للمرة الأولى منذ أعوام تعمل ثلاجة أم يوسف المهجرة من بلدة معرتحرمة جنوبي إدلب، بعد انقطاع للتيار الكهربائي الحكومي عن الشمال السوري منذ سنوات لا تذكر أم يوسف عددها، إلا أنها تذكر أن انقطاعها تزامن مع ازدياد وتيرة الاشتباكات المسلحة في المنطقة.
بعد محطات نزوح مختلفة استقر الحال بالثلاجة حيث استقرت العائلة في تجمع مخيمات الكمونة جنوبي سرمدا، وتحولت لركن تحفظ فيه مواد غذائية دون كهرباء، فتشغيلها يتطلب استطاعة كهربائية عالية لا يمكن الحصول عليها من مدخرة الكهرباء الصغيرة (البطارية) التي تُشحن عبر ألواح الطاقة الشمسية وتستعملها العائلة للإضاءة وشحن الجوالات فقط.
قبل شهرين تقريباً وصلت الكهرباء التركية إلى تجمع مخيمات الكمونة، بعد أن أنهت شركة green energy تخديم معظم القرى والبلدات في الشمال السوري محققة توصيل خدمة لـ 80% من مساحة الشمال السوري بحسب تقرير مصور نشرته الشركة عبر قناتها على منصة يوتيوب.
وضمن خطتها الحالية انتقلت الشركة لتغذية المخيمات في الشمال السوري وفق معايير محددة، ولتنفيذ وعودها أطلقت فرقها الهندسية لوضع الخطط والدراسات لتخديم مخيمات في فروعها الثلاثة (إدلب، الدانا، سلقين)، بحسب المدير التنفيذي للشركة أسامة أبو زيد.
في مخيمات إدلب وريف حلب الغربي وصلت الكهرباء لقرابة 150 ألف نازح بعد تخديم 120 مخيماً من أصل 1,259 مخيماً منها مخيمات (الكمونة، الكفير، كفرلوسين، أبواب الرحمة، حزرة، البركة، الحنان ومخيمات سرمدا إضافة إلى عدد من المخيمات في بلدات وقرى قاح، عقربات، دير حسان والبردقلي)، بحسب المهندس عمر شقروق المدير العام للشركة.
في الوقت الذي تنعم فيه أم يوسف بالكهرباء وخدماتها، تعجز جارتها أم محمد عن تأمين 55 دولاراً لدفع رسوم الاشتراك يضاف إليها سعر الكابل الذي سيمتد من الساعة إلى القاطع والتمديدات الداخلية في المنزل ما سيجعل التكلفة تزيد عن مائة دولار، بحسب بُعد وقرب علبة توزيع الكهرباء الخارجية عن المنزل.
أما جارتهما الأخرى، أم أيمن، فقد اختارت توصيل الكهرباء إلى منزلها عبر عدة مراحل، في المرحلة الأولى دفعت رسوم الاشتراك لتركيب العداد وستقوم بإتمام باقي الخطوات (تمديد الكابل، والتمديدات الداخلية للمنزل) على دفعات كلما توفر لديها مبلغ مالي مناسب، وتتوقع أن تستطيع شراء أول شريحة كهرباء مع بداية فصل الشتاء.
كيلومتر واحد يبعد مخيم العزة شمالي مدينة الدانا عن آخر نقطة وصل إليها التيار الكهربائي، قائمة المخيمات المستهدفة لم تشمل هذا المخيم لأسباب يجهلها الأهالي، ولا خيار أمام قاطنيه سوى ترقب قرار الشركة مكتفين بمعدات الطاقة الشمسية التي بالكاد توفر لعوائل احتياجاتهم المتفاوتة بحسب حجم تخزين المدخرة واستطاعة رافع الجهد المتوفر لديهم.
رياض الحميدي واحد من سكان مخيم العزة، يترقب بلهفة لحظة موافقة الشركة على تغذية المخيم بالكهرباء على الرغم من امتلاكه معدات طاقة شمسية تخدم منزله نهاراً بالطاقة الكهربائية، إلا أنه يعتبر أن هذه المعدات التي تتجاوز قيمتها خمسمائة دولار أمريكي حلاً مكلفاً ومؤقتاً تتحكم به الظروف الجوية المتغيرة.
