قبل وقت كاف من رش المبيدات، وعدم ترك أدوات الرش في الحقل، وعدم رش المبيدات مباشرة على النحل أو بالقرب منه، واستخدام مواد طاردة للنحل مع المبيدات”، كذلك اتخاذ النحالة لاحتياطات منها “نقل الخلايا بعيداً عن الحقول المكافحة، على الأقل مسافة 5 كيلو مترات، والوعي بأنواع المبيدات المستخدمة ودرجة سميتها، والتعاون مع الفلاحين في ذلك”.