ثلاث مهن بدّلها عبد الله منذ أن استأجر أحد محال المخيم الذي لجأ إليه في بلدة دير حسان شمالي إدلب قبل عامين. بادئ الأمر لم يكتب النجاح لمطعم الفلافل الذي افتتحه بسبب المنافسة من المطاعم المشابهة داخل وخارج المخيم، فاستغل حلول الصيف لتحويل مطعمه لمحل بيع المثلجات والمشروبات الباردة، إلا أنها مهنة موسمية توقف الطلب عليها مع اقتراب فصل الشتاء، فكان عليه اختيار مصدر دخلٍ أكثر استقراراً ويناسب جميع الفصول، فقرر أخيراً تحويل دكانه إلى مكان لممارسة لعبة الفيشة.
عدد من الرفوف أدرج عليها مجموعة أطعمة وبراد مشروبات، و طاولتا فيشة تتوسطان المحل يحاوط كل واحدة منهما أربعة شبّان، وضعف ذلك العدد يركن على مقاعد الانتظار منخرطين بأحاديث قد لا تناسب أعمارهم، سرعان ما يتحول معظمهم لمشجعين بعد تعالي أصوات اللاعبين ريثما يحين دورهم للّعب.
وسط هذا الضجيج يُشغّل عبد الله حواسه موزعاً ناظريه تارةً على إبريق الشاي المخمّر الذي يعدّه لزبائنه المعتادين على ارتشافه رفقة سجائرهم، وتارةً على الوقت لإنذار المتنافسين حال انتهائه، يقول: ” قلة الطلب و كساد المواد في المهن السابقة جعل جلّ طموحي تحصيل أجور المحل، على أمل تحسن دخلي في الأشهر القادمة، وهذا ما أسعى إليه في هذه المهنة”.
في المخيم ذاته ثلاثة محال منافسة، دخْل أصحابها مقرون بتلك اللعبة، ومعظم زبائنهم من المراهقين والأطفال، فطبيعة لعبة الفيشة قريبة من هذه المرحلة العمرية التي تميل للّعب، أما رأس مالها المقتصر على طاولة خشبية وأطعمة طويلة الصلاحية جعل ربحها أكيداً إذا ما قورنت بمحال الخضار والمواد الغذائية التي تتعرض لتلفٍ وكسادٍ مستمرين.
تبدأ اللعبة ويبدأ معها صراخ كلا الفريقين، المصحوب بضجيج الكرة التي تقذفها المقابض الخشبية المتحكمة بحركة مجسمات اللاعبين ضمن الطاولة، ثم تتعالى الأصوات مع الهدف الأول فيبدأ معه السب والشتم، تارة بين قطبي الفريق ذاته وتارة بين الفريقين المتنافسين، وتارات كثيرة من الأهالي المجاورين للصالة وأكثر العبارات ترداداً: ” يلعن أبوكم على أبو اللي جابكم لهون”.
عمر ورياض وأسامة وأحمد، أربعة من أصل 318 ألف طفل تسربوا من المدرسة شمالي غربي سوريا منذ بداية موجات التهجير بحسب “فريق منسقو الاستجابة”، وهم عينة أخذناها من مرتادي الصالة، تتراوح أعمارهم بين الخمسة عشر والعشرين عاما، أدمن الشبان الصغار اللعبة فباتت تقضم معظم يومهم، نستعرض مع المراهقين الأربعة الذين يتجهزون للمنافسة فيما بينهم على طاولة الفيشة تفاصيل أحد أيامهم.
والفيشة واحدة من أكثر الألعاب ضجيجاً يمارسها روادها ضمن طاولة خشبية وفق مقاسات بطول 121 سم وعرض 61 سم وارتفاع 80 سم، تحاكي لعبة كرة القدم الدولية، وتلعب من قبل فريقين كل فريق مكون من شخصين يتناوبان بشراسة على ضرب الكرة وصدها عبر مجسمات خشبية صغيرة لأحد عشر لاعباً، تم تثبيتهم على قضبان معدنية ويديرها شخصان أو أربعة أشخاص بواسطة قبضات خشبية على طرفي الطاولة، واللاعب هو من يمثل الحارس والمدافع ولاعب الوسط والمهاجم.
