ثلاثة عشر عاماً مضت على ولادة “سديل” الطفلة التي أطلقت أولى صرخاتها في الشهر الخامس من عام 2011 فبات عمرها مقترناً بانطلاق الثورة. “بعمر الثورة” عبارة اعتادت على الإجابة بها عند سؤال سديل “كم عمركِ؟”.
بالأمس البعيد كانت طفلة تظنّ النزوح رحلة مؤقتة تخرج فيها من حدود قريتها في سهل الغاب بريف حماة الغربي للإقامة عند أقرباء والديها حتى يهدأ التصعيد على المنطقة، ثم تعود لمنزلها وألعابها، واليوم هي يافعة تبحث عن سهل الغاب في خرائط كتاب الجغرافيا للصف السابع الذي تدرس منهاجه.
للمرة الأولى منذ خمس سنوات تتعرّف سديل مصادفةً على قريتها. كان ذلك عندما خطر ببالها أن تكتب اسم القرية “الحويز” أثناء تصفحها خرائط غوغل، وراحت تبحث، لكنها لم تنجح في إيجاده، فاستعانت بوالدها الذي قرّب الصورة حتى حدد موقعها بدقة.
معالم تقريبية يعتقد والدها أن الأقمار الصناعية التقطتها في نفس الفترة التي هجروا منها عام 2019، فالبقعة السوداء الظاهرة على سطح المنزل هي قذيفة سقطت في مدخله في اليوم التالي من النزوح، حسب ما وصل للعائلة بعد نزوحهم بيوم واحد. لم يكن والد سديل يعلم أن ذاكرتها تحمل تفاصيل وذكريات بالدقة التي راحت تحكيها وهي تشير إلى المنزل، “من المفترض أن يكون دَرج المنزل هنا، والمطبخ هنا، وهذه غرفة الضيوف وتلك غرفة النوم، هذه شجرة البرتقال وهنا خلف المنزل أشجار التين والتوت”.
“أتذكرين يا أمي عندما قررتِ غسل الملابس بعد منتصف الليل بسبب العاصفة الغبارية والمرتفع الجوي الذي منعنا من النوم والتنفس بسهولة؟ يومها اخترَقت جدار المنزل رصاصة كبيرة في المكان الذي كنتِ قبل ثوانٍ واقفةً فيه، كان مصدر الرصاص حاجز قوات النظام المتمركز في بلدة الرصيف المحاذية لقريتنا”.
في الحي ذاته راحت تبحث عن منزل صديقتها آمنة التي لم ترَها منذ ذلك العام بسبب التهجير، أخدت الصورة يميناً ويساراً لتشرح تفاصيل الحيّ بحماس “هذا بيت جدي، وهذا بيت عمي، وهذا دكان الحي، هنا المدرسة التي تلقيت تعليمي فيها”.
ملامح الاستغراب ارتسمت بوضوح على وجه والدها لأنه لم يتوقع أنها تحمل كل تلك الذكريات والحنين لمنزلٍ غادرته وهي صغيرة، غادرته في لحظة رعب وخوف من شدة القصف فلم يحملوا معهم شيئاً على أمل العودة، إلا أنهم لم يعودوا منذ ذلك اليوم. يقول إنه فخور بتمسكها بذكريات موطنها الأصلي وكان يخشى أن تفقد الانتماء لبلدها مع طول التهجير.
الكثير من الأطفال في الشمال السوري اعتادوا على ذِكرِ اسم المنطقة المُضيفة عند سؤالهم عن موطنهم، هذا ما أكده محمد الحسين، موظف ميداني في إحدى المنظمات الإنسانية. يقابل محمد الكثير من الأطفال بنفس الفئة العمرية (13-14) عاماً، بسبب طبيعة عمله الجوالة، بعضهم يجيب عن سؤال “من أين أنت؟” بذكر اسم المخيم الذي يقطن فيه. يقول: “عندما أصادف هذه الحالات أشعر بالحزن، وأخشى أن نصل لجيلٍ لا يشعر بالانتماء لقريته أو مدينته أولاً ولبلده سوريا ثانياً”.
عيد ميلاد حزين
داخل حدود القرية تحمل سديل الكثير من الحنين وتفخر كونها من محافظة حماة ومن سهل الغاب دون أن تعلم المعنى الحرفي للانتماء على عكس فتيات تعرفهنّ في المنطقة نفسها يرفضن الاعتراف باسم منطقتهنّ لأنهنّ لم يعشنَ فيها أصلاً حسب وصفها.
