“لبستك الأبيض طيّة على طيّة ..
طيّة من الشام وطيّة من تحت ديي ..
ولما وقفت عروستنا بباب الدار وقالت بخاطرك يابيي
جاييتك ياحماتي .. وديري بالك عليي..”
بهذه الأهازيج الشعبية التي تليها الزغاريد استقبلت أم أكرم، العروس بعدما توسطت بين صديقاتها الشابات اللواتي كنّ يرددن وراءها عبارة “آويها” ويختمنها بزغرودة جماعية طويلة وعالية الصوت.
تحضر أم أكرم، حفلات زفاف أو خطوبة في مدينة إدلب، ليس بصفتها مدعوة كباقي المعازيم، أو قريبة أحد العروسين، بل كونها السيدة التي ستحيي الحفلة وتطرب المدعوين وتنظم الزفاف بمساعدة فرقتها وأدواتها الخاصة بالعمل، في ظاهرة عادت إلى مدينة إدلب خلال العامين الماضيين بعد طول انقطاع.
امتهنت المنشدة أم أكرم أسود، 49 عاماً، ابنة مدينة إدلب، مهنة الإنشاد والغناء الشعبي في إحياء الحفلات النسائية والمناسبات والموالد النبوية منذ عشرين عاماً، ساعدتها إقامتها في مدينة حلب منذ ذلك الوقت في تعلم الطرب الأصيل حسب تعبيرها، وكان لها تجارب عدة مع منشدات متمكنات اكتسبت منهن خبرة في الإنشاد الديني الذي يعتمد على الدف والطبل فقط، ثم نوعت بين الطرب والإيقاع، وكونت فرقة خاصة بها في المدينة.
“أستعد للحفل وكأنه فرح لأحد أقاربي أو أبنائي”، تقول أم أكرم، فترتدي أجمل ما عندها من ثياب تناسب الحفلة، وتنطلق إلى صالة الأفراح أو مكان المناسبة التي دعيت إليها، لتكون عرابة الحفل، حسب وصفها.
عدة سيدات من مدينة إدلب لاحظن في الأعوام القليلة الماضية عودة إحياء الحفلات النسائية عن طريق فرق خاصة، تتقن الغناء وزف العروس والترحيب بالضيوف وتنظيم الحفل وتقديم التهاني والمباركات، وعادة ما تخصص السيدة مع فرقتها في الغناء أسماء العروسين وذويهم وأقاربهم ضمن المواويل، وذلك لإرضائهم وكسب ودهم.
لاتقتصر مهنة الفرق الإنشادية على حفلات الزفاف والخطوبة، بل امتدت إلى إحياء حفلات النجاح والتخرج، وحفلات النفاس، والولادة، والطهور، كذلك استقبال الحجاج وحتى الجلسات النسائية.
عرفت قديماً في دمشق وحلب وحمص هذا النوع من الطرب، وكانت السيدة التي تقوم بالغناء تسمى “الخوجة” لها فرقتها الخاصة من النساء منهن من يردد وراءها (كورال) ومنهن من يتقن القرع على الطبل أو العزف على العود أو ضرب المزهر، حسب الآلة الموسيقية الموجودة كالبيانو مثلاً، واشتهرت من بينهن “هدية السبيني” التي التحقت في البداية برابطة المنشدين الدينيين، وأنشدت مع المنشد حمزة شكور، وكذلك رشا ناجح، التي قدمت أغانٍ دينية لنصوص شعرية و صوفية، فضلاً عن وجود عدد من المطربات اللواتي فرضن أنفسهن في الوطن العربي وقدمن أناشيد رائعة، أما بالنسبة للرجال فقد اشتهر عشرات المنشدين الدينيين، وارتبط اسم عدد منهم بالتراتيل الخاصة بشهر رمضان، منهم توفيق المنجد، وحمزة شكور، وسليمان داود ومحمد الحكيم.
