جمّدت قرارات وزارة الإدارة المحلية، الصادرة في 22 أيار الماضي وما بعده، والإجراءات التنفيذية المرافقة لها، العمل في كثير من الأبنية قيد الإنشاء أو الحديثة، وحصرت الحصول على رخص البناء بمكاتبها بعد أن نزعت القدرة على منحها من قبل المجالس المحلية ونقابة المهندسين.
ترى الوزارة في هذه القرارات حلّاً للعشوائية والتعدّي على الممتلكات العامة والمخططات التنظيمية، كذلك ضماناً لأمن المباني بما يتوافق مع الكود السوري، خاصة مع الدمار الكبير الذي تسبب به الزلزال، خاصة في الأبنية غير الموافقة للمخططات الهندسية بالشكل الأمثل، إضافة لضمان عدم البناء على الأراضي الزراعية والحفاظ عليها، ومراعاة المساحات الخضراء من حدائق وغيرها داخل المدن، والشوارع والمرافق العامة.
بينما وجد سكان وتجار البناء في هذه القرارات إجحافاً بحقهم لما تسببت به من خسارة مالية وركود في حركة البناء، إضافة لزيادة في الرسوم وجدوها غير مبررة، خاصة وأنها غير محددة، وتختلف بحسب “مزاجية” الموظفين. يقول طه أبو محمد، تاجر بناء في مدينة سرمدا، إن الوزارة أوقفت عمله في بناء مول وشقق سكنية في المنطقة، في خطوة “أعاقت عمله وتسببت له بخسارات كبيرة”.
“لا شيء واضح في الخدمات حتى الآن”، يضيف أبو محمد شارحاً الصعوبات التي رافقت القرار، يقول: “الصعوبة الأكبر هي في ربط الإجراءات كافة بالوزارة في إدلب، سابقاً كانت الأوراق جميعها تصدر عن مجالس البلدية القريبة، والتي تكشف على العقار وتحدد عبر المساحين زواياه وحدوده، قبل أن يعدّ المهندسون المخططات الإنشائية والمدنية”.
الرسوم التي وصفها أبو محمد بـ “المعقدة”، مشكلة أخرى تقف في طريق تجار البناء، يكمل أبو محمد “في السابق كنا ندفع دولاراً وثلاثين سنتاً عن كل متر مربع من البناء، موزّعة بين 70 سنتاً للمجلس و 60 سنتاً لنقابة المهندسين”، أما اليوم فقد “فرضت الوزارة حسابات جديدة، هناك رسوم على الواجهات الأمامية والخلفية وزيادات في رسوم المتر تختلف من مكان لآخر دون آلية واضحة، إضافة لفرض مبلغ 7 دولارات مضروباً باثنين على المخالفات”.
البيروقراطية عائق آخر أمام تنفيذ الأبنية، يشرح أبو محمد “بالنسبة للبناء الذي توقفت عن العمل به بعد الزلزال وهو في الطابق الثاني، فقد طلب مني عند عودتي لاستكماله وبعد إصدار قرار بإيقاف العمل من قبل وزارة الإدارة المحلية، ترخيصاً ومخططاً هندسياً جديدين، مع تدعيم للأعمدة السابقة، ودفع رسوم لم تحددها الوزارة حتى الآن، أما بالنسبة لرخصة المول فقد طلب مني مخططاً مساحياً للعقار كل ثلاثة أشهر، وأضيفت رسوم أخرى مثل رسم التحسين وغيره، رغم استصدار رخصة سابقة وإجراء مخطط ثلاثي الأبعاد ومجسمات للمول!”.
وتحدّث أبو محمد عن خسارة وصفها بـ “الكبيرة” لتجار البناء، يقول إن إيقاف العمل وإلغاء أو تجميد الرخص، إضافة للرسوم الجديدة، جميعها سيدفعها تاجر البناء، خاصة وأنه باع جميع الشقق والمحلات “على الخريطة”، متسائلاً عن سبب هذه العوائق، ولماذا لم تفرض سابقاً حين استصدار الرخص!
لم تتوقف آثار القرار الجديد، السلبية كما وصفها من تحدثنا معهم، على تجار البناء، بل طالت النازحين الباحثين عن مأوى استنزف منهم شراء أرض صغيرة للبناء ما يملكونه من مدخرات قبل أن تلغي الوزارة تراخيصهم.
