فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

رحلة مع مندوبات مبيعات جوالات في إدلب

مرام حمزة

سيراً على الأقدام ومن منزل لآخر تتجول نسوة تحملن على أكتافهن حقائب ثقيلة الوزن تحوي مساحيق تجميل وأدوات مكياج وعطور، تقطعن مسافات طويلة لعرض وبيع هذه المنتجات على الزبونات، ماذا نعرف عن ظروف عملهنّ؟

لا يبدو هذا الصباح مختلفاً عند عائلة هيام (38 عاماً)، مهجرة من ريف حماة إلى مخيمات الشمال السوري، فهو يبدأ بفطور مستعجل لا يتعدى بضع لقيمات وكأس شاي بالكاد تستطيع ارتشافه لشدة حرارته خوفاً من أن يفوتها موعد مرور حافلة العمل التي تقلها رفقة نساء أخريات من مخيمهنّ في أطمة إلى مقر الشركة في مدينة سرمدا تمام الساعة الثامنة.

هناك تستلم حقيبة المستحضرات التجميلية الخاصة بها، تحملها على كتفيها مثل باقي العاملات، ثم تنطلقن في المكروباص كل مرّة إلى منطقة مختلفة ضمن محافظة إدلب، إنها على هذه الحال منذ أربعة أشهر.

تعمل سيدات وشابات في إدلب وريفها  “مندوبات مبيعات” جوالات في المخيمات والقرى والمدن ذات الكثافة السكانية العالية، تمضين وقتاً طويلاً بالتنقل مشياً على الأقدام، تحملن حقائب تحوي عدداً من علب ومستحضرات التجميل والشامبو والعطورات وغيرها من المواد التجميلية، يصل وزن الحقيبة أحياناً إلى قرابة 15 كيلو غراماً أو أكثر.

لا يوحي جسد هيام النحيل بأنها قادرة على حمل الحقيبة الثقيلة والسير بها مسافة طويلة مهما كانت ظروف الطقس قاسية، لكن “اللي بتشيل حمل زوج عاجز وخمس أولاد ما رح يتعبها شيل هذا الحمل على ظهرها!”، هكذا تقول.

حقيبة هيام محشوة بعبوات وكريمات مختلفة الاستعمال، منها الشامبو والبلسم وإبر تغذية الشعر، وعلب المكياج ومساحيق التجميل وأقلام الشفاه، والكحل، ومزيل التعرق، ومرطبات البشرة والجسم والزيوت الطبيعية وغيرها، تقول ضاحكةً أثناء عرض محتوياتها “لا أدري كيف اتسعت هذه الحقيبة لكل هذه القطع!”.

من بيت لبيت تنتقل طارقة الأبواب، تعرض المحتويات قطعة قطعة عند كل سيدة تقبل إدخالها لبيتها، تشرح فوائد المستحضرات وجودتها وأنها مختلفة عن السوق ومن شركة طبيّة مكفولة. “مهارة الإقناع مطلوبة هنا فزيادة أجرتي اليومية مرهونة بعدد القطع التي أستطيع إقناع الزبونة بشرائها” تقول هيام.

تختلف أسعار المنتجات بحسب القطعة، ثمن بعضها خمسون ليرة ومنها ما يصل إلى 400 ليرة تركية، أي ما يعادل 15 دولاراً، وهي مقارنةً بأسعار ذات المنتجات في السوق تعد مرتفعة بنسب متفاوتة. تقول هيام: “إن الأسعار يحددها مدير الشركة دون أي تدخل من المندوبة وهي مرتفعة ربما كونها تحظى بخدمة التوصيل المجاني للمنزل، فهناك سيدات لا تستطعن التسوق، و تفضلن شراء ما يصل إليهن من المندوبات بغض النظر عن السعر”.

