يُترك المفقودون من سوريين يحاولون الوصول إلى أوروبا عبر بلغاريا لقدرهم، يستعينون بالدعاء والحظ أملاً في إيجادهم داخل الغابات الكثيفة قبل أن يقضوا نتيجة التعب والجوع، وسط غياب لفرق بحثية تساعدهم عدا فرق تطوعية يمارس عليها التضييق من قبل السلطات المحلية.
تستصرخ أم فراس ضمير كل من يستطيع مساعدتها في العثور على ولدها بعد أن فقدت الاتصال به منذ عشرة أيام، “منشان الله حدا يساعدني لاقي ابني المفقود”، تخشى أن يكون مصيره مشابهاً لمصير كثر من السوريين الذين لم يعثر لهم على أثر حتى الآن.
رحلة البحث عن المفقودين تمرّ بطرق عديدة، أولها وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة منصة فيسبوك الملاذ الوحيد للأهالي البعيدين عن أبنائهم، حيث يستحيل الوصول إلى بلغاريا والبحث عنهم. ولهذا الشأن أنشئت مجموعات وصفحات عديدة متخصصة للإبلاغ عن المفقودين، ينشر فيها اسم المفقود بالكامل مع صورته وتاريخ ومكان فقدانه أملاً في تلقف أي معلومة عنهم.
تقول أم فراس، من سكان إدلب “فقدت التواصل مع ابني، آخر اتصال بيني وبينه كان عند وصوله إلى غابات في بلغاريا، شعرت بحرقة شديدة، فأيدينا مكبلة ولا يمكننا الانطلاق للبحث عنه، فليس هناك تأشيرات دخول للسوريين، والسفر بطريقة غير شرعية تعني المخاطرة بحياتنا، وقد يصبح مصيرنا كمصير ابني المفقود، عدا التكلفة المالية الباهظة”.
وتضيف “لم يكن لديّ حل، سوى كتابة منشور على فيسبوك للإبلاغ عن فقدان ابني، دوّنت كل المعلومات مع إرفاق صورته، عسى أن يصلني خبر عنه يثلج قلبي، لكن أغلب الأشخاص أخبروني أنه غالباً تم القبض عليه من قبل السلطات البلغارية وسُلّم إلى تركيا، حيث سيسجن عدة أيام ثم يُطلق سراحه، هذا الخبر أفرحني وأتمنى أن يكون هذا ما حصل معه، وألا يكون قد توفي في الغابات”.
حال أم فراس مثل حال كثر من العائلات، إذ تعج صفحات فيسبوك بأخبار يومية عن مفقودين، غالباً دون جدوى أو خبر، وأحياناً بأخبار غير مفرحة.
من صفحات فيسبوك تتلقف فرق تطوعية، تحوي أشخاصاً يعرفون هذه الغابات جيداً ويستطيعون الوصول إليها، البلاغات، ليبدؤوا البحث عن المفقودين ضمن مساحات شاسعة وطبيعة جغرافية وعرة تحول دون قدرتهم على إنقاذ أو إيجاد أكثر المفقودين.
مجموعة الإنقاذ الموحد، إحدى المجموعات التي لعبت دوراً هاماً في مساعدة الأهالي في البحث عن ذويهم المفقودين، فعند تلقيها أي بلاغ عن شخص مفقود، تقوم بجمع المعلومات عنه مع إرفاق صور وفيديوهات له وموقع فقدانه، ويتم إرسالها لفريق تطوعي متعاون معها، ليبدأ رحلة البحث عن المفقود.
يقول مدير مجموعة الإنقاذ الموحد إيهاب الراوي، لموقع فوكس حلب: “نظراً لكثرة المفقودين في الغابات، أسست بالتعاون مع صحفية بلغارية، فريقاَ تطوعياً يضم أشخاصاً أوروبيين متطوعين، نزودهم بمعلومات عن المفقود، فيقومون بإبلاغ السلطات البلغارية أو الطوارئ (112) للقيام بالبحث، لكن تلك السلطات غالباً ما تماطل في الاستجابة، وتدّعي أنها ذهبت للبحث في الغابات ولم تجد أحداً”.
في حال لم تُفلح السلطات البلغارية في البحث، كما تدّعي في بعض الأحيان، يأخذ منها الفريق التطوعي الإذن للقيام بالبحث بنفسه مجدداً، وفي حال العثور على جثة المفقود أو العثور عليه حيّاً، يتواصل الفريق مع الشرطة والإسعاف للحضور إلى المكان، لإسعاف المفقود فوراً أو نقل جثته إلى المستشفى.