يقول أبو يحيى، صاحب مكتب عقاري في منطقة البردغلي، إن مهجّرون كثر لجؤوا إلى المنطقة لشراء قطعة أرض وبناء منزل عليها، وشهدت المنطقة حركة بناء على أرض صخرية مملوكة بـ “طابو” لأشخاص وهي ليست ملكية عامة، ورخّصت هذه المنازل، سواء أبنية طابقية أو منزل، في المجلس المحلي بمدينة سرمدا وبرسوم وصفها بـ “المقبولة”، قبل أن تلغى تراخيصها وتجمّد أعمالها من قبل وزارة الإدارة المحلية.
مراجعة المتضررين للوزارة لم تفلح بإعادة العمل في هذه الأبنية والمنازل، بحجة الحفاظ على الأراضي الزراعية أو مخالفة المخطط التنظيمي لمدينة سرمدا، رغم أن الأرض صخرية وغير قابلة للزراعة، بحسب من تحدثنا معهم من سكان والذين تساءلوا بدورهم “إن كانت زراعية أو مخالفة للمخطط لماذا وافق المجلس المحلي للمدينة على ترخيصها في الأصل، ومن سيعوّض المبالغ التي دفعناها لشراء الأرض أو البناء، خاصة وأن مبان كثيرة قيد التنفيذ لكنها غير مكتملة؟”.
“لا تستصدر القرارات دون دراسة الواقع”، يقول صاحب أرض اشتراها لبناء منزل عليها ورفض منح رخصة له من قبل الوزارة في محيط مدينة إدلب، يقول “اشتريت قطعة أرض بمساحة 300 متر في إدلب، هي أرض زراعية ولكن ذلك لم يكن ممنوعاً في السابق، القرار الجديد يسمح ببناء 80 متراً في كل ألف متر، وهو ما يعني السماح لي ببناء نحو 30 متراً في أرضي فقط، غرفة واحدة تؤويني أنا وأسرتي!”.
ويضيف “حاولت إعادة الأرض لمالكها الأصلي بخسارة 500 دولار، لكنه رفض ذلك، أملك الآن أرضاً لا تصلح للبناء أو الزراعة، بالمقابل معظم الأبنية المرخصة من قبل وزارة الإدارة للمخيمات هي في أراض زراعية، لماذا لم يراع القرار ذاته فيها؟”.
لا يتعلّق الأمر بالأبنية وحدها، بل يشمل القرار التحسينات أيضاً، يقول أبو حمزة، صاحب مطعم في قرية دير حسان، إنه بدأ ببناء سياج بارتفاع مترين حول مطعمه وضمن الأرض التي يملكها، لكنه فوجئ بموظف من المكتب الفني في قريته يطلب منه التوقف ومراجعة وزارة الإدارة المحلية للحصول على ترخيص، وهناك طلب منه مخططاً هندسياً وإجراء معاملة ترخيص، يقول “كأني أبني بناية من عشرين طابق، هو سياج”، ليترك أبو حمزة فكرة السياج ويتراجع عن بنائه.
القرارات أيضاً طالت عمل المكاتب الهندسية ونقابة المهندسين، يقول محمد، أحد أصحاب المكاتب الهندسية في إدلب، “سابقاً كان صاحب البناء يتفق مع المكتب الهندسي للحصول على المخططات الهندسية ورخص البناء ومعاملات الترخيص كافة، لكن ومع إحداث لجنة التراخيص في وزارة الإدارة المحلية حصرت العمل في مكاتبها، وأصبحت الرسوم مزاجية، وهو ما دفع المكاتب للاعتذار عن العمل على تنفيذها لعدم معرفة التكلفة وتجنباً لأي خلاف مع أصحاب الأبنية، خاصة بعد تحييد دور البلديات ونقابة المهندسين في إصدار التراخيص، وقصر عملها على المخططات الهندسية فقط، بحيث يتفق المهندس على أتعاب المخطط الهندسي فقط دون التدخل في معاملة الترخيص”.
الإجراءات المتبعة من قبل الوزارة حرمت نقابة المهندسين من الرسوم الرمزية التي كانت تتقاضاها للتراخيص، والتي كانت تصب في صندوق النقابة وتستخدم كمصاريف ودعم للمهندسيين وتطوير عمل النقابة و إقامة دورات مخصصة لتحسين عملها، ما دفع المهندسون للبحث عن عمل في المنظمات وتفضيلهم ذلك على العمل الحر مع النقابة.