“إنت وشطارتك” هي سياسة العمل في الشركة تقول هيام بأسلوبها العفوي، إذ لا يوجد راتب ثابت آخر الشهر، ولا أجرة يومية للمندوبة، لأن عملها مرهون بكمية البيع، فكلما تمكنت من بيع القطع والمواد التي بحوزتها، كان لها نسبة من الربح تقارب 25 بالمئة، تحسب بشكل يومي وتدفع آخر الشهر، وهذا ما يجعلها حريصة على البيع والسعي وطرق الأبواب طيلة اليوم، أما في حال عدم البيع فتبقى من دون أجر، وهذا أمر معروف مسبقاً لجميع المندوبات العاملات.

الفقر والحاجة وعجز زوجها المريض عن العمل، دفع هيام وهي أم لخمسة أطفال أصغرهم لم يتجاوز العام ونصف العام للعمل في ظروف اعتبرتها شاقة وغير عادلة، فكثيراً ما تعود دون أن يحالفها الحظ ببيع أي قطعة فيضيع تعب يومها دون أي أجر، تخبرنا أنه في أحسن الأحوال تحصل المندوبة “المحظوظة” كما أسمتها على 100 دولار شهرياً، وهو مبلغ غير كافٍ لإعالة الأسرة ولكنه أفضل من الحاجة والبقاء دون عمل.

لم تكمل هيام تعليمها منذ كانت في مدينة حماة، ولم تتقن أي مهنةٍ أيضاً، ما جعل خيارات العمل أمامها محدودة ما بين العمل في الأراضي الزراعية مثل عاملات المياومة، أو العمل كمندوبة، وجميعها تصنف أعمالاً شاقة وطويلة مقابل الأجر الزهيد الذي تحصل عليه السيدات.

هيام واحدة من 150 امرأة عاملة في الشركة ذاتها حسب قولها، وهناك عشرات الشركات المشابهة في إدلب وريفها، تستقطب النساء عن طريق إعلانات على منصات التواصل الاجتماعي، تعلن من خلالها عن حاجتها لموظفات للعمل مندوبات مبيعات لتسويق منتجات طبية تجميلية، وربما تفضل عدد من الشركات أن تكون الموظفات من مناطق ذات كثافة سكانية عالية مثل دير حسان، قاح، عقربات، أطمة، معرة مصرين، حزانو ومخيمات كل منها.

دون أي شروط مسبقة كوجود شهادة علمية أو خبرة سابقة، تطرح الشركات فرص العمل للسيدات وتكتفي بأن تجيد المندوبة القراءة والكتابة، وأن تلتزم بمواعيد الدوام، وأن لا يقل عمرها عن 16 أو يزيد عن 45 عاماً، حسب إعلانات نشرت على منصات التواصل الاجتماعي.

“روز”، “ميرا”، “جنى”، “المتحدة”، “الساهر”، “بلقيس”، “فينوس”، وغيرها أسماء شركات متخصصة ببيع وتسويق المنتجات الطبية ومستحضرات التجميل وأدوات المكياج، وجميعها تضم نساء لا يقل عددهن عن 60 عاملة في كل شركة، وبشكل دائم تجدد الشركات طلب موظفات شابات للعمل في تسويق منتجاتهم.

روتين يومي تخضع له جميع العاملات فيختم يومهنّ بالعودة إلى مقر الشركة عند نهاية العمل، وتُجْرد حقيبة كل عاملة، وفي حال نقص أو ضياع أي قطعة فإن العاملة تغرّم بثمنها، مع غياب قوانين العمل والضمان الصحي والاجتماعي وحقوق العاملات.

ظروف العمل الشاقة

أيام قليلة جمعت هيام وجارتها بشرى التي رافقتها في إحدى جولاتها اليومية كي تتعلم المهنة وتختبر بيئة العمل بنفسها، تعرفتُ عليهما أثناء عملهما بمنطقة سكني في كفر لوسين، ثمة ظروف مشابهة جمعت السيدتين معاً وهي الفقر والحاجة وفقدان المعيل، وقد كانت بشرى طيلة الصيف تعمل في الأراضي الزراعية بقطاف المحاصيل والتعشيب مقابل خمس ليرات تركية عن كل ساعة عمل، ما شجعها على خوض مغامرة عمل أخرى قد تكون أفضل.

