حدود نظره باتجاه قدميه الممدودتين على الأرض، يشدان قطعة خشبية مربوطة بخيط نايلون للفّ مكنسة القش التي يصنّعها، أما تفكيره فيشغله استمرار الإنتاج بعد نفاد كمية المكنس التي حصل عليها من المزارعين.
جمال ميري ورث مهنة تصنيع مكانس القش عن شيوخ الكار في مدينة إدلب، يتقن مراحل تصنيعها فهو العمل الوحيد الذي انجذب إليه مذ كان في السادسة من عمره مقتدياً بوالده.
يقول ميري من أهالي الحي الشمالي في مدينة إدلب، إنه واحد من أصل أربعمائة شخص تقريباً كانوا يعملون بالمهنة في هذا الحي الذي يشتهر بصناعة مكانس القش، لم يبقَ منهم إلا أربعة أشخاص يفتتحون ورشاً خاصة، بسبب تراجع المهنة بعد الحرب في سوريا.
حربا، خربوط، خشوف، ميري هي أسماء عوائل بقيت تصارع المعوقات للحفاظ على مصدر الدخل الوحيد (تصنيع مكانس القش) قبل أن يكون همهم الحفاظ على التراث، ففي رقابهم عوائل وأطفال عليهم تأمين لقمة عيشهم ومتطلبات حياتهم.
فبعد أن كانت المواد الأولية وخاصة قش المكنس، تستورد من محافظات سورية مثل حماة والرقة ودمشق ومن ثم تصدر إلى لبنان والسعودية، صار الإنتاج والاستهلاك في السوق المحلي فقط.
نبات المكنس يزرع في مطلع شهر نيسان من كل عام ويقطف في مطلع شهر آب ومن ثم ينظف ويجفف تحضيراً لتصنيع المكانس، و تعد منطقة سهل الغاب حيث يمر نهر العاصي مصدراً رئيساً لزراعته وكذلك الرقة حيث نهر الفرات.
الأدوات البسيطة للحرفة هي الأدوات القديمة ذاتها مثل المسلة (إبرة كبيرة) والخيوط والمطرقة الخشبية و القالب الخشبي والمقصّ اليدويّ. تأخذ المكنسة أو المقشة أو المشباط (حسب تسمية كل منطقة) شكلها الذي نعرفه بعد مرورها بمراحل عدة تبدأ بالفرز و النقع بالماء ثمّ القص والحشو التمكين بالخياطة وتنتهي بالتنشيف تحت أشعة الشمس.
يعمل ميري بورشته الخاصة منذ 35 عاماً في وقت كان مردود المهنة يؤمن حياة كريمة للعامل بها، حسب تعبيره، بدأ حينها تجربته بربح وفير جعله يتورط ولم يتوقع يوماً أنها ستسوء لهذا الحد وإلا لما استمر بها إلى اليوم.
أدوات التنظيف الحديثة كمكنسة الكهرباء ليست السبب بهذا الوضع كما يظن البعض، فالزبون الذي يعتمد على مكانس القش لن يستبدلها بغيرها خاصة مع انقطاع الكهرباء عن معظم مخيمات المنطقة، ويعود السبب الرئيسي للحصار الناتج عن الحرب، يؤكد ميري.
توفير المكنس وتصدير البضاعة يشكل أكبر عائق بعد انعدام التصدير الذي تأثر بإغلاق الحدود أولاً و بالإنتاج الموسمي المتعلق بكمية المواد الأولية المتوفرة من الزراعة المحلية والتي تنفد بسرعة فيتوقف معها العمل بسبب توقف الاستيراد.
اشتهرت عوائل في الحارة الشمالية بإدلب بصناعة المكانس منها بيت حربا و زيداني والزين وغريب، فشيوخ الكار نقلوها إلى إدلب بعد أن أتقنوها في حلب منذ زمن وعلموها للأولاد الذين اتخذوهم كصناع.
لا يبدو ميري سعيداً بما وصل إليه، فليس تراجع المهنة وسوء الوضع المعيشي ما يقلقه فقط، بل تزيد الآثار الجسدية التي تركها العمل على جسده من تشاؤمه، مثل آلام الظهر نتيجة الجلوس الطويل الذي يصل لعشر ساعات يومياً. يشعر ميري أن المهنة بدأت بالانقراض ولولا أنها المهنة الوحيدة التي يتقنها، لما تمسك بها فهي بالكاد توفر له بعضاً من احتياجاته الأساسية.
ما لا يزيد عن 75 ليرة تركية يجني يومياً لقاء عمل متواصل دون أي استراحة، لذا لا يفكر بتعليم أولاده المهنة لأنه عمل متعب جداً يقول: “والدي لم يرغب بتعليمي المهنة وأنا لا أرغب بتعليمها لأولادي”.
قبل الحرب كان ميري راضياً عن مردود المهنة، ففي الوقت الذي لم يكن راتب الموظف يتجاوز ثلاثة آلاف ليرة سورية كان يكسبها في أسبوع يقول: ” اشتغلنا، استفدنا، ربحنا، عشنا، بنيت بيتاً، ثم بدأت الأمور بالتراجع في وقت لم يعد بالإمكان تعلم مهنة أخرى”.
اليوم صار العمل مقتصراً على الطلب المحلي ومرهوناً بكمية المواد الأولية التي أنتجها المزارع لانقطاع طرق الاستيراد وفي حال اكتفى السوق يتوقف التصريف ويتأثر ثمن البضاعة.