غير أن تاريخ الإنشاد الديني في دمشق يعود إلى ما قبل توفيق المنّجد، أو رابطة المنشدين، ويمتد إلى قرون بعيدة حسب دراسة لمركز حرمون تحدثت عن “الإنشاد الديني في دمشق”.
هناك فرق دينية فقط، لا تشارك الإيقاع أو أي نوع من الموسيقى لاعتبارات دينية، وتكتفي بالدف والمزهر، ولا يقتصر أداء الأناشيد الدينية في هذه الفرق على الرجال فقط، بل عرفت المحافظات السورية الموالد الدينية النسائية أيضاً، وساهمت التجمعات النسوية في انتشارها، ولها طقوس وقواعد خاصة وصارمة يجب التقيد بها حسب ما أكدته الخمسينية أم عبدو الشامية، وهي سيدة مهجرة من دمشق إلى الشمال السوري، حضرت كثيراً من الموالد الدينية في السابق سواء بالمساجد أو المناسبات الخاصة التي كانت تُدعى إليها.
كذلك اشتهرت الأعراس الدينية وهي التي تخلو من آلات الموسيقى أو الغناء الصاخب سواءً المسجل أو الإيقاعي، وتكتفي بالإنشاد والضرب على الدف، مع الالتزام باللباس المحتشم ضمن الحفلة النسائية، كما تخلو من التصوير حرصاً على خصوصية النساء الحاضرات.
تقول الشابة الثلاثينية إسراء الخطيب ابنة مدينة إدلب: “إن هذا النوع من الحفلات انتشر حديثاً في مدينة إدلب، ولم يكن بهذا الوضوح قبل الثورة، إذ كانت الأعراس عادة ما تقتصر على المدعوين والأقارب والأصدقاء، إما في المنزل أو الصالات الخاصة بالأفراح، والتي تعتمد على التسجيلات الغنائية التي تصدح عبر مكبرات الصوت، أو على غناء الشابات والسيدات في العرس ذاته مع الضرب على الطبل أو مايعرف ” الدربكة”.
تضيف أنه بعد تحرير إدلب تحجّمت الأعراس بشكل كبير، واقتصرت على حفلات صغيرة للمقربين فقط داخل المنزل، وقلّ نشاط الحفلات، ولم يعد كما كان سابقاً، بل خرجت صالات كثيرة عن الخدمة نتيجة ظروف الحرب ومنها تعرضها للقصف بشكل جزئي أو كلي، ما أجبر الأهالي على التخلي عن إقامة الحفلات داخلها حتى وقت قريب.
أما اليوم فالأمر مختلف، هناك تقاليد أضيفت إلى تحضيرات الأعراس منها وجود مصورة خاصة للعروس لالتقاط الصور والمقاطع بشكل احترافي، كذلك وجود فرقة غنائية سواء للإنشاد أو الإيقاع، مسؤولة عن إحياء الحفل وتنظيمه وهي أمور اختيارية من أصحاب الحفلة، ولكنها باتت منتشرة إذ يكاد لا يخلو حفل زفاف في الصالات من وجود الفرقة.
في ركن خاص من صالة أفراح في مدينة إدلب، رتبت طاولة خاصة بالمنشدة ومساعدتها أو فرقتها ، ووضعت عليها آلة الدف التي تعرف بالمزهر، وأجهزة مكبرات الصوت “ميكروفون”، وبفلات، وجهاز لابتوب محمول، ومنها ما يكون معها جهاز (دي جي) لضبط الإيقاع. وعلى حافة الطاولة باقة ورد ملونة، وضع جانبها فنجانا قهوة، وقطع من الحلويات التي هي ضيافة خاصة بالفرقة الإنشادية.
وراء هذه الطاولة تجلس المنشدة لتحيي حفلتها في مدة لا تقل عن أربع ساعات متواصلة مقابل مبلغ مالي يتراوح بين 50 و100 دولار، إذ تختلف الأسعار بين الفرق الإنشادية حسب ما تفرضه كل فرقة، فيما تزداد الأجرة في حال كانت الحفلة بمدينة أخرى مثل سرمدا، الدانا، سلقين، أو غيرها من المدن القريبة من مركز المحافظة.
