فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

شهادات خريجي اللغة الفرنسية معلّقة على الحيطان.. ومستقبل مجهول لطلابها

جاد الدمشقي

يتراجع الاهتمام باللغة الفرنسية في الشمال السوري، لا أحد يرغب بتدريسها ولا بدراستها، أما الخريجون فيتساءلون: ماذا نفعل بهذه الشهادة؟

في شهر أيار الماضي كرمت جامعة إدلب نحو ثلاثة آلاف طالب وطالبة من مختلف أقسام الجامعة، كان بينهم خمسة عشر طالباً فقط من قسم اللغة الفرنسية.

على منصة التكريم نال الطالب عمار سرحان، 25 عاماً، ابن جبل الزاوية، المركز الثاني على دفعته في قسم اللغة الفرنسية بمعدل جيد، وكان واحداً من ثلاثة طلاب و12 طالبة تخرجوا في الدفعة الأخيرة، وهو نصف العدد الكلي لطلاب السنة الرابعة دفعة 2019 التي تخرجت 2023.

يصف عمار شعوره لحظة التكريم بأنها أسعد اللحظات التي انتظرها وأكثرها تقديراً لجهوده، لكنها فرحة “مؤقتة” زالت بمجرد نزوله عن منصة التكريم وعودته للمنزل ثم الاصطدام بالواقع، مختصراً حاله بالقول: “أنا خريج مع وقف التنفيذ”.

عمار واحد من خريجي قسم اللغة الفرنسية الذين يواجهون مصيراً مجهولاً شمالي غربي سوريا، فهم خارج حسابات وزارتي التربية والتعليم العالي فيما يخص الشواغر وفرص العمل، خاصةً بعد كف يد جميع كوادر هذا الاختصاص عن التدريس بعد قرار إلغاء تعليم المادة في المدارس من قبل وزارة التربية والتعليم التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب عام 2017.

قرابة 300 طالب وطالبة في جميع السنوات الدراسية استقبل قسم اللغة الفرنسية في جامعة إدلب منذ افتتاحه عام 2015 إلى اليوم، وتخرج فيه عشرات الطلاب. إلاّ أنّ قرار إلغاء تدريس المادة من قائمة المواد الأجنبية في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي مع بقائها لغة اختيارية في امتحان الشهادتين للمرحلتين الإعدادية والثانوية أثّر على أعداد الملتحقين بالقسم في السنوات التي تلت القرار، فصارت دراسة هذا المجال خارج رغبات معظم الطلاب.

تهميش ثم وأد

من سبعة وثلاثين طالباً إلى سبعة طلاب، انخفض عدد الراغبين بالالتحاق بقسم اللغة الفرنسية بين عامي 2021 حتى مفاضلة العام السابق، ما يصفه مصطفى يحيى، 36 عاماً، وهو مدرس سابق في القسم ويشغل حالياً منصباً إدارياً في الجامعة، بعملية وأد اللغة الفرنسية، والذي حسب قوله بدأ بالتهميش التدريجي وصولاً إلى إيقاف السنة الدراسية الأولى في القسم من قبل رئاسة الجامعة لقلة عدد الطلاب.

يقول اليحيى “إن السنتين اللتين سبقتا قرار الإلغاء شهدتا ارتفاعاً في عدد الطلاب المسجلين في القسم وصل إلى 90 طالباً وطالبةً لجميع السنوات، إلا أن  قرار إلغاء اللغة الفرنسية من المدارس زاد من تخوف الطلاب الراغبين في دراستها، خاصة مع إيقاف التسجيل للطلاب الجدد في السنة الماضية وترافق ذلك مع شائعات بإغلاق القسم كاملاً من الجامعة”.

هذه الأخبار و الشائعات المتناقلة بين الطلبة في الجامعة دفعت محمد الحمود، 23 عاماً، إلى الانقطاع عن متابعة تعليمه في السنة الثالثة وتأجيل تخرجه ليقينه بعدم جدوى الدراسة والتعب طالما المستقبل معلوم ومجهول بآن واحد.

