الطرقات وأماكن تجميع القمامة في مدينة حلب الشرقية شبه خالية من كل ما يصلح للحرق، القماش والبلاستيك وأعواد الأشجار الصغيرة وحتى المحارم وروث الحيوانات تحضيراً لشتاء قاس آخر تغيب فيه الحلول الحكومية لتأمين وسائل تدفئة بأسعار مقبولة وتزيد فيه ساعات تقنين الكهرباء.
تجمع أم حسن، سيدة أرملة وأم لثلاثة أطفال أكبرهم في العاشرة من عمره، ما يمرّ أمامها من المواد القابلة للحرق لاستخدامها عوضاً عن المازوت في المدفأة التي يزيد عمرها عن تاريخ ولادة طفلها البكر. تقول أم حسن “النار تأكل شيء حتى الإنسان، ومثل كل شتاء يحتار معظم سكان حلب في البحث عن سبيل للتدفئة، خاصة وأن أي نوع من أنواعها يستهلك راتب موظف لسنتين، وعامل مياومة لسنة كاملة”.
عبدو الأحمد، يعمل كخياط في حي الحيدرية بحلب، قال إن تعديلات كثيرة طرأت على كل شيء في حياة السكان، وقود التدفئة كان له نصيب من التعديلات التي شملت المدافئ وما تحتاجه، وتحوّلت المدفأة إما إلى الزينة أو إلى غاز للطبخ وتأمين المياه الساخنة ومنشر للغسيل ومكب للنفايات ووسيلة للتدفئة.
ومع مرور شهر على فصل الشتاء استغنى معظم من تحدثنا معهم عن التدفئة التي باتت حكراً على فئة محددة من التجّار والأغنياء و مكاتب الدوائر الحكومية.
أسعار مواد التدفئة التقليدية والمدافئ في مدينة حلب وصلت إلى ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في العام السابق، إذ يتراوح سعر مدافئ المازوت بين ثمانمائة ألف ومليون ومئتي ألف ليرة سورية (57 إلى 85 دولار بحسب سعر الصرف اليوم 14 ألف ليرة لكل دولار)، بحسب حجمها ونوعها، وتصل في أنواع أخرى إلى ثلاثة ملايين ليرة سورية (214 دولار).
ويتراوح سعر مدافئ الحطب المصنوعة من (التنك الخفيف) بين ثمانمائة ألف ومليون ليرة سورية (57 إلى 72 دولار)، أما ما يطلق عليها النظامية والتي تحتوي على مكان مخصص لوضع قدر الطبخ ودرج يستعمل مثل الفرن فيصل سعرها إلى نحو 7 ملايين ليرة (500 دولار).
المدافئ المخصصة لقشر الفستق أو البيرين تغيب عن أسواق مدينة حلب ويمكن الحصول عليها من أسواق مجاورة في مدينة حماه ويتراوح سعرها بين 3 إلى 5 ملايين ليرة سورية (215 إلى 350 دولار).
وتضاعفت أسعار المدافئ في العام الحالي عنها في العام الماضي بنسبة تجاوزت 150%، يبرر من تحدثنا معهم من بائعي المدافئ ارتفاع الأسعار بتكاليف المواد الأولية التي وصفوها بـ “الباهظة”، وأجور النقل والترسيم، يضاف إليها ضعف الطلب، إذ يقدر اثنين ممن تحدثنا معهم في سوق باب الحديد عدد المدافئ التي باعاها خلال الموسم الحالي بستة مدافئ لكل منهما، وهي أقل من ربع الكمية التي باعاها في العام الماضي، على حدّ قولهما.
مدفأة كل شيء هي الأكثر مبيعاً، بحسب سكان تحدثنا معهم، وقوامها مدفئة مازوت تعدّل في ورشات الحدادة ويوضع داخلها (صحن) لتناسب اشتعال الحطب وتمنح الشخص قدرة على رمي الرماد الناتج عنه، وتستخدم أيضاً لحرق الألبسة وأحذية البلاستيك، أو مدفأة حطب تصفح من الداخل لتتناسب مع احتراق البيرين وقشور الفستق.