تخبرنا بشرى أن هذا اليوم سيكون الأخير لها في العمل كمندوبة، فهو لم يناسبها أبداً كونه متعب وشاق، وساعات العمل طويلة جداً تكاد تأكل يومها، والطرقات أكلت نعل حذائها من كثرة التجول بين المنازل والمخيمات، كما أن بعض المواقف تركت أثراً سيئاً في نفسها وإحساساً بالذل والمهانة نتيجة تعرضها للطرد والازدراء من قبل بعض الأهالي معتقدين أنّها متسولة.

تقول وهي تصف الفترة القصيرة لعملها مندوبة مبيعات إنها قضت مدة العمل في طرق الأبواب واستعطاف النساء للشراء، وحمل حقيبة المواد الثقيلة على ظهرها في ظروف الطقس الصعبة، دون الحصول على فترة استراحة أو وجبة طعام، ثم العودة إلى منزلها وأطفالها آخر النهار، وإضافةً لتعرضها وباقي العاملات للصد والطرد من المنازل كُن أحياناً يتعرضنّ للتحرش، بالإضافة للاستغلال في حال لم يوفقن ببيع أي قطعة فلا ذنب لهنّ بذلك.

لم تكن هذه المرة هي الأولى التي تطرق فيها مندوبة مبيعات باب منزلي، فقد ألِفت المخيمات والمشاريع السكنية انتشارهنّ، بل إن هيام تمكنت من تكوين صداقات مع زبوناتها داخل المشروع السكني الذي أقطنه، وصارت تلبي طلبات السيدات المتنوعة من المواد التي تبيعها، كذلك حفظت الزبونات موعد زيارتها الأسبوعية.

فضلاً عن المتاعب الجسدية تواجه النساء العاملات ضغوطات نفسية واجتماعية ربما من قبل محيطها المقرب، أو ما يتعلق بنظرة المجتمع لخروج المرأة للعمل بشكل يومي، إلى جانب مشاكل إهمال المنزل، وترك الأولاد لساعات طويلة دون رعاية، وهذا ما عاشته بشرى خلال عملها وجعلها تنهي تجربة عملها في التسويق الجوال وتكتفي بالأيام القليلة التي كانت برفقة هيام.

خبرة وشطارة

خمس سنوات في العمل كمندوبة مبيعات، تمكنت فيها ندى، 45 عاماً، وهي أرملة وأم لثلاثة صبية أكبرهم عمره 15 عاماً، مقيمة في كفريحمول شمالي إدلب من إتقان المهنة وكسب الزبائن وتأمين مصدر دخل شهري قد يصل إلى 200 دولاراً أحياناً، تقول في حديثها إلينا إن العمل مكنها من تلبية مصروف أطفالها وتأمين متطلباتهم بعيداً عن الحاجة والعوز.

امتلكت ندى خبرة ومعرفة في طرق إقناع زبوناتها، بأسلوبها المميز وحبها للعمل، وكسبت ثقة كثير من النساء اللواتي حصلت على أرقام هواتفهنّ من أجل التواصل وتلبية طلباتهنّ بشكل دائم، ولا سيما الكوافيرات في صالونات التجميل النسائية، حيث يكثر الطلب على المنتجات ومواد التجميل.

لاترى ندى أي استغلال بالعمل، بل تقول إنه مكّن عدداً من النساء والفتيات غير الجامعيات واللواتي لا مهنة لديهنّ من تأمين فرصة عمل ضمن إمكانياتهن الموجودة، والدليل إقبال كثير من النساء على العمل إذ لايقل عدد العاملات في كل شركة عن 60 سيدة وقد يصل إلى 150 في بعضها، مشيرة إلى أن الشركة التي تعمل بها لها عدة أفرع في سلقين وحارم وسرمدا وغيرها من المناطق.