يضيف الراوي: “الفريق التطوعي الذي يساعدنا في البحث، هو منظمة غير رسمية ويعمل على نفقته الخاصة، لذلك يخصص يوماً أو يومين في الأسبوع، للبحث عن عدة مفقودين، نجح الفريق عدة مرات في إنقاذ أشخاص يلفظون أنفاسهم الأخيرة”.
يعمل المتطوعون في ظروف نفسية صعبة، فهم مضطرون لرؤية جثث متفسخة في بعض الأحيان، إضافةً لتعرضهم أكثر من مرة للمضايقة من قبل السلطات البلغارية، التي تطلب منهم عدم التدخل في البحث والعودة إلى بلدهم.
البحث في الغابات لا يقل صعوبة عن البحث في المستشفيات والتواصل مع السلطات البلغارية لاستلام الجثامين، إذ تقوم الأخيرة بنقل المتوفين الذين عثر عليهم إلى مستشفى Lozenetz، لمعاينة الجثة و كتابة تقرير الوفاة، ومن ثم توضع الجثة في الثلاجة لمدة شهر واحد، على أمل أن يأتي الأهل لاستلامها، وفي حال عدم قدومهم تدفنها السلطات في بلغاريا.
يقول مدير مجموعة الإنقاذ الموحد: “في بعض الأحيان عندما كنا نرسل الفريق التطوعي للبحث عن مفقود، ويجد في مكان اختفائه قفازات طبية، نعلم حينها أن هناك جهة ما، جاءت إلى المكان ونقلت الجثة، لذا نطلب من ذوي المفقود أن يتصل بالمستشفى البلغاري للاستعلام عن ذويهم”.
مؤيد العمر لاجئ سوري في ولاية غازي عنتاب التركية، فقد التواصل مع شقيقه الذي سافر إلى أوروبا، واختفى في غابات بلغاريا، يقول العمر: مضى أسبوعان ولم نعرف شيئاً عن أخي، البحث أوصلنا إلى أشخاص أخبرونا أن كل شخص لديه مفقود في غابات بلغاريا ومضى على اختفائه أكثر من 10 أيام، عليه التواصل مع مستشفى Lozenetz، عبر الاتصال مع رقم الطوارئ الخاص بالمستشفى الموجود على موقعه في خرائط جوجل، إضافة لموقعه الإلكتروني الذي يتيح التواصل مع المستشفى.
يطلب من مستلم الجثة إجراء فحص DNA لإثبات صلته بالجثة، وأن يكون من أقرباء المتوفى من الدرجة الأولى وهو ما يصعب تحقيقه في حال كثير من المفقودين السوريين، وفي الوقت ذاته يتطلب توكيل محام في بلغاريا لاستلام الجثمان وإرساله إلى أهله مبالغ مالية ضخمة لا تتوفر عند معظم العائلات السورية، دون وجود جهة أو منظمة تدعم هذا الخيار، ما يضطر أهالي المفقودين لدفن ذويهم في بلغاريا بعيداً عن عائلاتهم.
في المقابل كثير من المهاجرين المفقودين الذين توفوا في الغابات لم يتم العثور على جثثهم، نظراً لكثرة الوفيات والمساحات الشاسعة لغابات بلغاريا، حيث تُركت جثثهم في العراء تتفسخ وتنهشها الحيوانات.
يقول سامر عرجة الذي خاض رحلة الهجرة إلى أوروبا: “كنا نمشي ليومين أو ثلاثة بلا توقف، ومن يتوقف يُترك وحيداً في الغابات، أحد الأشخاص سقط أرضاً وفقد القدرة على السير، طلبنا من المهرّب أن يسمح لنا بالاستراحة قليلاً، ريثما يستطيع ذلك الشاب متابعة المسير”.
يتوقف سامر قليلاً عن الكلام، يمسح وجهه قبل أن يتابع: “رفض المهرب التوقف لإسعاف المصاب. أكملنا الطريق و بقي ذلك الشاب وحيداً في الغابات، بعد أيام وجدنا صورة جثته وقد نهشتها الكلاب منشورة على أحد المجموعات، حيث توفي في المكان ذاته الذي تركناه فيه، ما جعلني أشعر بقهرٍ شديد، لم يكن أحد قادراً حينها على فعل شيء لمساعدته، فكل مهاجر يريد أن يصل إلى طريق النجاة بأسرع وقت”.