كما أنها تكلفة تتجدد بشكل دوري، فالألواح تحتاج لصيانة دائمة، والمدخرات تضعف قدرة تخزينها مع الوقت وتحتاج لتبديل سنوي. يقول الحميدي “أشغال كثيرة مرتبطة بكهرباء الطاقة الشمسية نضطر لتأجيلها نتيجة ضعف شحن البطارية خاصة في فصل الشتاء حين تكون الأجواء غائمة وهو ما يدفعني للاستعانة بمولدة كهرباء لتلبية تلك الاحتياجات”.
ينطبق حال الحميدي على عدد من ساكني المخيم ويزداد الأمر سوءاً مع عوائل حالت ظروفهم المادية دون امتلاك أدوات تزيد عن بطارية صغيرة و لوح طاقة شمسية صغير بالكاد يكفيهم لإضاءة المكان في ساعات الليل الأولى.
أم محمد سيدة من سكان مخيم العزة، هي الأخرى تحلم بوصول الكهرباء حتى لا تضطر لغسل ملابس أولادها الخمسة بشكل يدوي كما تفعل منذ سنوات، رغم امتلاكها لغسالة وبراد استطاعت إخراجهما عند نزوحهم من ريف مدينة معرة النعمان الشرقي، ولنفس السبب لا تستطيع تشغيلهما.
شركة green energy وهي الشركة الوحيدة المسؤولة عن تزويد الشمال السوري بالطاقة الكهربائية، وضعت معايير تتمثل بتوفر البنية التحتية اللازمة في المدن والبلدات والمتمثلة بـ (مسارات التوتر– مسار الشبكات الكهربائية– أماكن تموضع المراكز التحويلية) حيث تم العمل على إعادة تأهيلها وصيانتها مما ساهم في إسراع إيصال التيار الكهربائي لمستفيدين في أماكن قبل أخرى.
في أحد المخيمات العشوائية بقرية الديبة في ريف حارم قدم أهالي طلباً للشركة لتخديمهم بالكهرباء نتيجة مطابقتهم لمعايير منها قرب مخيمهم من الخطوط الرئيسة، وبعد إجراء الكشف على المخيم جاءت الموافقة مقابل تحمل الشركة لنصف التكلفة المتمثلة بمحولة وخطوط التوتر العالي وبالمقابل يتحمل المشتركون القسم الآخر المرتبط بالشبكة المنخفضة.
وبحسب عمر الخطيب أحد المشتركين، بلغت التكلفة على كل مشترك 45 دولار، بالإضافة لـ 50 دولار سعر الساعة الكهربائية و20 دولار سعر الكابل الكهربائي الواصل بين الساعة و الخيمة. يبدي الخطيب وهو موظف بإحدى المنظمات الإنسانية، رضاه عن التكلفة الإجمالية لوصول الكهرباء إلى البيت، وهي 115 دولاراً، معتبراً أنه سعر مقبول بعض الشيء بالنسبة له، إلا أن أهالٍ من المخيم رفضوا الاشتراك نتيجة عجزهم عن تسديد ذلك المبلغ.
تزيد القيمة المفروضة على سكان المخيمات بحسب عدد المشتركين وحجم المحولة الكهربائية المخصصة لهم إضافة لموقع المخيم من خطوط التغذية الرئيسة. وبحسب الشركة فإنها تقوم بإعداد الدراسة اللازمة للأعمال المطلوب تنفيذها، وتسعر بنود هذه الأعمال كخطة لتأمين ما يلزم من المواد لتخديم المخيمات وفق نظام مساهمة يوضح ما يترتب على الشركة وما يترتب على المستفيد من أمور مالية.
يقول المهندس شقروق “مساهمة المستفيدين لا تتجاوز 10 % من التكلفة التي تحملتها الشركة، وكمثال على ذلك مخيمات الكمونة، فعندما توجهنا لتغذية المخيمات لم يكن الأمر ربحياً وفعلياً إذا أجرينا حساباً للمدة الزمنية التي تحتاجها الشركة لاسترداد قيمة التكلفة فستتجاوز 15 سنة”.
يعتبر شقروق أن تخديم بعض المناطق البعيدة والتجمعات الصغيرة أو الحدودية أو الخطوط الساخنة خاسرة من وجهة نظر اقتصادية، مؤكداً أن هذا الحال أيضا يشمل بلدات وقرى غذتها الشركة وجهزت شبكاتها. يقول: “ألزمت الشركة نفسها بتغذية أهلنا في المحرر طالما يوجد إمكانية فنية، وتسخر إمكاناتها قدر المستطاع لتسريع الوصول للجميع”.