بثياب نظيفة وعينين تترقبان الكرة ويد مشدودة على مقبض اللعب يأخذ عمر ذو الـ 15 عاماً الحديث، يقول بكلمات متقطعة تتوقف مع كل تسديدة: “اعتدنا تلك الألفاظ المصحوبة بكلمات نابية وشتائم متبادلة، لكننا لا نقصد بها الإساءة لبعضنا البعض”.
عمر هو ذاك الفتى المدلل الذي جاء بعد ست بنات ولا يرفض له طلب حتى حين تعلق الأمر بتركه للدراسة بعد رسوبه في الصف التاسع من مرحلة التعليم الأساسي، وبالرغم من أنه لا يجيد القراءة ولا الكتابة استطاع إقناع والديه أيضاً برغبته بالعمل في إحدى المكتبات.
ينفث عمر دخان سيجارته بعد سحبة عميقة، يقول محاولاً تبرير تركه للدراسة: ” ماذا كسب الذين أكملوا دراستهم الجامعية؟ والدي مهندس فُصِل من وظيفته بعد التحاقه بالثورة، وخسر الطلاب الجامعيون جامعاتهم وجلسوا في بيوتهم كغيرهم!”.
قبل عامين تأثر عمر برفاقه المنتسبين لأحد الفصائل المقاتلة، فقرر الالتحاق بأحد المعسكرات التدريبية ومن ثم الانضمام للمرابطين على خطوط التماس مع قوات النظام حيث قتل اثنان من رفاقه بعد انفجار لغم أرضي أثناء رباطهما على محور جبل الزاوية الذي يشهد محاولات تقدم للجيش بشكل مستمر.
اضطربت العائلة بعد علمهم بانضمام ولدهم الوحيد لمعسكر تدريب لقوات اقتحام يتبع لهيئة تحرير الشام وتعد من أخطر المعسكرات القتالية، فالمنتمون لها ينفذون عمليات تسلل على خطوط الجيش بالإضافة لكونهم وحدة الاقتحام الأبرز.
على الفور تواصل والد عمر مع قائد المعسكر لإعادة ولده مبرراً أنه الابن الوحيد للعائلة، ولقاء تخليه عن الفكرة عرض على عمر السماح له بقضاء وقته بما يريد، فكانت صالات الألعاب خياره الأمثل. يقول والد عمر: ” لن أستطيع استيعاب فكرة خسارة عمر بعد أن رزقناه بشق الأنفس، كذلك أمه وأخواته، لذلك فتحت كل الخيارات أمامه، المهم أن يبقى بيننا”.
يتساءل بحث أصدره مركز حرمون للدراسات المعاصرة حمل عنوان ” جيل شب على وقائع الحرب.. أطفال الأمس مراهقو اليوم” عن أوضاع مراهقي سوريا، خاصة في المناطق الواقعة خارج سلطة نظام دمشق كاشفاً أن “جُلُّ ما نعرفه عنهم أنهم كبروا مُحمّلين بخبرات العنف الناجم عن الحرب التي تركت فيهم بصمات عميقة وواضحة. كبروا وبلغوا مرحلة الفتوة/ المراهقة .. فوجدوا أنفسهم وسط ظروفٍ اجتماعية – اقتصادية وتعليمية في غاية السوء؛ فقد وُلدوا في أماكن معينة، لكنهم شبّوا في أماكن أخرى: نزوحًا ولجوءًا…”
ظروف رياض 20 عاماً المختلفة عن ظروف شريكه عمر لم تمنعه من موافقته الرأي فهو الآخر ترك دراسته العام الماضي. فَقَدَ رياض قبل ثلاث سنوات والده جراء التقدم الأخير لقوات النظام على بلدة سراقب ضمن معركة وصفت بأنها من أقوى المعارك التي خاضتها فصائل المعارضة بعد أن زجت ميليشات مدعومة من إيران و مساندة لنظام بشار الأسد كامل قوتها في تلك المعركة التي انتهت بسيطرة الأخيرة على البلدة.