طباخ السم بدوقو

لا تبدو وجوه أغلب المندوبات اللواتي قابلتهن أنهن جربن ما يحملنه على أكتافهن من مساحيق التجميل المختلفة، بل تؤكد التصبغات على وجه الشابة فيروز، 25 عاماً، أن الشمس الحارقة تركت آثارها على بشرتها دون أن تتمكن من استعمال أي من عبوات الواقي الشمسي الموجودة في حقيبتها والتي تعرِضها يومياً للنساء وتحثهن على شرائها كي يحمين وجوههن من الأشعة الضارة.

تقول في حديثها إلينا “إن ثمن عبوة واحدة قد يعادل عمل ثلاثة أو أربعة أيام كاملة”، لذلك استغنت عنها بالكامل على حساب تأمين ثمن الدواء لوالدتها وباقي مصروف المنزل، إذ تعيش مع والديها الكبيرين في السن في أحد المشاريع السكنية ببلدة كللي شمال إدلب، وتعدّ المسؤولة عنهما.

منذ عامين تتوجه فيروز يومياً رفقة ثلاث نساء أخريات من جاراتها إلى العمل، تجتمعن في مقر الشركة في سرمدا ثم تنطلقن بعدد من السيارات المخصصة لنقلهن إلى المناطق والمخيمات والقرى، ثم تبدأن رحلة السعي والبحث عن زبائن تخفف عنهن حمل الحقائب وتحقق لهن أجرة تعب النهار، تقول فيروز إن توفر المواصلات المجانية هو أكثر ما يشجعها وكثير من العاملات على الاستمرار بالعمل، فهو يجنبهن عناء تأمين سيارات تقلّهن في الذهاب والعودة كباقي الأعمال الأخرى.

لا تخلو مهنة المندوبة من صعوبات تواجهها أثناء عملها، فهي مسؤولة عن كامل محتوى الحقيبة، وفي حال تعرضها للسرقة فإنها ستدفع كامل المبلغ من أجرتها أيضاً، تخبرنا فيروز أنها تعرضت العام الماضي لسرقة عدة قطع في أحد المنازل عندما اضطرت لترك الحقيبة بسبب دخولها الحمام، وهذا أمر يُتوقع حدوثه في المهنة ويجب على العاملة أن تكون يقظة وشديدة الحذر.

كان يامكان

مهنة التسويق أو البيع الجوال ليست حديثة الظهور كما أنها غير مخصصة بمنطقة معينة، ففي السنوات السابقة وقبل الثورة كان تجول عدد من النساء اللواتي يلففنَ قطعة من القماش حول خصرهن تمتد على شكل كيس كبير يرمينه خلف ظهورهن، يسمى الكور أو الزاروعة في داخله بضاعة للبيع مشهداً معتاداً.

في هذه اللحظات استحضرت ذاكرتي استقبال أمي لسيدتين من ريف حمص في منزلنا بريف دمشق، كنت حينها في العاشرة من عمري، كانتا ترتديان عباءتين سوداوين، وتغطي الوشوم جبهتيهما وكفيهما، تحملان على ظهريهما (الشملة) كما نطلق عليها، وقد وضعتا فيها أدوات التجميل والكحل العربي، والعطور والبخور، والعلكة، و دبابيس الشعر، وأساور صغيرة للأطفال وأشياء أخرى، كما أنهما ماهرتان في قراءة الكف والطالع مقابل ليرات قليلة، اجتمعت حينها نسوة الحي عند أمي لرؤية البضاعة وشراء ما يعجبهن.

 البائعات الجوالات آنذاك كنّ تقطعن المسافات الطويلة سيراً على الأقدام تقصدن الأرياف والمنازل الطرفية بغية البيع، ولم تكن بضائعهنّ مرهونة بشركة معينة أو ماركة تجميلية تروجن لها، بل كنّ نساء تعملن بشكل مستقل لتأمين لقمة العيش.