أما على مستوى البلاد فتحفظ سديل أسماء المحافظات السورية حفظاً دون استيعاب، يقول والدها إنها تطرح أسئلةً عند مشاهدة الأخبار مثل “بابا محافظة الرقة من سوريا؟” والسؤال نفسه تكرره عن باقي المحافظات، ودائماً تنسحب من متابعة الاستفسارات مظهرة أنها فهمت الشرح، وهو يعلم أنها لم تقتنع.
يقول والد سديل “إنها لم تقتنع بوجود أكثر من جيش أو رئيس أو علم لدولةٍ واحدة، كما أنها تستغرب عندما تسمع ذكرياتنا عن الرحلات الترفيهية إلى البحر في اللاذقية وطرطوس وبانياس فهي لم ترَ سوريا كاملةً إلا في الخريطة، تكرر عند حديثنا عن البحر عبارة: “يحدّ سوريا من الغرب البحر الأبيض المتوسط” ثم تسأل من جديد: “بابا كيف شكل البحر، هل حقاً في سوريا بحر؟”
دراسة لوحدة إدارة المعلومات (IMU) التابعة لوحدة تنسیق الدعم (ACU) كشفت أن الأطفال بين عمر 0- 18 سنة، يمثلون 55% من إجمالي نسبة السكان أي أن أكبر طفل من هذه الفئة في عام 2011 كان عمره خمس سنوات، ما يعني أنّ الذين أتموا عمر 12 مع بداية العام الحالي حتى عمر 18 هم مراهقون اليوم ويشكّلون أكثر من نصف السكان.
مع بداية هذا العام 2024 وتحت عنوان “عيد ميلاد محزن” كتبت أديل خُضُر، المديرة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “الحقيقة المحزنة هي أن العديد من أطفال سوريا سيحتفلون بعيد ميلادهم الثالث عشر، خلال الأيام المقبلة، ويصبحون مراهقين، مع العلم أن طفولتهم بأكملها حتى الآن قد اتسمت بالصراع والنزوح والحرمان”.
رهاب الحواجز الفاصلة
خالد، هو الآخر ولد عام 2011، تقول والدته “إنه يحمل حنيناً لقريتنا لكنه لا يذكر البيت أبداً، لأنه لم يرَ إلا ركامه بعد أن تهدم بعد قصف الحيّ بحاويةٍ متفجرة سقطت بالقرب منه”. لا يجرؤ خالد على التفكير بالذهاب لزيارة أقاربه في دمشق أو الإقامة عندهم، فقبل بدء حملة التصعيد الأخيرة على ريفي حماة الشمالي وإدلب كانت النقطة الفاصلة بين قلعة المضيق الخاضعة لسيطرة الثوار ومدينة السقيلبية الخاضعة لسيطرة جيش النظام (حاجز باقلّو) الممر الوحيد للعبور إلى مناطق سيطرة قوات النظام هناك.
مؤشرات على اقتراب المعركة التي حشد لها النظام آنذاك عام 2019 جعلت والدة خالد تقرر الذهاب بأطفالها إلى دمشق لتجنبهم القصف والخوف والتهجير، لكنّ الحاجز أُغلق منذ ذلك اليوم، ومنع العساكر كل من أراد العبور إلى السقيلبية بالقوة مستخدمين الهراوات وأنابيب بلاستيكية خضراء تستعمل لتمديدات المياه ضربوا بها المدنيين على الحاجز.
كان عمر خالد آنذاك سبع سنوات. هذه الصورة العالقة في ذهنه بالإضافة للقصف والتهجير وسوء الأوضاع المعيشية تجعله يشعر بالحنين لأشخاص وليس لمناطق، أما عن الانتماء فتخبرنا والدته أنه تنقل خلال تهجيره بين ريفي إدلب وحلب ولم يشعر بالاستقرار يوماً وتخشى أن يكون فقد انتماءه المحليّ فضلا عن انتمائه السوري، فعلى سبيل المثال هو لا يعرف أسماء المحافظات السورية الأخرى لأنه لم يتلقَ تعليماً مدرسياً بسبب النزوح ولم يتعلم القراءة والكتابة حتى الآن.
أطفال كُثر وقعوا ضحية الانقطاع عن التعليم داخل وخارج سوريا. تشير منظمة اليونيسف في تقريرها السابق إلى أن ما يقرب من نصف الأطفال في سن الدراسة- 5.5 مليون طفل- خارج أسوار المدارس. وقالت السيدة خضر: “دفع جيل من الأطفال في سوريا بالفعل ثمناً لا يطاق لهذا الصراع”.
