من حالفه الحظ بالنجاة من زلزال السادس من شباط الماضي، سيجد نفسه أمام المشهد ذاته في جنديرس، أكبر المدن المتضررة في ريف حلب الشمالي. الأحياء الذين كانوا يسكنون المدينة سيمرّون بشوارعها الرئيسة، يلفت انتباههم (كولبة) أو دكان صغير هنا وهناك في شارع يلانقوز أنشئت كيفما اتفق فوق فراغات كانت أبنية في السابق، وتحوّلت إلى ركام جرى ترحيله إلى مكان خارج المدينة.
عند تقاطع شارع يلانقوز بشارع سوق البازار سيجدون طريقاً رئيساً عبّدته واحدة من المنظمات قبل أشهر، لكنه يبدو أسوأ حالاً مما كان عليه قبل الزلزال. الطريق الواصل بين شارعي البازار والصناعة أفضل من سابقه، يقودكم إلى ساحة خاوية لا تشي بما كانت عليه قبل أن تهدّمت الأبنية الطابقية الست التي كانت تحيطها كسوار على معصم اليد، لا تقابلكم وجوه ساكنيها ولا تلقون التحية عليهم، قسم منهم قضى تحت ركام منازلهم أما من نجوا فسكنوا في خيمة ضمن مراكز إيواء أنشئت بعد الزلزال ويزيد عددها عن عشرين مركزاً.
كيفما اتجهتم في شوارع جنديرس يميناً أو يساراً ستجدون فراغات لأبنية تهدّمت ونقلت أنقاضها، أما سكانها فحجزوا لأنفسهم خيمة فوق المكان بانتظار إعادة إعمار طالت وعودها وطوابيرها. زائرو جنديرس للوقوف على أطلالها ممن لا يعرفون حالها سابقاً لن يجدوا اختلافاً كبيراً، سيعثرون على مبنى مهدّم هنا وهناك ومساحات فارغة لن تسعفهم خرائط جوجل بمقارنتها، إذ ما يزال أقرب تحديث للصور المتاحة يقف فيه الوقت عند عام 2022.
الأنقاض دليلنا على أثر كارثة الزلزال لم تعد موجودة، لكن حكايات الناجين ما تزال تروي قصصاً عن أكثر من ألف ومائة بناء تهدّمت فوق رؤوس ساكنيها، وإن كنتم تبحثون عنهم فستجدونهم في الخيام المجاورة أو على طوابير المجلس المحلي الطويلة في رحلتهم للإجابة عن سؤال واحد: متى يمكننا العودة إلى منازلنا ومن سيتكفل بإعادة بنائها من جديد.
الدعم المقدم من المنظمات الإنسانية للمدينة المنكوبة لم يغير كثيراً من حال السكان، والترميم الذي قدمته منظمات (يد بيد، تكافل الشام، رحمة بلا حدود، جاست هيومن) للمنازل التي أقرت اللجان الهندسية بقابليتها للإصلاح وهي 2200 منزلاً، بحسب عبدو تلتلو، مسؤول ملف الترميم في جنديرس، طال 1200 منزلاً بينما ينتظر أكثر من ألف صاحب عقار آخر دورهم بعد عام من الزلزال.
مراجعة المجلس المحلي لمرات عديدة لم تفِ بالغرض، يروي حسين مصطفى، مستأجر لأحد المنازل المقرر إصلاحها من قبل اللجان الهندسية بعد أكثر من عشر رحلات مكوكية. يائساً يقول المصطفى إنه لن يحاول مرة أخرى، خاصة وأن عقود الترميم تشترط على صاحب المنزل عدم رفع الإيجار لمدة سنة واحدة، و “السنة على الباب”، ما يعني أن مراجعته وتعبه ستكون دون جدوى إن أُخرج من المنزل، إذاً لماذا علي أن أتعب وأراجع المجلس كل يوم إن لم أضمن بقائي في المكان بإيجار مناسب، الخيمة مكان أقل تكلفة خاصة بعد ما منيت به من خسائر طالت أثاث منزلي كاملاً دون تعويض من أحد.
بجوار منازلهم المهدمة تسكن أكثر من عشر عائلات بالقرب من خيمة أبي عمر، مهجر من مدينة حماه ومالك أحد المنازل المهدّمة في جنديرس، جميعهم ومئات غيرهم ينتظرون حلّاً بعيداً عن الأمنيات والوعود التي يحصلون عليها كل يوم.
يروي أبو عمر أن شيئين فقط قد تغيرا منذ الزلزال وباتا سمة من سمات المدينة، الخيام النظامية والعشوائية الموزعة في جنديرس وحجم المقابر بعد وفاة مئات الأشخاص، أما المنازل غير القابلة للترميم وأصحابها فقد دفنت ملفاتهم هي الأخرى، يقاطع محمد حاجي مالك منزل مهدّم آخر في المكان، كلام أبي عمر، إذ لا يوجد أي حديث عن تعويضات أو إعادة إعمار هذه الأبنية، ويقتصر الدعم على الترميم فقطاً متهماً أن قسماً من هذه المنازل لا تحتاج للترميم في الأصل.
كلام أبي عمر عن المقابر دفعنا لزيارتها، إذ ضاقت مقبرة جنديرس بضحايا الكارثة، واستعان السكان بمقبرة أخرى بالقرب في الجهة الشرقية من تل جنديرس وضمت العدد الأكبر من الوفيات، بجوارها أنشئت عدة مخيمات سكنها ذوو الضحايا، يخبرنا أحدهم، محمد صطوف، مهجّر من حمص إلى جنديرس فقد زوجته واثنين من أطفاله “لأبقى قريباً منهم، وجدت ما يعزيني في السكن إلى جوارهم”.
ما تشاهدونه في جنديرس من ازدحام وأسواق هو “ديدن الحياة”، يروي من تحدثنا معهم، فقدّ مرّت كوارث عديدة أخرى على مختلف المناطق السورية، الحياة ستستمر لكن المظاهر خادعة، لم يبق في جنديرس منزل لم يفقد أصحابه أحد أقاربهم، لن تمرّ في شارع يخلو من مساحات فارغة استعيض عنها بخيام، تلك مشاهد تلتقطها عدسة الكاميرا أما ما تعيشه المدينة فلا يؤخذ إلا من قصص أصحابها، وما ينقلونه يوحي بأن المدينة لم تتعاف بعد، وأن الزلزال يسكن في تفاصيلها كافة.