العودة إلى نقطة الصفر

قبل خمس سنوات تخرجت الشابة زينة، 27 عاماً، في قسم اللغة الفرنسية بجامعة إدلب وكانت من طالبات الدفعة الأولى في القسم. تقول إن إقبال الطلاب كان جيداً على التسجيل لكنها لا تتذكر عددهم وتقدره بنحو خمسين طالباً وطالبة من بينهم طلاب منقطعون عن الجامعة قبل 2015  بسبب سوء الأوضاع التي مرت بها المنطقة والتي تسببت بإغلاق الجامعة، فاستكملوا تعليمهم مع عودة افتتاحها 2015.

تزامن تخرج زينة مع نزوح أسرتها من بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي إلى مناطق الشمال، وبسبب القرارات السابقة لم تعمل باختصاصها فحصلت على فرصة عمل كمعلمة صف للحلقة الأولى بصفة وكيل. تخبرنا أن طوال فترة عملها كانت مهددة بالتوقف في حال توفر خريج تربية مختص كونه أحق منها بالشاغر، وهذا ما حدث بالفعل بعد عام واحد فقط من عملها في التدريس.

الطرق المسدودة أمام زينة وكثير من خريجي اللغة الفرنسية دفعتها لدراسة اختصاص آخر يمكن أن يوفر لها فرصة عمل في إدلب، لذلك هي اليوم طالبة من طالبات السنة الأولى في معهد إعداد المدرسين بمدينة إدلب. تقول “عدت إلى نقطة الصفر وبدأت الدراسة الجامعية مجدداً”.

محمد، أحد طلاب دفعة 2018، يقول إنه دخل قسم اللغة الفرنسية عن رغبة بتعلمها ثم تدريسها بعد تخرجه، إلا أن هذه الرغبة لم تعد موجودة منذ إلغاء تدريس اللغة الفرنسية من المدارس ووقوع خريجي القسم في فخ البطالة، لينضم إلى باقي زملائه العاطلين عن العمل من نفس الاختصاص.

لماذا اللغة الفرنسية؟ 

يصل عدد المتكلمين باللغة الفرنسية  كلغة رسمية أساسية إلى نحو 80 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، إضافة لنحو 190 مليون شخص يتكلمون الفرنسية كلغة رسمية ثانية، ينتشرون في 54 بلداً حول العالم، وتحتل المركز السابع من حيث اللغات الأكثر تحدثاً في العالم والتي تنتشر إلى جانب اللغة الإنجليزية في القارات الخمس.

أما في سوريا فقد  أدخلت اللغة الفرنسية في النظام التعليمي واستخدمت في المدارس الحكومية والخاصة خلال فترة الانتداب الفرنسي، وما تزال تُدرس في المدارس بمناطق سيطرة النظام، بينما توقفت المدارس في محافظة إدلب وريفها عن تدريسها منذ ثماني سنوات.

السياسات التعليمية الجديدة والمصالح الاقتصادية والاجتماعية لعبت دوراً بتوجّهات الطلاب اللغوية، فحلت اللغة التركية في قائمة الاهتمامات بين اللغات الأجنبية المدرسة بالمنطقة، كون تركيا المنفذ الحدودي الوحيد للشمال السوري، ورغبةً بتعلمها بقصد العمل أو السفر، إذ اتجهت معظم المدارس الخاصة والمعاهد إلى تدريسها، إضافة إلى افتتاح معهد اللغة التركية في جامعة إدلب وإقبال الطلاب عليه.

هذا مايراه مدرس اللغة الفرنسية  أحمد هنانو الذي أمضى 14 عاماً في تدريس اللغة الفرنسية ونال إجازة في الترجمة. اقتصر عمل هنانو اليوم على عدد من المدارس الخاصة التي تمسكت بتعليم المادة بمنطقتي سرمدا والدانا شمالي إدلب، وبذلك يكون من المعلمين القلائل المحظوظين الذين حصلوا على فرصة عمل في مجالهم بعد قرار الإلغاء.

يتساءل المعلم هنانو عن مصير المدرسين الأكاديميين من حملة الإجازة باللغة الفرنسية وخريجي القسم بشكل عام في حال تم إلغاؤها من جامعة إدلب، وهل سيكون مثل مصير معلمي المدارس الذين خسروا وظائفهم، سيما أن مجال عملهم محصور بالتدريس فقط دون وجود شواغر أخرى مثل الترجمة أو غيرها.