الانتماء ليس مجرد كلمة
يرد في معظم الدساتير أو الأدبيات السياسية أن الشعور بالانتماء للبلد شرط من شروط المواطنة، لكن ما هي عناصر هذا الانتماء وهل تتوفر فعلاً في الحالة السورية الراهنة؟ يقول الدكتور زيدون الزعبي وهو باحث وخبير في مجالات الحوكمة والقضايا الدستورية كالهوية الوطنية واللامركزية إن “واحدة من أهم مشكلات سوريا اليوم هي الهوية الوطنية، فإذا ما كان هناك اتفاق بالحد الأدنى على بعض عناصر الهوية الوطنية فقد اندثر اليوم”.
يعتبر الزعبي أن الانتماء اليوم قد يكون لجغرافيا، مؤكداً أن علينا أن نميز بين من هم داخل سوريا وخارجها، وأن كليهما سيعاني بطريقة مختلفة عن الآخر. “ما أراه بالعين اليوم أن الذي يعيش خارج سوريا هو أكثر انتماءً لسوريا الوطن، ومَن هو داخل سوريا أكثر انتماءً للجغرافيا التي يعيش بها لا لكل سوريا، فالأوّل لايعرف محليته والآخر لا يعرف وطنه، وكله يعود لأسباب مختلفة، فمن هم خارج سوريا يحنون لفكرة سوريا لأنهم يعيشون ضمن مجتمعات لا ترحب بهم، ومن هم داخل سوريا لايرون سوى المجتمعات التي يعيشون ضمنها” يقول الزعبي.
“شڤان” طفل سوريّ لجأ إلى فرنسا عام 2013، وكان عمره سنتين ونصف، واليوم دخل مرحلة المراهقة كباقي أقرانه من مواليد عام 2011. حرص والداه وخالته على رسم صورة وذكريات تجعله يتعلق ببلده ويهتم بمعرفة تفاصيل المعيشة في سوريا كأخبار القصف وأحوال الناس، تقول خالته “كان الطفل يشعر بالفوبيا من سوريا، لكننا استطعنا مع الوقت رسم صورة سوريا الوطن الذي صار يحن له ويفخر بانتمائه إليه، إلا أننا لا يمكننا وصف انتمائه بالمطلق فهو خليط بين الانتماء لسوريا حيث جدته وخالته، وفرنسا حيث عاش فيها أكثر من سوريا”.
لا يبدو الزعبي متفائلاً بوجود حلول جذرية تعزز انتماء هذا الجيل لسوريا قبل أن يكون هناك حل سياسي يعيد ترميم الهوية الوطنية السورية إن لم يكن إعادة بنائها، فالمشكلة الأهم برأيه أن هناك أكثر من تصور عن الهوية الوطنية يمتلكها أكثر من طرف، ومن الصعب على ما يبدو أن تتشكل هوية وطنية جامعة دون الاستقرار على حل سياسي يعيد وصل ما سبق وإن انقطع في جغرافيا البلاد، ووصل ما انقطع بين مواطنيها.
أكثر من هوية.. أقل من هوية
عوامل كثيرة يتوقف عليها شعور مراهقي اليوم بالانتماء ومعرفتهم لهويتهم الوطنية، من أهمها مكان وجودهم والتربية التي يتلقونها بحسب الدكتور حسام الدين درويش، باحث ومحاضر في الفلسفة في عدد من الجامعات الألمانية.
يضرب الدكتور حسام الدين مثالاً بالمناهج السورية، فوجود ثلاثة مناهج تربوية مختلفة إحداها “الوطنية السورية الفارغة” في مناطق سيطرة النظام، والأخرى تخضع لتركيا أو لأطراف إسلامية يكون البعد الإسلامي فيها أعلى من الوطني بالمعنى الدولي، والمنطقة الثالثة خاضعة لقسد ولديها أجندة خاصة، بمعنى ما “غير وطنية أو مضادة للوطنية”. هذا داخل سوريا فقط، “فالتربية والأجواء التي يعيش فيها هؤلاء الأطفال بالتأكيد ستكون مختلفة وتنتج نتائج مختلفة في هذه المسألة”، يؤكد درويش.
أما في دول المنفى والشتات فيشير درويش إلى أن الشعور أو الارتباط بسوريا سيكون سلبياً أو “رد فعل” حسب تعبيره، بمعنى أن الصعوبات التي يعيشها الأشخاص خارج سوريا كونهم سوريون تجعلهم مرتبطين بمعنى ما بسوريتهم، لا لأنها تحقق لهم شيئا مباشراً، بل لأنهم يعامَلون هناك على هذا الأساس، على أنهم أجانب (غير أتراك مثلاً او غير ألمان)، ولأنهم يحنّون لسوريا بالمعنى الأهلي، إلى المناطق التي عاشوا فيها أو إلى الأشخاص الذين يعرفونهم.
