على بعد أمتار من حطام منزلها في شارع البساتين بمدينة سلقين تسكن هدى أم نور، سيدة أربعينية، رفقة أولادها الثلاثة في سكن مؤقت لمتضرري الزلزال. عام مضى على الكارثة ولم تمضِ معه آثار الصدمة النفسية ليلتها بسبب خسارتها زوجها تحت الركام، فقدت إثرها قدرتها على الكلام لعدة أشهر، بعد دخولها في نوبة بكاء وحزن شديدين أثرا على الحبال الصوتية إلى أن تعافت بشكل جزئي بعد فترة طويلة.
“إنه لكابوس مرعب، يرافقني منذ ليلة السادس من شباط العام الماضي، أشعر كل ليلة برجفة في أطرافي، وعدم قدرتي على الصراخ، وكأنه البارحة” تقول هدى أم نور بصوتها المتقطع المبحوح. تخبرنا أنها كلما شعرت بالضيق، تخطو قدماها بشكل تلقائي تجاه ركام المنزل، تبحث عن ذكرياتها، تشم رائحة زوجها ومنزلها، وتتذكر كل ركن وزاوية فيه، وتسمع صوت ضحكات أولادها ومزاحهم مع والدهم، أحياناً تبكي بصمت، وأحياناً تصرخ مثل المجانين، ثم تعود وقد ذهب صوتها مرة أخرى.
غيثاء إبراهيم، قائدة فريق الدعم النفسي التابع لمنظمة سامز في مستشفى المحافظة بمدينة إدلب، تشرح الأثر النفسي الذي خلفه الزلزال على الناجين والناجيات خلال الفترة الماضية بالقول: “الصدمة النفسية إثر فقدان عزيز أو النجاة من الموت أو الإصابة الجسدية مثل حالات الهرس التي رافقها ألم شديد أثّرت على حالتهم النفسية. قد يمتد هذا إلى فترة طويلة وهو ما حصل مع أم نور التي فقدت القدرة على الكلام لعدة أشهر”.
فرق الصحة النفسية في المستشفيات والمراكز الصحية شمالي سوريا عملت على الاستجابة للحالات النفسية بعد الزلزال، مثل حالات الاكتئاب والقلق والكوابيس والخوف الزائد ونوبات الهلع وغيرها من الاضطرابات النفسية. في هذه المرحلة يتم تقديم الإسعاف النفسي الأولي للحالات، وفي حال عدم الاستجابة يحولون إلى عيادات الدعم النفسي، أما إذا لم تصل الحالة إلى مرحلة التعافي فتحال إلى الطبيب النفسي والعلاجات الدوائية، تؤكد غيثاء.
أطفال كثر عانوا من التبول اللاإرادي والخوف الشديد واضطرابات سلوكية مثل التأتأة في الكلام، استمرت معهم إلى ما بعد حادثة الزلزال بأشهر وخضعوا لجلسات علاجية مكثفة وطويلة، تلخصها غيثاء بآليات وتدابير متبعة في هذه الخطة العلاجية، وهي “شرعنة المشاعر، طمأنة المريض وتهدئة مخاوفه، تشجيعه على التعبير عن مشاعره والحديث عن تجاربه مع الخوف دون تردد”.
وتضم مستشفيات في مدينة إدلب عيادات دعم نفسي اجتماعي، منها العيادة النفسية في مستشفى المحافظة التي خصصت يوماً محدداً في الأسبوع لاستقبال الحالات الصعبة التي لا تستجيب للإسعاف النفسي الأولي وتحتاج إلى طبيب نفسي ومعالج مختص.
في العام الماضي استقبلت المستشفيات حالات كثيرة لمرضى توقف قلبهم بشكل فجائي نتيجة الخوف الشديد إثر الهزات الارتدادية التي أعادت ذكرى الزلزال إلى أذهان الناجين، تؤكد غيثاء، خاصة مع ارتفاع عدد تلك الهزات خلال عام، إذ سجلت إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” نحو 60 ألف هزة ارتدادية في المنطقة بعد 6 شباط/فبراير 2023.
لرغبتها في بقائها في العدة بعد وفاة زوجها واعتقادها بعدم جواز خروجها من الخيمة التي انتقلت إليها عقب الزلزال، بقيت أم نور أكثر من شهرين دون علاج، ما فاقم حالتها، إلا أنها تواصلت مع طبيب نفسي مختص عبر الهاتف الجوال بعد نصيحة صديقتها المقربة، إثر تدهور حالتها الصحية والنفسية. تقول إن الطبيب وصف لها أدوية مهدئة ساعدتها على التحسن واستعادة صوتها بالتدريج.
عانت أم نور من تبعات الصدمة التي تعرضت لها، فموت زوجها وخسارة بيتها أدخلاها في نوبة بكاء حادة فقدت على إثرها صوتها، وبقيت تتعالج عدة أشهر حتى تحسنت بنسبة بسيطة. إلى اليوم تعاني من بحة واضحة في الكلام، وآلام في الحلق، ناهيك عن الحزن الشديد الذي لم تستطع التغلب عليه. تحيي أم نور ومئات آلاف الأسر في الشمال السوري الذكرى الأولى للزلزال الذي خلف قرابة 2172 ضحية، استجابت لها فرق الدفاع المدني السوري العام الماضي وتم إنقاذ 2950 شخصاً من تحت الأنقاض حسب أحدث تقرير نشرته المنظمة منذ يومين.