مجموعة الإنقاذ الموحد أبلغت عن مشاهدة عشرات الجثث المشوّهة، نهشت لحومها الكلاب والضباع والخنازير، وفي بعض الحالات وجدوا أعضاء بشرية وعظاماً فقط، كما أن هناك مهاجرون توفوا داخل الغابات، وقام زملاؤهم بدفنهم دون أن يعرف ذويهم شيئاً عن مصيرهم.
يقول إيهاب الراوي: “هناك جثة عثرنا عليها، وقد بدأت تتفسخ والدود يخرج منها، رغم أننا عثرنا عليها بعد يومين فقط من الإبلاغ عن فقدانها، لكن بسبب الجو الحار تفسخت الجثة بسرعة، وبسبب فظاعة المشهد، قمنا بإجراء تعديل على الصورة قبل إرسالها إلى الأهل حفاظاً على مشاعرهم”.
يتابع الراوي “المهربون متورطون بقتل مهاجرين، فعندما يتعب المهاجر ولا يستطيع إكمال المسير، يقوم المهرّب بنزع اعترافات منه على أنه وصل إلى النقطة المتفق عليها، حتى يفك الشيفرة كي يستطيع المهرّب قبض المال من الكفيل، وبعدها يقوم المهرّب بقتله، وصلتنا صور جثث لأشخاص تظهر عليها آثار ضرب وتعذيب”.
المفقودون الذين يتم القبض عليهم من السلطات البلغارية أكثر المفقودين حظاً، إذ يتم إعادتهم وتسليمهم للسلطات التركية. يقول أبو رضوان سحاري، من سكان مدينة إعزاز ” بعد مضي نحو شهر على فقدان ابني في غابات بلغاريا، لم يعد لدينا أمل أن يكون على قيد الحياة، استفسرت كثيراً عن مصيره لكني لم أحصل على أي معلومة، وسلّمت بفكرة أنه توفي، لكن زوجتي ظلت متمسكةً بالأمل، وتشعر أن ابنها مازال حياً”.
يقول أبو رضوان: “في إحدى المرات اتصل بي رقم غريب، لأ تفاجأ أنه ابني رضوان يخبرنا أنه على قيد الحياة، وأنه طوال الفترة الماضية كان مسجوناً لدى الشرطة التركية في سجن ضمن ولاية أدرنة، بعدما أمسكته السلطات البلغارية في الغابات وسلّمته لتركيا”.
يسلّم المهاجر الذي يقبض عليه في بلغاريا، إن كان بصحة جيدة، فوراً لشرطة الحدود التركية، التي تحتجزه في مخيم يبعد نحو 70 كم عن مدينة أدرنة، وتتفاوت مدة الاحتجاز بين شخص وآخر، لكنها تتراوح بين عشرة أيام إلى الشهر وأحياناً تستمر لشهرين.
أما إن كان المهاجر الذي قبضت عليه السلطات البلغارية بحالة صحية سيئة، فإنها تنقله أولاً إلى إحدى المستشفيات، ثم تسلّمه بعد علاجه إلى حرس الحدود التركي، حيث يتم احتجازه، وفي حال كان الموقوف يحمل بطاقة الحماية المؤقتة “الكمليك” يطلق سراحه كي يعود إلى ولايته، أما إن كان لا يحمل أوراق ثبوتية، فتقوم الشرطة التركية بترحيله إلى سوريا، ليبدأ رحلة هجرة جديدة من الصفر، وقد يعزف عن الفكرة تماماً.
تسلب السلطات البلغارية ممن تقبض عليهم كل ما يملكون من أموال وهواتف وأشياء ثمينة، وفي حال لم يمكن المهاجر يملك شيئاً يتعرّض للضرب المبرّح قبل ترحيله إلى تركيا، وفق ما أفاد مدير مجموعة الإنقاذ الموحد إيهاب الراوي، بحسب شهادات عشرات المهاجرين.
رغم كثرة حالات الوفيات في غابات بلغاريا، إلا أن أغلب المهاجرين يسلكون هذا الطريق، لتجنب ركوب أمواج البحر، وكونه أقصر مسافةً من طريق اليونان وأقل تكلفة و تشديداً أمنياً من الحدود التركية اليونانية.