يحدّد التفاعل على منصّة تيك توك ملامح زيادة العاملين على البث المباشر في الشمال السوري، عبر وسطاء أو بشكل مباشر، لتغدو هذه الحسابات وسيلة لكسب لقمة العيش عرّابوها من يملك الأجهزة والحسابات البنكية وبضاعتها خبز ومواد غذائية أما قوامها فعائلات تنتظر لساعات دورها أمام كاميرا البث للحصول على مساعدة.
النقاط التي يكسبها صاحب البث من متبرعين تتحول إلى ربطة خبز أو عبوة زيت أو كيس من بطاطا الأطفال، في معرض الفقر والحاجة المذيل بعبارات الشكر والمديح علّهم ينهون زمن الانتظار الذي قد يطول لساعات لا تفرّق بين الليل و الصباح الباكر.
أمام الكاميرا تقف نحو 20 سيدة يخفي القسم الأكبر منهن وجوههن بغطاء، يدير البث المباشر في واحد من مخيمات الشمال السوري رجل ثلاثيني يضع أمامه صناديق من الخبز وزيت الذرة، يسعّر الرجل توزيع ربطة الخبز بالحصول على 100 نقطة وزيت الذرة بـ 400 نقطة، ويطلب من المتبرعين مساعدة السيدات المنتظرات الذين ينقص عددهم مع كل 100 نقطة، تستلم حصتها لتغادر المكان وتنتظر الأخريات متبرع جديد ينهي وقوفهن أمام العدسة، أحياناً يأتي من يتبرع بثمن المواد جميعها لينتهي البث اليوم ويعود من جديد في يوم آخر.
يمكن تحديد نمط التوزيع في البثوث التي حضرناها بين وصول النقاط واستلام مبلغ مالي على حساب بنكي لمدير البث، والدعاء للمتبرعين من مستلمي المادة الموزّعة أو الواقفات على طابور الانتظار. تعنون البثوث، وأعدادها كبيرة تتجاوز المئات، بـ “مساعدة المحتاجين”، لكن من تحدثنا إليهم من سكان في المنطقة ومن مديري ومديرات البثوث في المنطقة إضافة لمستفيدين يرون فيها “نوعاً من التجارة” بأسلوب جديد يعتمد على التأثير في المشاهد للتبرع بإظهار الاحتياجات المتزايدة، وضمان بيع ما يعرضونه من منتجات بأسعار مرتفعة وفي وقت قصير، وحصول المستفيدين عليها مجاناً.
تقول سليمة، 22 عاماً، سيدة معيلة لست أشخاص وإحدى القائمات على واحد من البثوث في مخيم ضمن مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي إن البضاعة الرئيسة المعتمدة في معظم البثوث هي الخبز، وهناك من يضيف مواد أخرى مثل الزيت أو الخضار و”أكلات الأطفال”، وإن الهدف الأساسي من هذه البثوث هو مساعدة السكان وإسعاد الأطفال.
تشرح سليمة ما يحدث، تقول “نشتري كمية كبيرة من الخبز، سعر كل كيس 7 ليرات تركية، نوزعها بـ 10 ليرات، أو الزيت، سعر العبوة 38 ليرة تركية، نوزعها بـ 50 ليرة تركية، والسعر يكون مقدّراً بالنقاط”.
توزّع سليمة يومياً نحو 400 كيساً من الخبز خلال البث المباشر، وتحصل مثل غيرها من القائمين على هذه البثوث على أكثر من نصف المبالغ الموزعة، ولتوضيح الفرق بين المساعدة والتجارة نجد أنه في الحد الأدنى، تحصل سليمة، بحسب ما أخبرتنا، على 40 ألف نقطة ثمناً لـ 400 كيس من الخبز، تحوّل النقاط عند مكاتب الصرافة بـ 5 دولارات (165 ليرة تركية تقريباً بسعر الصرف الحالي 33,15 لكل دولار) لكل ألف نقطة، ما يعني أنها تتقاضى 200 دولار (نحو 6600 ليرة تركية) ثمناً للخبز الذي تدفع لقاء الحصول عليه (2800 ليرة تركية).