لم يعد السكن في الأبنية الطابقية رفاهية كما كان قبل الزلزال، وصارت الخيام والمنازل غير الطابقية ملاذاً مفضلاً اتجه إليه ناجون بعد أن ترك العامل النفسي أثراً متعلقاً بتفاصيل السكن.
ثوانٍ قليلة، كانت كفيلة بمضاعفة أعداد المتضررين في مناطق عدة من الشمال السوري، الذي يعيش ويلات الحرب منذ 12عاماً. ولم يسلم الناجون من الضرر، فمنهم من خسر مكان سكنه ومصدر رزقه. تقول أم نور إنها خسرت زوجها ومنزلها ومحلاً لصيانة السيارات في كراج البناء كان مصدر رزقهم، وباتت مع أولادها الناجين رهينة المساعدات الإنسانية المقدمة والوعود الطويلة بتأمين سكن بديل للعوائل المتضررة.
عام كامل مضى ولم يستطيع الطفل سمير ذو الخمسة أعوام أن يتخلص من تأتاة رافقته منذ تلك الليلة، تقول جدته التي ترعاه حالياً في منزلهم بمدينة سلقين بعد وفاة أمه وشقيقته في الزلزال: “إن سمير نجا من الموت لكن ضربة قوية على رأسه نتيجة سقوط حجارة فوق جسده أثرت على نطقه بشكل واضح، فهو يتلعثم أثناء الكلام كما أنه يتبول بشكل لا إرادي مع أي حالة خوف أو حدث فجائي مثل القصف أو الهزة الارتدادية وحتى صوت الرعد والأمطار، أيضاً يخاف من النوم في الظلام ويبقي مصباح الغرفة مضاءً طيلة الليل”.
نجاح بالوش، قائدة فريق الصحة النفسية في المستشفى الوطني بمدينة إدلب تشرح الحالة التي يمر بها الطفل: “هذه الحالة تصيب الأشخاص الذين تعرضوا لحدث صادم مثل كارثة الزلزال وتسمى كرب ما بعد الصدمة، وهو اضطراب يحدث عندما يتذكر الشخص أحداثاً مزعجة وصادمة ويبقى حبيس تلك الأفكار رغم انقضاء أشهر عدة، ويمكن أن ترافقهم أعراض أخرى مثل أرق ليلي، وكوابيس مزعجة، وقلق نفسي، فضلاً عن تجنبهم الحديث حول الحدث الصادم”.
جدة الطفل أمضت العام الماضي متنقلة بين مستشفيات المنطقة لتقديم العلاج لحفيدها بعد أن أصبحت المسؤولة عنه بوفاة والدته وانشغال والده بالعمل طيلة النهار لتأمين تكاليف علاجه.
من خلال عملها في عيادة الصحة النفسية، تعلق بالوش على الأعراض التي ما زالت ترافق الناجين من الزلزال، تقول: “حالات كثيرة قصدت عيادات الصحة النفسية مع استمرار وجود الأعراض النفسية رغم انقضاء أشهر على الزلزال، بسبب ربط العوامل المرافقة لتلك الليلة مع أي حدث مشابه، مثل انقطاع الكهرباء فجأة والظلام وصوت المطر أيضاً خاصة في حال حدوث هزة ارتدادية، إذ تُستدعى المشاعر والذكريات المؤلمة والاضطرابات النفسية ذاتها مثل الحدث الصادم تماماً، وتثير هذه العوامل مع بعضها البعض الرعب ومخاوف من احتمالية حدوث زلزال آخر”.
رغم كثرتها غابت الآثار النفسية التي رافقت الكثير من الحالات الناجية من الزلزال عن أرقام وإحصائيات الفرق والمنظمات التي أن أصدرت تقاريرها السنوية حول ذكرى الزلزال، إذ وثق فريق منسقو استجابة سوريا، بالأرقام تضرر 334,821 عائلة بعدد أفراد 1,843,911 شخصاً في مناطق شمال غربي سوريا، وتسبب بنزوح 48,122 عائلة، بعدد أفراد 311,662 شخصاً يشكل الأطفال والنساء والحالات الخاصة 67 بالمئة من إجمالي عددهم، مشيراً إلى أن أكثر من 51,931 شخصاً من المتضررين ما زالوا داخل مراكز الإيواء والمخيمات بسبب تضرر منازلهم.
مع الذكرى الأولى للزلزال حاولت مريم، 27 عاماً، مقاومة دموعها، بكت اليوم بحرقة أمام أطفالها الثلاثة، تقول “كنّا بين الحياة والموت، لا أستطيع أن أتخطى هذه اللحظة، كلما تذكرتها أرتجف ويشتعل قلبي ناراً وكأنها حدثت البارحة”. مريم وعائلتها نجوا بأعجوبة من الموت بعد انهيار جزء من منزلها في شارع الثلاثين بمدينة إدلب، وإغلاق مدخل البناء بخزان حديدي، منعهم من الخروج والهروب، قبل أن ينهار فوق رؤوسهم، وكانت ما تزال حاملاً بتوأمها، ما تسبب بحالة خوف وهلع شديد كادت على إثره أن تفقد الأجنّة.
تخبرنا أنها إلى اليوم عاجزة عن الوصول إلى مرحلة التعافي وتخطي الصدمة النفسية، فهي تخشى من أي صوت قوي، من أي هزة ارتدادية خفيفة، ويمكن لصوت شاحنة قوي أن يثير خوفها ويعيد إليها الذكرى المؤلمة.