لم تتوقع ثريا عجايب، صاحبة فرقة “الثريا للإنشاد الديني وكافة المناسبات” أن تحظى بشعبية كبيرة في مدينة إدلب، وخاصة أنه لم يمض سوى عاماً و نصف على تأسيس فرقتها الخاصة بالحفلات سواء الدينية أو باقي المناسبات.
شغلت ثريا طيلة السنوات السابقة منصباً إدارياً في إحدى مدارس مدينة معرة مصرين مكان إقامتها الحالي، وعملت بالتدريس فترة طويلة، ونالت في طفولتها ريادة لتميزها بصوتها العذب، وحصلت على المركز الأول بالغناء على مستوى سوريا، وخرجت في بعثة إلى عدة دول منها تونس وروسيا وألمانيا حسب ما أخبرتنا.
تميز ثريا في الإنشاد والطرب، جعلها محط إعجاب صديقاتها ومعارفها الذين كانوا يقتنصون فرصة للجلوس معها والاستماع لغنائها في الجمعات النسائية والمناسبات العائلية، تقول: “إنها تبدع في الأناشيد الدينية وبطريقة تخشع قلوب الحاضرين”.
هذه الموهبة أصبحت فيما بعد مهنة لدى ثريا وفرقتها، وأسست فرقة إنشاد وطرب قبل عام ونصف من اليوم، لاحظت خلالها إقبالاً كبيراً من الأهالي على طلبها لإحياء الأعراس أو حفلات النجاح واستقبال الحجاج وغيرها من المناسبات، تقول: “شعرت أن الناس في إدلب متعطشة للفرح والسعادة، من خلال الإحساس الذي يصلها أثناء حضورها أي حفل نسائي، ومن آراء السيدات اللواتي يحضرن حفلاتها”، معتبرة أن هذه المحبة أثمن ما حصلت عليه منذ امتهانها الإنشاد.
تضيف أن هذا الصيف كان عامراً بحفلات النجاح سواء الامتحانات الثانوية، أو الإعدادية، واستقبال الحجاج، وحفلات الخطوبة والزفاف، وسهرات النساء الخاصة في المسابح أو المزارع، إذ كان العمل شبه يومي، يمتد الوقت من 3 إلى 6 ساعات تقريباً حسب الحفل أو المناسبة.
“لا تقتصر الحفلة على الغناء والرقص” تقول ثريا، فهناك جوّ من الفكاهة العفوية في تعاملها مع الحضور وفقرات متنوعة منها الحماسيّ ومنها الطربيّ الكلاسيكي ومنها الشعبيّ الذي تفضله السيدات.
يتخلل حفلات الزفاف إلقاء الزغاريد أو ” الهناهين” المعروفة ولكل وقت زغرودته الخاصة. تؤدي لنا ثريا واحدة من الزغاريد التي اعتادت تأديتها عند دخول العريس، “قوم انتقل يازين/ سهران طول الليالي ماغمضتلو عين/ وحياة من سبحولو في ظلام الليل/ غزلان مافي ببَلدنا وهل غزالي منين/ ليليللييش”.
ثم تتبعها بزغرودة أخرى عند دخول والد العروس: “أبو العروس (أو فلان) نحنا اليوم في ضيك/ ياشجرت الطيب وطاب اليوم ب فيك/ الله يخليلك بيك ياعروستنا/ والعمر الطويل إلك ولا بنيك..”.
ينقضي الفرح وتعود النسوة والشابات إلى منازلهن وفي جعبتهن الكثير من الانطباعات عن الحفل والفرقة التي أحيته، والمعازيم وحتى أهل العرس ذاتهم، ومنهن من تحجز الفرقة ذاتها لمناسبة شخصية لها بعد أن نالت إعجابها، ومنهن من تفعل ذلك تقليداً لصديقتها التي سبق وأن أقامت حفلة في منزلها.