وتبلغ تكلفة هذه التعديلات نحو خمسين ألف ليرة سورية، لكن هذه المدافئ “غير حصينة” بحسب أبو عبدو، صاحب ورشة حدادة، والذي قال “عادة ما تصفح المدافئ المختصة بقشر الفستق من الداخل لتتناسب مع ما يمنحه هذا النوع من التدفئة من حرارة عالية
أما في البيرين فتزود المدافئ بسطل للغرض ذاته، وهو ما يصعب تحقيقه في المدافئ المعدلة لضيق حجمها الأسطواني من جهة ولأن السكان يستخدمونها لأكثر من نوع وقود وبالتالي لا يمكن استخدام المازوت في هذه الحالة، ما يسبب اهتراء الهيكل الخارجي للمدفأة، كذلك انبعاث الدخان منها ما يضر بالصحة، خاصة عند الأطفال والمصابين بالربو”.
تحصل كل عائلة بالبطاقة الذكية عبر مؤسسة سادكوب على خمسين لتراً من المازوت سنوياً بسعر ألفي ليرة سورية للتر الواحد، وهو ما يكفي عائلة لعشرة أيام على الأكثر، لكن وفي العام الماضي لم تحصل 70% من العائلات على مخصصاتهم السنوية.
“لا يمكن تقطير المازوت مثل السيروم” يقول عمر، موظف في محلجة قطن بحلب وأب لأربعة أطفال منهم اثنان يعملان في ورشة لتصليح السيارات، شارحاً ما يكفيه 50 لتر مازوت للعائلة في الشتاء، إن وزّعت.
ويضيف عمر “معظم العائلات باعت حصتها لتبحث عن وقود أقل تكلفة، إذ يبلغ سعر المازوت في السوق السوداء نحو 13 ألف ليرة (أقل من دولار واحد، مبرراً السبب بأن حصة العائلة يومياً خلال فصل الشتاء من المازوت هي نصف لتر تستهلكه المدفأة بأقل من ساعة واحدة!”.
ويكمل عمر “لدي مدفأة للمازوت، وأخرى كهربائية، وثالثة على الغاز والكهرباء، مدفأة الحمام حولتها لمدفأة حطب، وقد اشتريت في الصيف 100 ليتر مازوت من السوق السوداء بسعر 8 آلاف للتر الواحد، وملأت خمس أسطوانات غاز بسعر 80 ألفا للأسطوانة الواحدة، لأني أعلم علم اليقين بأن الأسعار ستتضاعف عند حلول فصل الشتاء”
وارتفع سعر طن حطب الزيتون في العام الحالي إلى 3,5 مليون ليرة (250 دولار)، علماً أن سعره في العام الماضي لم يتجاوز 1,5 مليون ليرة (107 دولارات). ووصل سعر طن حطب الحور إلى 2,5 مليون ليرة (180 دولار) علماً أن طن الحطب يكفي عائلة بحسب نوعة بين شهر ونصف الشهر إلى شهرين، أي أن العائلة تحتاج لنحو طن ونصف الطن من حطب الزيتون كحد أدنى خلال فصل الشتاء ونحو طنين من الأنواع الأخرى.
أما كرتونة البيرين (10 كيلو غرام) فوصل سعرها إلى 1800 ليرة (دولار وربع الدولار) تستهلكها المدفأة في ساعتين فقط، ما يعني تكلفة تصل إلى 5 دولارات يومياً في حال أرادت تشغيل المدفأة لثمان ساعات فقط.
يقول أبو عبدو، بائع مواد ولوازم التدفئة في حي السكري، إن معظم مواد التدفئة من حطب وبيرين وحتى الغاز والمازوت تأتي من محافظتي اللاذقية وحماه، وتنقل عبر من أسماهم بـ “المتنفذين” لحمايتها ومنع الحواجز من مصادرتها، ومع غياب الرقابة من الحكومة يتحكم أولئك بأسعار مواد التدفئة ويفرضون ما يريدون دون القدرة على مساومتهم، ولا يستطيع تاجر أن يستجر مواد التدفئة من مصادرها دون الرجوع إليهم، غالباً ما يخسر كامل حمولته أو يدفع أضعاف سعرها للحواجز، ويلجأ التجار لشراء مواد التدفئة صيفاً وتخزينها مثل المونة لتعويض خسائرهم بارتفاع أسعارها شتاء.