محمد رضا جلخي، نائب رئيس الجامعة للشؤون العلمية في جامعة إدلب، يعزو إلغاء قسم اللغة الفرنسية للسنة الأولى و للمستجدين فقط إلى ضعف الإقبال على القسم، أما بقية السنوات فما يزال القسم يعمل حتى الآن، ورغم محدودية الأعداد ما زال الإداريون على رأس عملهم.

لم تُخفف تصريحات رئيس دائرة التوجيه الاختصاصي بوزارة التربية والتعليم في إدلب، حمدو حجون، من مخاوف المدرس مصطفى يحيى وزملائه من الإداريين والكادر التدريسي. يعتقد مصطفى أن القرارات أثرت بشكل مباشر على قسم اللغة الفرنسية. يقول: “إن إلغاء القسم قد يكون مسألة وقت، وإذا حدث ذلك سنجد أنفسنا بلا وظائف مع صعوبة العثور على فرص عمل في مجال التعليم”.

ورغم تأكيدات حجون بأن الوزارة ستستوعب معلمي اللغة الفرنسية في مناصب إدارية حسب الشواغر والكفاءة، إلا أن محدودية هذه الشواغر تترك القسم الأكبر من المدرسين بلا وظائف حسب من التقيناهم.

يبرر حجون قرارات إلغاء اللغة الفرنسية من الصفوف المدرسية إلى اقتصار تدريسها على صفي الثالث الثانوي والتاسع وبشكل محدود جداً جداً بالكاد يذكر، حسب قوله، لأن اختيار اللغة يتم بشكل انتقائي حسب رغبة الطالب، أما الصفوف الانتقالية فلم تدرس فيها اللغة الفرنسية أبداً، رافضاً تسمية ما يحدث بالتهميش بل عزاه إلى إحجام الطلاب في الأصل عن دراستها في الصفوف الانتقالية، لأن الطالب يفضل دراسة اللغة الإنجليزية كونها اللغة المعتمدة في الجامعات.

رحلة الدراسة محفوفة بصعوبات وتكاليف مادية

لم يكن حال خريج اللغة الفرنسية حمزة عبد القادر بأفضل من حال زملائه الذين علقوا الشهادة على الجدران حسب قولهم، والتفتوا إلى أعمال أخرى لتأمين لقمة العيش.

يخبرنا حمزة أنه عاش ظروفاً قاسية أثناء دراسته إذ كان يعمل بائعاً في بقالية لتأمين القسط السنوي (150) دولاراً، ناهيك عن ثمن المحاضرات والكتب وأجرة المواصلات. يمني نفسه وعائلته بأنه بعد التخرج سيعوض تلك التكاليف بعد عمله بشهادته، إلا أن أحلام حمزة بقيت معلقة على جدران الأمل مثل شهادة التخرج.

محاولات عدة قام بها معلمون وأكاديميون من قسم اللغة الفرنسية في الجامعة آخرها لقاء مع وزير التربية في حكومة الإنقاذ بإدلب، نذير القادري، ناقشوا خلاله إعادة تدريس اللغة الفرنسية في المرحلة الإعدادية لتوفير فرص عمل للمدرسين والخريجين، وإحياء اللغة الفرنسية في المنطقة والاهتمام بها باعتبارها اللغة الثانية الإلزامية في المدارس السورية مع اللغة الإنجليزية منذ أكثر من 80 سنة.

يؤكد أحد المدرسين الذين حضروا الاجتماع أن الوزير وعد بمناقشة الأمر مع رئيس الحكومة، ثم جرى لقاء آخر بين رئيس الحكومة ومدير العلاقات العامة جمال الشحود ناقشا فيه ضرورة إعادة تدريس اللغة ضمن المناهج الدراسية وعدم القبول بإلغائها.

يقول من تحدثنا إليهم من طلاب قسم اللغة الفرنسية إن الحاضر لا يبشر بخير طالما لا توجد قرارات جديّة من قبل المعنيين بدعم خريجي الاختصاص وتأمين فرصة عمل لهم عقب التخرج، إذ تخلى طلاب كثر عن الدراسة لصالح قسم آخر بعد أن تملّكهم اليأس والإحباط والحيرة إزاء مستقبلهم كما حدث مع الطالب عمار الذي نجح بمعدل جيد واحتفل مع باقي الطلاب بتفوقه، لكن الغصة لم تفارق قلبه كما أخبرنا.