فقدان رب الأسرة ونزوح العائلة تزامنا مع تمرد الابن البكر رياض على والدته وإخوته الصغار، تقول والدته إنه صار يزور المنزل كالضيوف وبات ينام عند رفاقه دون إخبارها ولم يعد يلبي طلباتها.
لا تفارق سيجارة التبغ العربي فم رياض طيلة فترة لعبه التي لا تقل عن ست ساعات يومياً، وقد ورث محفظة التبغ من والده، يقول إنه يبدو أكبر سنا بخلاف أصدقائه الذين يحملون علب السجائر التقليدية، و يتصدر رياض قائمة اللاعبين الأوائل في الصالة كما أنه الأكثر شراسة بينهم ودائماً ينتصر عليهم في شجاراتهم.
خمس صفحات خصصت لرياض ضمن دفتر الديون بلغ مجموعها 1700 ليرة تركية كانت كفيلة بتوجيه عبدالله مالك الفيشة إنذاراً بالفصل لرياض وهو ما دفعه لبيع سلة إغاثية منحت لوالدته الأرملة لتسديد قسم من المبلغ. على الرغم من أنه ترك الدراسة بحجة العمل للإنفاق على العائلة، وهو ما استطاع فعله مدة شهرين قبل أن يتعلق بصالة الفيشة ويترك العمل بحسب والدة رياض.
قبل أشهر أصدر “فريق منسقو استجابة سورية” تقريراً بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال والذي يوافق 12 يونيو/حزيران، قال فيه إنّ عدد الأطفال المتسربين من التعليم في مناطق شمالي غربي سورية فقط وصل إلى 318 ألف شخص، بينما وصل عدد الأطفال المتسربين من التعليم في عموم سورية لنحو 2.5 مليون، معظمهم توجه للعمل في مهن مختلفة قد تكون خطرة.
رسوب أسامة 19 عاماً الذي تكرر لعامين من الصف الثالث الثانوي كان أحد أسباب تسربه من التعليم، أما سبب رسوبه فيفسره والده عبد القادر بتأثر سلوكه برفاقه الجدد بعد التحاقهم بالمخيم حيث منحوا فيه سكناً جديداً. يقول: ” كانت علاقات أسامة محصورة بزملائه داخل المدرسة، وقد تفوق بدراسته في الصفين الأول والثاني الثانوي في مدرسة الوحي الشريف الشرعية، وحفظ اثني عشر جزءاً من القرآن الكريم بالإضافة لمواظبته على صلاة الجماعة في المسجد”.
“لم يدم الحال طويلاً” يتابع والد اسامة، فبعد تعرفه على أشخاص جدد بدأ يتردد على صالات الألعاب، وتقلص طموحه من الحصول على المركز الأول في دراسته الثانوية إلى النجاح فقط وهو ما لم يستطع تحصيله”.
لم تقف التغيرات التي طرأت على أسامة عند ذلك الحد، فقبل أسابيع ألقي القبض عليه من قبل جهاز الأمن العام متلبساً بالجرم المشهود هو ومجموعة من رفاقه يتعاطون الحشيش ليحكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر، فأجبر والده على دفع غرامة مالية قدرها ستمائة دولار حتى تم الإفراج عنه، بينما ما يزال أسامة ينكر التهمة.
يحاول أحمد 19عاماً ورابع أعضاء الفريق حسم نتيجة التعادل قبل أن ينتهي الوقت الذي اتفقا عليه مع صاحب الصالة، فهنالك مزيد من الشبان بالانتظار لأخذ مكانه ورفاقه. لم يستطع خلع شخصية المقاتل الذي يتجهز للاقتحام أثناء محاولته حسم النتيجة، كيف لا وقد سبق له أن انضم لأحد الفصائل المقاتلة إرضاءاً لرغبة فتاة أحبها مع بداية نزوحهما من بلدتهما، كانت ترى فيه المقاتل الشرس الذي سيعيد بلدتهما، وكانا يخططان لعقد زفافهما في البلدة بعد تحريرها من يد قوات النظام.