في مخيم الهدى شمالي بلدة البردقلي يقطن قرابة 700 عائلة، ضمن مقاسم مسقوفة بالإسمنت وهو أحد المعايير التي وضعتها الشركة لإيصال الكهرباء إلى المخيمات، ما دفع أهالي المخيم لتقديم طلب للشركة في مدينة الدانا لتغذية مخيمهم. ومثل باقي المخيمات، بحسب القائمين على المشروع، اشترطت الشركة إجراء كشف على المخيم، مقابل أن يتحمل الأهالي جزءاً من تكلفة إيصال الكهرباء إليهم في حال مطابقتهم لمعايير الشركة.
وهذا ما حدث بالفعل بحسب فادي أبو الخير المكلف من قبل لجنة المخيم، يقول “منذ أكثر من سبعة أشهر ونحن ننتظر قرار الشركة بعد أن أرسلت مهندسا لدراسة وضع المخيم ومدى تحقيقه للمعايير، لكنهم حتى اليوم لم يبلغونا بالموافقة ولا حتى بالتكلفة التي ستفرض علينا”.
بالإضافة لقرب المخيمات المستهدفة من مصدر التوتر تسعى الشركة قبل بدء التنفيذ لتأمين الموافقات اللازمة لمرور مسار التوتر والشبكات الكهربائية من الجهات العامة والخاصة، إضافة لتأمين المواد والمساحات اللازمة لإحداث المراكز التحويلية (المحولات).
الكثافة السكانية للمخيم معيار آخر وضعته الشركة ليتم إيصال الكهرباء لأكبر عدد من المستفيدين، وأن تكون المخيمات منظمة وتتوفر فيها البنية التحتية اللازمة لزراعة أبراج التوتر والأعمدة المنخفضة لمد الشبكات الكهربائية. من هذه المعايير ما لا يتوفر في كثير من المخيمات، الأمر الذي دفع الشركة للإشارة في بيان نشرته إلى المعاناة الكبيرة في إيصال الكهرباء للمخيمات بسبب بعدها عن خطوط التوتر وغياب البنية التحتية وعشوائية انتشار تلك المخيمات.
المؤسسة أشارت إلى أن سبب التأخر في إيصال الكهرباء إلى المخيمات هو الحصول على الموافقات من الجهات المعنية سواء العامة أو الخاصة لتأمين مسار خطوط التوتر عبر أملاكهم، ونوهت أنها تأخذ على عاتقها إيصال الكهرباء إلى كافة نقاط الشمال السوري سواء كانت مدناً أو بلدات أو مخيمات.
وبحسب المدير التنفيذي للشركة فقد أنهى فرع الدانا في الوقت الحالي تخديم مخيمات الكمونة والتي تعتبر من أكبر تجمعات المخيمات وأكثرها كثافة سكانية، حيث ستجري عملية التخديم عبر مرحلتين، بلغت التكلفة الإجمالية للمرحلة الأولى 400 ألف دولار ومن المتوقع أن تصل التكلفة الإجمالية إلى 800 ألف دولار، أما عدد المشتركين فمن المتوقع أن يصل عددهم إلى 15000 مشترك.
تتفاوت أسعار الكهرباء بين العداد التجاري و المنزلي وتتغير من فترة لأخرى، إذ كان سعر الكيلو واط من الكهرباء المنزلية 12 سنتاً للتعبئة الأولى وترتفع النسبة حتى 14 سنتاً في التعبئة الثانية خلال الشهر ذاته. فيما يبلغ سعر الكيلو واط للعدادات التجارية 14 سنتاً إضافة إلى ربط تحصيل رسوم النظافة عن طريق الشركة.
و في صباح اليوم السبت، وصل إلى المشتركين خبراً عبر مجموعات واتس آب يديرها أصحاب مكاتب شحن البطاقات التابعة للشركة عن ارتفاع سعر الكيلو واط للعداد المنزلي إلى 14.2 سنتاً للتعبئة الأول وإلى 16.2 سنتاً للتعبئة الثانية وما بعدها، أما العداد التجاري فصار سعر الكيلو واط 16.2 سنتاً إضافة لرسوم النظافة، كما ارتفعت نسبة التعبئة الأولى للعداد المنزلي من 50 كيلو واط إلى 100 كيلو واط (أي ما بعد 100 كيلو واط يصبح سعر الكيلو واط 16.2).