حملنا هذه الأسئلة إلى وزارة الإدارة المحلية، والتي نفت على لسان المهندس سعيد الأشقر مستشار وزير الإدارة المحلية، إيقاف العمل بالرخص القديمة، لكن ما يحدث هو تدقيق من قبل الوزارة إن كانت الرخص الممنوحة توافق نظام الضابطة، فيسمح بالتنفيذ بشكل مباشر، أما في حال مخالفتها فيسوى وضعها بعد تسديد الرسوم للبدء بالتنفيذ.
وأكد الأشقر أن منح الرخص لم يتوقف، وأن “الوزارة قسّمت المدن والقرى إلى شرائح تنظيمية تعتمد للبناء وفق هذه الشرائح”، وأن “المخالفات والهدم تتم وفق إجراءات يميز فيها بين الرخص الممنوحة قبل الأول من حزيران وبعده. إذ يتم إيقاف العمل بالبناء ومخالفة من لا يملك رخصة، فيسوى وضعه، ويسدد قيمة الرسم المالي ويكمل البناء بعد أن تدقق مخططاته بما يتوافق مع نظام الضابطة، ويمنح أمراً باستكمال البناء”.
أما “المخالفات والتجاوز على الوجائب أو المخطط التنظيمي بعد الأول من حزيران فتزال، ولا يمكن تسويتها مالياً”.
وبين الأشقر إجراءات الترخيص الجديدة ، يقول “يستلزم الحصول على رخصة بناء تقديم طلب مرفق ببيان قيد عقاري، بيان مساحي، مخطط الإحداثيات مع صورة عن الهوية الشخصية، وبعد مطابقتها والتأكد من سلامة العقار (عدم وجود إشارات أو تعدّ على المخطط التنظيمي)، يطلب من صاحب العقار إعداد مخططات هندسية متكاملة، إنشائية ومعمارية وميكانيكية وكهربائية، مطابقة لنظام الضابطة. وبعد دراستها يعطى أمر المباشرة بعد تسديد الرسوم”.
وحدد الأشقر رسوم الرخصة بين “ربع دولار إلى ثلاث دولارات للمتر الواحد، بحسب المنطقة والفئة والشريحة التنظيمية”. ورغم اعتراض نقابة المهندسين على القرارات، خاصة القرار 307 الذي أحدثت بموجبه مديرية الشؤون الهندسية في وزارة الإدارة المحلية وألغت الصلاحيات الممنوحة سابقاً للنقابة وقوّضت الكثير من صلاحيتها، لكن تنفيذه بدأ منذ إقراره نهاية شهر أيار الماضي.
يقول الأشقر إن دراسة وإنشاء المخططات الهندسية ما يزال مرتبطاً بمهندس يجب أن يكون مسجلاً في النقابة، أما التدقيق فيتم في مديرية الشؤون الهندسية التابعة للوزارة. كذلك تتكفل البلديات بالرقابة على العمل الميداني، إذ ترسل الوزارة نسخة لها من المخطط تتطابق مع نسخة صاحب البناء، ولا تتم أي عملية من صب للأساسات أو الجوائز أو البلاطة دون مراقبة من قبل الدوائر الفنية الموجودة في البلديات، وعددها ثمان بلديات موزعة في مناطق حكومة الإنقاذ.
ويرى الأشقر في هذه القرارات ما يضبط آلية العمل في المنطقة وتوحيد آلية منح الرخص ومراقبتها ومتابعتها وتدقيقها، وأمانها بشكل مدروس وبما يتطابق مع الجمل الإنشائية الصحيحة ومطابقتها بالكود السوري المأخوذ عن الكود الأمريكي بما يرفع نسبة الأمان في هذه الأبنية، غير الموجود سابقاً، إلى نسبة تفوق 90%، خاصة الأبنية المقاومة للزلزال.
وتراعي الإجراءات المتبعة حديثاً المخططات التنظيمية والحد من بناء العشوائيات، إضافة لوجود مساحات خضراء وحدائق ومراكز مشافي ومدارس بين الأبنية، هذا الأمر سابقاً لم يكن موجود، بسبب نقص الإمكانيات في المجالس المحلية، بحسب الأشقر.
بين التنظيم والعشوائية، الرسوم التي يحكمها المزاج، مركزية القرارات وتقويض صلاحيات النقابات والمجالس المحلية والبلدية، عدم دراسة واقع السكان وقدرتهم المالية، تمرّ القرارات والإجراءات في منطقة يسكنها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون إنسان معظمهم يعيش تحت خط الفقر، يبحثون عن مأوى بأقل تكلفة، ما يفرض استحداث قرارات لا تراعي المكان فقط بل تراعي ظروف سكانه أو تتدخل لمنحهم ما يمكن أن يخفف من مشكلاتهم.