يدفع المتبرعين مبالغ أكبر من ذلك، إذ يوضح تقرير لموقع BBc أن تيك توك يخصم 69% من قيمة الهدايا، كما تتقاضى مكاتب التحويل 10% منها، ويحصل مديرو البث والوسطاء على ما تبقى من المال.
تتقاسم سليمة مرابح البث الذي تحصل عليه من النقاط مع شريكاتها (4 سيدات)، إضافة للتبرعات المالية التي تصل عبر التحويل المباشر، دون أرصدة تيك توك، وقد رصدنا هذه التبرعات في أكثر من 25 بثاً مباشراً تابعناه خلال الأيام الماضية.
تقول سليمة “نتعامل مع صراف يزودنا بآيبان البنك المخصص لمكتبه، وعند تحويل المبلغ من المتبرع يصلنا إشعار تحويل، نقوم بتوزيع الخبز أو الوجبات التي دفع ثمنها مباشرة على الشاشة، وفي اليوم التالي نستلم الحوالة من مكتب الصرافة”.
مثل لائحة التموين يثبت مديرو ومديرات البث أسعار المواد التي يوزعونها بالنقاط، إضافة لعبارات ومشاهد جاذبة مثل “ساعدوا سكان المخيمات” “تبرع لمحتاج” أو “ساهم بإطعام مسكين”، و “تجميع النساء والأطفال في خيمة صغيرة بانتظار دورهم.
لا يخلُ عمل مديرات البث من حرج، تقول سليمة التي ترى أن قساوة الحياة وكثرة الأرامل والأيتام و البطالة وقلة فرص العمل وضعف الدخل هو ما يدفع المستفيدين ومديري ومديرات البث لتحمّل الإحراج والبحث عن بدائل.
الانتظار أمام الكاميرا وتغير توقيته الذي يمكن أن يكون في ساعات الليل المتأخرة أو المبكرة، أكثر ما يحرج المستفيدات والمستفيدين ، تقول سليمة “صحيح فيها إحراج بس هنن موافقات يعني نحنا منفتح بث والي بدو يجي يستنا صاحب الخير”.
يضيف أحد مديري البثوث في ريف إدلب سبباً آخر لزيادة هذا النوع من التجارة وهو “انقطاع السلل الغذائية من المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة وندرة المساعدات”، إذ يعتمد على تمرير هذه الرسالة في جذب انتباه المتبرعين والحصول على مساعدات للسكان.
وكانت السلة الغذائية قد بدأ وزنها بالتناقص منذ نحو عامين، لتنقطع بشكل شبه كامل في العام الحالي، وهو ما زاد من قسوة الحياة على سكان الشمال السوري والمخيمات خاصة، وهو ما يفسّر تجمع أكثر من 30 سيدة في بث مباشر، رصدناه في الساعة السادسة فجراً، وآخر رصدناه في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل واستمر حتى الساعة الرابعة فجراً.
تباينت آراء ومواقف السكان حول هذه التجارة، سواء ممن تحدثنا معهم أو التعليقات المرافقة للبث، من مثل “كفى متاجرة بكرامة الناس”، “إذا كان يهمك حاجة النساء وزع لهن ولا تجعلهن ينتظرن”، “طيب بدك تقطع رزق الناس، والله حرام عليك” و “لولا حاجة الناس ما كان طلعوا على البث”، “عالم محتاجة الله حق خبزها لا تنتقدوا”.
تقول مديرة أحد البثوث إنها في كل مرة تسمع تعليقات مختلفة “عالبث بتشوف الانتقاد والمدح هيك وهيك، في كتير بيجو عالتعليقات بيهددونا اذا ما سكرنا البث، وبيقولو شوهتو سمعة السوريين، أو عيب عليكن مطالعين النسوان وهيك حكي، وناس تفهمنا وتساعد وما تغلط”.
تجارة أم مساعدة، تسوّل إلكتروني أم حلّ لنقص المساعدات، عمل أم استجداء، وغيرها من مفردات تصلح لوصف تجارة تيك توك المنتشرة في الشمال السوري، لكن الحفاظ على كرامة المستفيدين ومساعدتهم يحتاج إلى ضبط هذا النوع من البثوث بما يضمن عدم استغلالهم وتقديم العون لهم.