من منزل لمنزل ومن عداد لآخر تختلف التكلفة الشهرية للكهرباء، و يتوقف ذلك على طبيعة استهلاك الأجهزة الكهربائية المتوفرة عند عوائل دون أخرى. معظم من التقيناهم يرونها تكلفة عالية مقارنة بمستوى الدخل، ما يشكل ضغوطاً مالية واسعة النطاق على أسر ريف إدلب بحسب دراسة أجرتها وحدة تنسيق الدعم في كانون الأول 2023.
إياس الحسين، مشترك مقيم في مخيم حلب لبيه التابع لمدينة الدانا، الذي وصلت إليه الكهرباء أخيراً، يدفع رسوماً شهرية تتراوح بين 250 إلى 300 ليرة تركية (أقل من 10 دولار) وهو سعر يراه كبيراً بالمقارنة مع دخله كعامل والذي لا يتعدى سبعين دولاراً شهرياً.
يخلو بيت الحسين من الأجهزة الكهربائية، و يستهلك الكهرباء للإنارة فقط لذلك يعتبره مبلغاً كبيراً، يقول: “لجأت للكهرباء حتى أتخلص من تكلفة الألواح والبطاريات، فصرت ملزماً بدفع فواتير شهرية تضاف إلى تكاليف الخبز والماء والغاز التي ترهقني كعامل”.
يختلف الحال بالنسبة لزياد الجمعة القاطن في المخيم ذاته، فهو يرى أن باستطاعته التحكم بالسعر من خلال ضبط استخدام الأجهزة الكهربائية، معتبراً أن قيمة فاتورة الكهرباء التي يدفعها وهي 12 دولار تقريباً تعادل ثمن جرة الغاز، وهو راضٍ عن هذه التكلفة كونه كسب الإنارة واستطاع الاستغناء عن شراء الغاز، فالسخانة الكهربائية تقضي حاجات العائلة من طهي وتسخين مياه.
أما سليمان الشاهين والذي يقطن مخيم القرية الماليزية في بلدة البردقلي التابعة لمدينة الدانا فقد رفض الاشتراك بالكهرباء بالرغم من وصولها إلى المخيم الذي يقطنه نتيجة عجزه المادي، خاصة أنه لا يملك أي أداة كهربائية مفضلا أن يفي بثمن العداد قسماً من ديونه المتراكمة في حال توفر معه المبلغ، حاله حال 62% من أسر تترتب عليها ديون في ريف إدلب بحسب الدراسة السابقة لوحدة تنسيق الدعم.
تقول الدراسة “من المثیر للقلق أن التقدیرات تشیر إلی أن %90 من السکان في البلاد یعیشون الآن تحت خط الفقر، مما یعکس الطابع السائد للصعوبات المالیة والحرمان الذي تعاني منه المجتمعات في جمیع أنحاء سوریا، بما في ذلك شمالي غربي سوریا”.
لا تملك مها الخليل، أرملة وأم لخمسة أطفال، مصدر دخلٍ ثابت، وتعتمد في مصروفها على بطاقة شهرية قيمتها 65 دولاراً تمنحها لها منظمة أكتد لشراء مواد غذائية فقط، تقول: “البطارية والألواح لا تقل قيمتها عن 200 دولاراً، لذلك لا يمكن أن أفكر بشراء بطارية ولا حتى بتمديد الكهرباء التي يحتاج الاشتراك بها لأكثر من مائة دولار موزعة بين الاشتراك والتمديد”. تكتفي مها باستعمال مصباح كهربائي يعمل على الشحن وبعض الشموع، وفي كثير من الأحيان تستعين بالجيران عند غسل الثياب أو تضطر للغسيل اليدوي.
استغنت أم يوسف عن شراء قوالب الثلج لتبريد مياه الشرب بعد تشغيل ثلاجتها، وصارت توزع لجاراتها عبوات الماء البارد، كما استغنت عن تبديل جرة الغاز كل شهر، وعادت لاستعمال مكواة الملابس، وتفكر حالياً بشراء مكنسة كهربائية وتلفاز لمتابعة المسلسلات والبرامج المفضلة لديها بعد أن أثر الجوال على عينيها، بينما لم تتمكن نساء أخريات من التفكير بهذه الأدوات الهامة لكل منزل، إما لعدم وصول الكهرباء لمنازلهن، أو لأن وضعهنّ المادي لا يسمح لهنّ بدفع رسوم الاشتراك وتسديد الرسوم الشهرية خاصة مع ارتفاع أسعار الكهرباء كل فترة.