تزكم الأنوف رائحة السمك المتوزع على بسطات متنقلة داخل سوق السمك في مدينة الدانا، أنواع وألوان وأحجام مختلفة تأخذ مكانها، قسم منها مجمّد يحمل العلامة التركية ترتفع فوقه لائحة أسعار تجذب الزبائن، إذ تنقص عن أسعار السمك الفراتي بمقدار النصف على الأقل، وتفترق عنها أيضاً بأنواع لم يكن مألوف وجودها في أسواق المحافظة.
يجمع بين السمك الفراتي والتركي وصوله ميتاً إلى إدلب، ويباعد بينهما الأسعار والطعم، إذ يفضل من تحدثنا معهم الفراتي عن التركي، يقول عبد الله الأنيس “إن السمك الفراتي يحمل الطعم الحقيقي المألوف بخلاف السمك التركي الذي سرعان ما يفقد نكهته بمجرد أن يزول عنه التجمد”.
رغم موته يصل السمك الفراتي “طازجاً”، لكن رحلته إلى إدلب لا تستغرق يوماً على الأكثر، عكس ما يتطلبه وصول السمك التركي والذي يحتاج لوقت طويل ما يعرضه للتلف من الداخل بتأثير التجمد والحرارة عند بيعه”، بحسب الأنيس.
الاختلاف يكون حتى على صعيد الرائحة وأنت تقلب بين يديك سمكاً ما يزال ينزلق بينهما، بعكس ما يثلج يديك وأنت تبعدهما عن سمك وصفه زبائن في السوق “بلا روح”، لكن فارق السعر يحسم المعركة، فبثمن كيلو غرام واحد من السمك الفراتي يمكن شراء 2 كيلو أو أكثر من السمك التركي. يقول عمار الاسماعيل ” عندي تسع أفراد بدل ما أشتري كيلو كرب فراتي بشتري كليين كرب تركي، الدخل المادي محدود وعلى قد فراشك مد جريك”.
يقول أبو ماهر (صياد وتاجر سمك في مدينة جرابلس) إن كميات السمك الفراتي تزيد بين أشهر أيار وأيلول من كل عام، ثم تبدأ بالتناقص حتى نهاية العام وتصبح “بالكاد تكفي أهالي المدينة”، فيتوقف خلال هذه المدة توريد السمك إلى إدلب بشكل شبه تام.
ويتوقف صيد السمك الفراتي خلال الأشهر الأربعة الأولى من كل عام، وهي فترة تكاثر الأسماك، يقول أبو ماهر ” هنالك قرار من المجلس المحلي وعُرف بين الصيادين بتوقيف عملية الصيد خلال مرحلة تكاثر الأسماك خلال تلك الفترة، حتى أننا نعتمد على أسماك المسامك الموجودة في المدينة”.
وبحسب أبو ماهر فإن هنالك إجراءات مشددة من قبل المجلس المحلي في مدينة جرابلس بخصوص الصيد خلال فترة المنع تقضي بفرض غرامة مالية قدرها 2000 دولار على الصياد المخالف، إضافة لمصادرة عدة الصيد بشكل كامل.
قلّة الكميات واقتصار التوريد على أشهر محددة في السنة يزيد من سعر السمك الفراتي الواصل إلى إدلب، لكن عوامل أخرى يضيفها أبو ماهر تسهم إلى حد كبير في عدم قدرة سكان إدلب على شراء السمك الفراتي، منها مرور السمك إلى محلّات عدد من التجار كل منهم يضيف ربحه قبل وصوله إلى البائع.
وتمر رحلة السمك الفراتي بخمسة محطات، بحسب ما يشرح أبو ماهر، من الصيادة الذين يضعون أسعاراً متفاوتة لصيدهم لا يحكمها رقابة وتعتمد على العرض والطلب، لتصل إلى تجار السمك في جرابلس والذين يتحكمون بأسعار بيعها إلى تجار إدلب بعد وضع ربح عليها، لينقلها التجار إلى أصحاب محلات وبسطات السمك قبل أن تصل إلى الزبون.
عند كل محطة يحمّل السمك عبئاً سعرياً زائداً، يضاف إليه الإتاوات التي تفرض من قبل الحواجز المنتشرة من جرابلس حتى معبر الغزاوية الذي يصل عفرين بإدلب، بحسب وائل الحموي، تاجر سمك في مدينة جرابلس. عند معبر الغزاوية توزن براميل السمك الفراتي ويفرض عليها ضريبة من قبل القائمين على المعبر، ويقدّر الحموي ما يدفعه التجار عن كل كيلو غرام ليس من السمك بل من الوزن الإجمالي للبراميل بين ليرتين إلى أربع ليرات تركية.
تستغرق رحلة وصول السمك من الفرات إلى إدلب نحو عشرين ساعة، وهو ما يفسّر موتها، خاصة وأن التجار يعمدون إلى إفراغ براميل السمك من المياه لتلافي الضرائب التي تحسب على الوزن الإجمالي لا وزن السمك وحده.
ليس ذلك السبب الوحيد في وصول السمك الفراتي ميتاً، لكن طرق الصيد المعتمدة غالباً من قبل الصيادة، وهي الصعق بالكهرباء أو طريقة التفجير، تتسببان بموت السمك وطوفانه على سطح المياه، وتقتل في الوقت نفسه صغاره وبيوضه ما يهدد الثروة السمكية الفراتية، دون وجود أي قوانين ناظمة لعملية الصيد ومنع الطرق التي تهدد وجودها.
بالمقابل ما يزال بعض الصيادة يعتمدون الطرق التقليدية (الشبكة والسنارة) في صيدهم، لكن نسبتهم قليلة مقارنة بمعتمدي الطريقتين السابقتين.
الزيادات السعرية المفروضة على السمك الفراتي و رحلته الشاقة وقلة كمياته أفسحت المجال للسمك التركي المجمد ليحتل معظم مساحة بسطات ودكاكين السمك في إدلب، وبأسعار منافسة، إذ يباع، على سبيل المثال، سمك الكرب التركي بثلاثين ليرة تركية في حين يزيد سعر الفراتي من النوع ذاته عن سبعين ليرة تركية، كذلك الأمر بالنسبة لسمك البوري وغيره من الأصناف الأخرى.
يقول أبو سطيف، بائع سمك في سوق الدانا، “لجوء الأهالي إلى الأصناف التركية يأتي نتيجة الفارق في السعر بين الأصناف السورية والأصناف التركية من النوع ذاته”.
في زحمة المنافسة السعرية على أسواق السمك في إدلب يسبح سمك السلّور وحده طازجاً، إذ يحصل عليه الباعة من مسامك في سهل الغاب، بعيداً عن التجميد والاستيراد والرحلة القاسية المليئة بالإتاوات والرسوم.