يتابع درويش: “برأيي إن الانتماء الحقيقي على مستوى الشعور سوف يختلف من شخص لآخر ولن يكون شعورا أحادياً بالضرورة، فمسألة الوطن الأم يمكن أن تكون مسألة إشكالية، بمعنى: ماذا عن طفل ولد في ألمانيا لأم وأب سوريّين، ماهو وطنه الأم؟ وماذا عن طفل ولد في سوريا، لكنه تربى في تركيا ولغته الأساسية الأولى التي تعلمها في الحياة خارج العائلة هي اللغة التركية مثلاً، ماهو وطنه الأم؟”.
ويرى الباحث درويش أن مسألة اللغة الأم هنا ستكون معقدة، “ومن الأقرب الحديث عن هوية مزدوجة أو ببعدين سوري وغير سوري”، معتبراً أن الأمر الصحي هو أن “يكون هناك تكامل أو علاقة تعايش إيجابية بين الطرفين في هوية واحدة” دون أن يستبعد أن تظهر صراعات وأزمات هوية على هذا الصعيد.
بوصلة ضائعة.. وبارقة أمل
أما شكل الهوية السورية في المستقبل، فالأمر يعتمد بدرجة كبيرة على الواقع السياسي للدولة السورية المقبلة بحسب رأيه، إلى أي حد هناك كيان سياسي واحد ونظام سياسي يفرض سيطرته وليس ميليشيات وقوى مختلفة كما هو الحال في سوريا. “في مناطق سيطرة النظام هناك ترهل هائل للدولة، دولة فاشلة عاجزة عن القيام بأبسط مهامها مما يفسح المجال لميليشيات وعصابات تكون خارجة عن سيطرة الدولة أو تحل محلها”.
لا يتوقف شكل الهوية السورية المستقبلية على العامل السياسي والأمني فحسب، “فالعامل الجغرافي مهم أيضاً، بمعنى أن السوريين الذين نتحدث عنهم وأين يعيشون يفرض عوامل كثيرة” يقول درويش. ويعتبر أن الحديث الكبير عن الهوية السورية ما هو إلا تعبير عن الأزمة الناتجة عن واقع سياسي وليس عن نقص في الوعي أو الفهم أو التفكير كما يظن كثيرون، وبالتالي فمعالجة المسألة تكون بالذهاب إلى الأسباب وليس إلى النتائج، “فمسألة الهوية نتيجة أكثر من كونها سبباً، والمسائل المادية والواقعية هي التي تلعب الدور الحاسم، وليس مسألة وعي أو تفكير هذا الطرف أو ذاك”.
حسام جزماتي، كاتب سوري، يتفق مع الرأيين السابقين في صعوبة الخروج باستنتاجات موحدة عن أطفال البلاد وانتماءاتهم، فبعد أن تفككت سوريا جغرافياً وسكانياً لم يعد من المتاح الخروج بتوصيف موحد عن أطفالها أو عن أيّ من شرائحها، و”هناك فرق كبير بين من نشأوا خلال العقد الأخير في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وهم الأغلبية العددية، وبين من كبروا في المناطق المحررة، وبين من تفتح وعيهم في المهاجر السورية المختلفة من دول الجوار أو أوروبا”.
يعتقد جزماتي أن ضياع البوصلة أوضح في النموذجين الأولين، ففي مناطق النظام يسود الفقر وانعدام الأفق والبحث عن أي فرصة للسفر، وكذلك في المناطق المحررة اضطر عدد كبير من الشبان إلى الانخراط في الفصائل العسكرية كنوع من العمل المتاح بانتظار مستقبل مجهول على المستويين العام والشخصي. “ثمة بارقة أمل في الجيل الجديد من المهاجرين الذين تلقوا تعليماً منتظماً وجيداً لكن هل سيشعر أكثر هؤلاء بالانتماء إلى سوريا؟ أعتقد أن أغلبهم سيذوب في الدول المضيفة بفعل الاندماج، خاصة في أوروبا” يقول جزماتي.
ويتفق جزماتي مع درويش والزعبي على أن الهوية السورية تتعرض لمؤثرات شديدة الاختلاف بحسب مناطق الإقامة المتعددة، لذلك من الصعب للغاية التنبؤ بمستقبلها. يقول الكاتب السوري: “إذا كانت الوطنية السورية ضعيفة اصلاً قبل عام 2011، فمن الواضح أنها ستكون أكثر ضعفاً مع المستقبل لأنها لن تمنح لحامليها الكثير مما يمكن أن يفتخروا به على المدى المنظور، فالبلاد بحاجة إلى عملية إعادة إعمار شاملة وباهظة التكاليف، وهو ما لم تظهر مؤشرات على البدء به”.