طال الحلم ولم يكتب لذلك التخطيط النجاح، فالفتاة التي أحبها أحمد تزوجت قبل أسابيع قليلة من مهندس مدني، وهو ما دفعه للامتناع عن محادثة البنات ظناً منه أن ” كل البنات خائنات يركضن خلف المال”.
حسم أحمد نتيجة المباراة بهدفه الأخير معلنا الفوز بعد أن ضرب كفه بكف زميله، وبعد زفير عميق أخبرنا بأن ما حدث لن يثنيه عن حلمه بتحرير بلدته من قوات النظام، ومتابعة التحرير حتى دمشق واقتحام القصر الجمهوري والقضاء على بشار الأسد وإعلان تحرير سوريا بشكل كامل. يسرد أحمد حلمه الذي سرعان ما بددته يد عبدالله مالك الصالة التي رَبَتَ بها على كتفه مطالباً إياه بمحاسبته وتسديد ما عليه من ديون سابقة.
قد لا تمثل حالة المراهقين الأربعة كل أقرانهم من نفس الفئة العمرية إلا أنها تمثل شريحة ليست بالقليلة منهم في المنطقة، وهذا ما أكدته دراسة أجريت في تموز 2015 استهدفت المراهقين، بعنوان «حول أوضاع المراهقين السوريين في ظل الحرب»، شملت 120 مراهقاً وحوالي 200 أباً وأماً وشخصية مجتمعية وأُنجزت في نطاق مبادرة الأمم المتحدة من خلال مؤسسة الرحمة الخيرية.
خلُصت تلك الدراسة إلى أنّ ” 8% فقط من المراهقين يشاركون في النقاشات السياسية، و 74% لا يقومون بأي نشاطات خارج المدرسة، و 22% تركوا التحصيل العلمي لإعالة أسرهم، و76% يشعرون أن دراستهم مهددة بالانقطاع، في حين قال حوالي 30% ممن قابلهم معدّو الدراسة (بما في ذلك البالغين) أنهم يلجؤون إلى خرق القانون (أي السرقة عادة)، وإلى التمرد والكآبة، في حين ذكر 20% المجموعات المسلحة، و10% ذكروا المخدرات”.
الباحثة الاجتماعية منى إسماعيل ترى أن معظم المراهقين يعيشون حالة تمرد على المجتمع بدءاً من العائلة ووصولاً إلى مؤسساته، نتيجة أحداث الحرب التي مرّوا بها والتي انعكست على سلوكهم بشكل كلّي، إذ باتوا أكثر حدة وقسوة عن غيرهم من المراهقين في مجتمعات مختلفة، يعود ذلك لهجرة الكثير منهم عن بلدته قسرا، وتعرض معظمهم لمواقف وأحداث قد تكون إصابة أو اعتقال أو موت أحد أفراد العائلة، خلّف لديهم نقمةً وشعوراً بالتمرد واللامبالاة بما يعيشونه وما هو قادم.
تقول: ” لم تعد توجهات المراهقين خلال العقد الأخير هي ذاتها التي كانت قبل انطلاقة الثورة السورية فقد بدا الاختلاف جذرياً من المنافسة على الدراسة والتسابق في تطبيق صيحات الموضة المقرونة بالظروف كالشعر الطويل واللباس العسكري. وباتت أحاديث الحب محصورة بشريحة ضيقة بعد سيطرة التيار العسكري الديني على المنطقة وسادت أحاديث الحرب والرباط على الجبهات”.
وسط الضجيج والدخان الكثيف المتشكل عن سجائر التبغ يكمل المراهقون الأربعة بعد تسديد مبلغ بسيط من ديونهم المتراكمة سهرتهم في لعب الورق حتى بزوغ الفجر، فذلك هو الروتين الذي اعتادوا عليه منذ تعارفهم داخل دكان الفيشة قبل عامين، وهذا هو الروتين الذي اعتاد عليه عبدالله صاحب المحل، الذي بات يعرفهم ربما أكثر من ذويهم.