مدافئ الكهرباء طالها التعديل مثل غيرها من المدافئ، إذ يندر وجود “كهرباء الدولة” رغم الإعلان عن تشغيل وحدتين من وحدات المحطة الحرارية في حلب، إذ زادت ساعات التقنين منذ بداية تشرين الأول الماضي إلى 22 ساعة انقطاع وساعتي تشغيل بتيار منخفض لا يتجاوز 175 واط، بعد أن كانت 20 ساعة انقطاع وأربع ساعات تشغيل خلال الصيف الماضي.
وجد سكان في حلب حلّاً للاعتماد على المدفأة الكهربائية بتعديلها، وذلك من خلال إلغاء الوشائع والإبقاء على وشيعة واحدة بسلك معدّل لا يستجر أكثر من أمبير واحد ليتمكنوا من تشغيلها على خط المولدة الكهربائية أو بنظام “الأمبيرات” المنتشر في المدينة.
يتراوح سعر المدافئ الكهربائية قبل تعديلها بين 400 إلى 500 ألف ليرة سورية (28 -35 دولار)، يحدده نوع المدفأة وعدد وشائعها، أما المدافئ المعدلة (سخانات الأمبير) فيتراوح سعرها بين 50 إلى 75 ألف ليرة (3,5 إلى 5 دولارات) للنوع الوطني، ونحو 125 ألف ليرة (9 دولارات) للنوع الصيني.
ونتيجة ضعف التيار فإن محولات الكهرباء تتوقف يومياً عن العمل في ساعات التغذية بسبب (الحمل الكبير) الناتج عن استخدام المدافئ الكهربائية، بحسب أحد العاملين في مؤسسة الكهرباء. يقول من تحدثنا معهم إن استخدام مدافئ الأمبير ليس أرخص ثمناً، إذ يبلغ سعر الأمبير الواحد أسبوعياً لثمان ساعات تشغيل 45 ألف ليرة (3,25 دولار)، وتشغيل مدفأة كهرباء يفرض الاستغناء حتى عن الإنارة ما يضطر السكان للاشتراك بأمبير خاص بالتدفئة.
مدافئ الغاز تكاد تغيب عن أسواق مدينة حلب، ويتراوح سعرها بين مليون ومليون ونصف مليون ليرة سورية (71 إلى 107 دولار)، ويعود سبب قلتها في السوق لارتفاع أسعار اسطوانات الغاز. تقول أم يوسف، مدرسة في مدينة هنانو بحلب، إن اسطوانة الغاز تكفي لأسبوع واحد فقط في حال تشغيلها لخمس ساعات يومياً، وإن العائلة تحتاج لخمس اسطوانات شهرياً.
وتحصل العائلة من الحكومة السورية عبر البطاقة الذكية على اسطوانة غاز كل شهرين، لا تسد احتياجات الطبخ، بسعر 20 ألف ليرة (نحو 1,5 دولار)، بينما تباع الاسطوانة في السوق الحر بـ 80 ألف ليرة (نحو 6 دولارات) وفي السوق السوداء بـ 110 آلاف ليرة وتصل إلى 150 ألف (8 إلى 11 دولار) حسب وجودها.
استخدام أي نوع من المدافئ أو الوقود يكلف العائلة في الحد الأدنى نحو 500 دولار في الوقت الذي لا يتجاوز فيه راتب موظف حكومي حاجز 20 دولاراً شهرياً، وعمال المياومة والورش نحو 100 دولار شهرياً، تقول أم يوسف “لا فرق بين صيف وشتاء حلب، نعيش أيامنا بشكل متشابه”.
الحصول على الدفء بات رفاهية تغيب عن بيوتات الحلبيين، واجتراح حلول لا تندرج مراعاة صحة العائلة في أولوياتها أصبح الشغل الشاغل للسكان الذين استهلكوا لذلك كل ما تطاله أيديهم من حطب وغاز وبيرين وبيلون معالج بالقار ومخلفات عضوية من روث الأبقار وبقايا الزيتون والأحذية والألبسة البالية وبقايا البلاستيك ومخلفات الطعام، في حال توفرها، أو الاكتفاء بالأغطية كحل وحيد لا يف بالغرض.