نزحت صناعة الحصر مع أصحابها من ريف إدلب الجنوبي إلى مدن وبلدات في شمال غربي سوريا، تكسّرت آلات خلال النقل وتعرضت أخرى للتلف والصدأ، غادر الصناعيون ورشهم إلى تركيا أو تفرقوا في المناطق، غابت المقومات الأساسية وأهمها الكهرباء وأسواق التصريف، جميع ذلك تسبب في تراجع هذه الصناعة التي اشتهرت بها إدلب عن غيرها من المحافظات وتصدرت إنتاجها لسنوات كثيرة ماضية.
يكتفي عمر، صاحب معمل لصناعة الحصر في معرشورين، أشهر قرى صناعة الحصر في إدلب قبل نزوح سكانها في عام 2020 إثر سيطرة قوات النظام على البلدة، بتشغيل آلتين (إحداهما لطحن البلاستيك وأخرى لتحويله إلى حبيبات) من أصل ست آلات قديمة نقلها من بلدته إلى ريف حلب الغربي.
يبيع عمر اليوم الحبيبات البلاستيكية إلى معامل الحصر في المنطقة والتي كان يزيد عددها في معرشورين وحدها عن 150 ورشة ومعملاً لم يتبقى منها اليوم سوى 15 ورشة موزعة بين مناطق إدلب وأربعة معامل في مدينتي الباب ومارع بريف حلب.
في إحدى زوايا أرض ورشة عمر المسورة بين بساتين الزيتون ست آلات قديمة إلى جانبها أكياس من الحبيبات البلاستيكية وتفترش الأرض آلاف الحبيبات الملونة بانتظار تعبئتها تمهيداً لبيعها.
يقول عمر ” الآلات متوقفة عن العمل منذ نقلها في عام 2020″، ويرجع السبب إلى “مغادرة معظم العمال والفنيين الذين كانوا يعملون في منشأته وتشتتهم في مناطق متباعدة أو في تركيا، إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع الأمنية في المنطقة”.
بمرور الوقت تعرضت الآلات المتوقفة للصدأ أو تعطّلت، ويحتاج إعادة تأهيلها من جديد لمبالغ مالية كبيرة يقول عمر إنه لا يملكها، خاصة مع ضياع قسم كبير من رأس المال بسبب تكاليف المعيشة القاسية وطول مدة التوقف.
ليست ورشة عمر الوحيدة التي توقف قسم منها عن صناعة الحصر، إذ يعتبر نفسه أفضل حالاً من أصحاب ورش ومعامل حصر أغلقت أبوابها تماماً أو أشهرت إفلاسها، مقابل ورش ما تزال تصارع للبقاء.
أحمد، صاحب معمل حصر في معرشورين سابقاً، اضطر لنقل آلاته إلى أورم الكبرى ثم إلى منطقة قريبة في إدلب لإعادة تشغيلها، وبتكلفة قدرها بنحو 15 ألف دولار. يقول أحمد “خلال السنة الأولى من النزوح اضطررت إلى إيقاف العمل لسنة كاملة، ومع بداية 2021 أعدت تشغيل 8 آلات من أصل 14 آلة أملكها”.
في ورشة أحمد التي شيدها “على العضم” تلوّن خيوط النايلون المعلقة جدران الورشة العارية وتعيد له ذاكرة صناعة الحصر في معرشورين، حين كانت أهم المناطق على مستوى سوريا في هذه الصناعة التي طورها أبناء القرية وباتوا يصنّعون بأنفسهم آلات نسج الحصر المعقدة، على حدّ قوله.
ويضيف أحمد أن “صناعة الحصر تراجعت بشكل كبير خلال العامين الأخيرين، وأغلقت معظم المعامل والورش أبوابها”، مضيفاً أسباباً أخرى لتراجعها أجملها بـ “قلة قطع التبديل الخاصة بالآلات، وخسارة هذه الصناعة لكوادرها وفنييها”، مشيراً إلى فقدان حالة التكامل بين أصحاب رؤوس الأموال والفنيين والعمال المهرة، خاصة وأن أصحاب المعامل في تركيا من السوريين، استقطبوا معظم الفنيين القادرين على إصلاح الآلات، ما تسبب بضغط كبير على من بقي منهم، إذ يمكن للفني أن يتنقل بين أكثر من معمل لتأهيل الآلات التي تحتاج إلى وقت لإصلاحها.
انحسار سوق التصريف بالسوق المحلي فقط، سبب آخر يضيفه أحمد لتراجع صناعة الحصر التي كانت تصدّر سابقاً إلى أسواق العراق وتركيا ولبنان والمغرب والجزائر قبل عدة سنوات.
ضعف سوق التصريف يجبر أحمد على تشغيل نصف آلاته وتقليل عدد ورديات العمال، فبعد أن كان لديه أكثر من 20 عاملاً وفنياً يعملون على مدار الساعة، يقتصر نشاط ورشته اليوم على وردية واحدة أو اثنتين وبيد عاملة أقلّ، باستثناء موسم الشتاء الذي يزيد فيه الطلب على شراء الحصر.
مشكلات وتحدّيات أخرى يصطدم بها أصحاب معامل الحصر وتحول دون إعادتها لسابق عهدها، يقول أحمد إن غياب الكهرباء والاعتماد على مولدات الطاقة أبرزها، إذ تزيد من تكلفة التصنيع وتضعف الإنتاج مقارنة بالمعامل القليلة الموجودة في مناطق الباب ومارع، حيث تتوفر الكهرباء التركية هناك.
يقول أحمد إنه حاول الاشتراك بخط كهربائي إلا أنه اصطدم برفض أصحاب الأراضي مرور خط للتوتر العالي فوق أراضيهم، وعند دراسة إمكانية تمديد خط أرضي تبين أن التكلفة ستتجاوز 15 ألف دولار!
وتطرق أحمد إلى مشكلة أخرى متعلقة بالكوادر العاملة في هذه الصناعة، تتمثل في بعد أماكن إقاماتهم عن الورشة، فمنهم من يقيم في الدانا أو كفر يحمول أو معرة مصرين، مما يضطره لرفع أجور العمال لتغطية نفقات تنقلهم من وإلى المعمل، منوها إلى أن فكرة إنشاء غرفة لسكن العمال لم تحظ بالقبول من العمال.
يجد من تحدثنا معهم من أصحاب ورش ومعامل وعمّال أنّ تطوير هذه الصناعة يمكن أن يحقق فرصة عمل لمئات الأشخاص في المنطقة إن دعمت من قبل حكومة الإنقاذ بإيصال الكهرباء إليها أو دعم الوقود، والسماح لهم بتصدير منتجاتهم إلى أسواق خارجية عبر تركيا، خاصة وأن منتجاتهم “معروفة” كما يقولون في بلدان كثيرة اعتادت استيرادها لسنوات طويلة مضت.
استخراج الحبيبات وتلوينها بالألوان المطلوبة مرحلة تسبق استخراج القش وتنشيفه ثم وضعه على آلات نسيج يختار لها الرسم المناسب، مراحل صناعة الحصر التي يخشى من توقفها إن لم تتخذ الإجراءات المناسبة لإعادة انتعاشها.