خلقت الأعداد المتزايدة لمراجعي مراكز البريد التركية PTT مشكلات حادة، إذ باتت الرحلة الشهرية لقبض رواتبهم أشبه بكابوس، لما تحمله من صعوبات تمثلت بالازدحام الكبير الذي يفرض ساعات انتظار طويلة، أو العودة أكثر من مرة، وما يتطلبه ذلك من دفع تكاليف مالية تقضم جزء من رواتبهم، إضافة لضعف التجهيزات وقلة المراكز التي بقيت على حالها منذ إنشائها قبل ست سنوات.
طوابير طويلة في مجموعات، منها ما هو مخصص للنساء وأخرى للرجال، جميعهم يحاول الوصول في ساعات الصباح الباكرة قبل فتح المركز للحصول على دور قريب، وقوفاً على أقدامهم تحت أشعة شمس آب المرتفعة دون وجود ما يحميهم أو مقاعد مخصصة للجلوس، أو ينتحون مكاناً طرفياً يجلسون على الأرض، خاصة ممن يعانون مشكلات مرضية أو كبار السن، قبل أن تفتح الأبواب فيتحول المكان إلى ما يشبه حلبة الصراع في صفوف لا يمكن معرفة بدايتها.
وتتوزع أفرع مؤسسة البريد والشحن التركية PTT على 11 مدينة في شمال غربي سوريا، هي: (جرابلس، الباب، عفرين، اعزاز، الراعي، مارع، بزاعة، قباسين، جنديرس، تل أبيض، رأس العين)، إذ تخلو محافظة إدلب من أي وجود لها.
تقدم المراكز خدمات مختلفة مثل دفع المعاشات، بعد أن فرضت الحكومة التركية على معظم المنظمات الإنسانية العاملة في الشمال السوري تحويل المبالغ النقدية لموظفيها وأعمالها عبر مراكزها، إضافة لخدمات التحويل والشحن (طرود بريدية من وإلى المحافظات التركية)، وتصريف العملات من الليرة التركية إلى الدولار واليورو والحوالات المالية من وإلى الولايات التركية .
لا توجد إحصائية دقيقة لعدد المستفيدين الذين يراجعون مركز PTT شهرياً للحصول على رواتبهم، لكن أعدادهم تشمل المعلمين و الكوادر الصحية والشرطة والعاملين في المنظمات الإنسانية وخطباء المساجد وموظفي المجالس المحلية في مناطق الحكومة المؤقتة،كذلك موظفي منظمات إنسانية وكوادر تلحق بهم في مناطق حكومة الإنقاذ، إضافة لقسم من كفالات الأيتام ومستحقات الأرامل فيها.
الفئات التي فرض عليها تلقي مبالغها المالية من مراكز PTT، باستثناء الخدمات الأخرى، يزيد عددها عن آلاف الأشخاص يستلمون أموالهم عبر ماكينات آلية أو بطريقة السحب المباشر، من خلال إدخال بصمة إلى أجهزة يشرف عليها موظفون أتراك، ولا يتوفر في كل مركز سوى جهازين أو ثلاثة للبصمة، إضافة لماكينة سحب أو اثنتين على الأكثر، تسمح بسحب خمسة آلاف ليرة تركية يومياً كحد أعلى للشخص الواحد.
وكانت الحكومة التركية قد فرضت على المنظمات المحلية والدولية في مناطق الحكومة المؤقتة، وأغلب المنظمات العاملة في مناطق حكومة الإنقاذ، اعتماد مراكز PTT مصدراً وحيداً لتلقي الحوالات المالية، بحسب عامل في واحدة من المنظمات الإنسانية أخفينا اسمه بناء على طلبه، والذي قال إن “السلطات التركية أجبرت المنظمات على تحويل المبالغ المالية إلى الشمال السوري عبر مراكز PTT وغالباً ما يكون بالليرة التركية”.
قلّة المراكز وآليات عملها تسبب ازدحاماً كبيراً، ويصف من تحدّثنا معهم أمام مراكز PTT في جنديرس و عفرين و إعزاز، من ينجح بالحصول على معاشه بالمنتصر، يقولون “إن كل مرحلة من مراحل الوصول إلى كوة الماكينة أو الموظف الذي يحمل الجهاز تحتاج إلى العراك، بدء من الانتظار خارج السور إلى اجتياز الممر، ثم الوصول إلى المكان، وقبض الراتب إن حالفهم الحظ بتوفر شبكة الإنترنت أو الكهرباء أو السيستم، وأخيراً الخروج من المكان بعد انتهاء عملية السحب”.
يرجع وسيم الخالد، أحد العاملين في منظمة إنسانية،أسباب الازدحام إلى “وجود مركز واحد فقط في كل منطقة، إضافة لأوقات الدوام القصيرة المحددة بين الساعة الحادية عشر وحتى الساعة الرابعة عصراً، يتخللها فترة غداء لمدة ساعة للموظفين الأتراك”.
ويتحدث الخالد عن مشكلات أخرى تزيد من مشقة الحصول على الرواتب في مراكز PTT منها “انقطاع شبكة الإنترنت أو الكهرباء وتوقف نظام العمل أو ما يسمى بالسيستم داخل المركز، إضافة لحدوث أعطال في الحصالات أو آلات الصرافة الموجودة، كل ذلك يؤخر أو يعطل عملية تسليم الأموال، الأمر الذي يصل بالناس حد التذمر والاستياء”.
تفرض المعوقات في مراكز PTT على المستفيدين رحلات بين المراكز، خاصة بعد عطل آلات السحب أو نفاد الأموال، وهو ما يزيد من الأعباء المالية عليهم.
تقول سها، أم لطفل بعمر خمسة أشهر يرافقها في رحلتها المكوكية لقبض راتبها من عملها في إحدى المنظمات الإنسانية، إنها تضطر في كل شهر لقطع مسافة طويلة بين مكان سكنها في إدلب إلى مركز PTT في جنديرس بريف عفرين. نادراً ما استطاعت سها الحصول على راتبها بيسر، تضيف، إنها تتنقل بين مراكز عفرين و إعزاز في كل شهر، بعد تعذّر قبضها من جنديرس، وتصف حال المراكز الأخرى بـ “المتطابق من حيث الصعوبات”.
تستأجر سها وإحدى عشرة موظفة أخرى من منظمات مختلفة، سيارة خاصة في كل شهر تقلّهن إلى مركز جنديرس، وتنتقل بهن بين المراكز أملاً في وجود مكان أقل ازدحاماً، ويدفعن لقاء ذلك مبلغاً يقضم جزء من رواتبهن، إذ يزيد أحياناً عن 250 ليرة تركية، ويتضاعف هذا الرقم إن لم ينجحن في الوصول إلى آلة السحب في اليوم ذاته والعودة في يوم آخر.
تقول سها إنها وصلت في الشهر الماضي إلى مركز PTT في الراعي شرقي حلب لقبض راتبها، بعد تعذّر حصولها على معاشها من المراكز القريبة، ما اضطرها لدفع 500 ليرة تركية (200 في اليوم الأول و 300 في اليوم الثاني)، وهو ما يعادل عشر راتبها.
ولا يمكن الاعتماد على وسائل النقل العامة في الوصول إلى مراكز PTT، خاصة لأولئك القادمين من إدلب، والذين يقطعون مسافات تتراوح بين 40 إلى 120 كيلو متر للوصول إلى أقرب مركز، إذ يتطلب الحصول على دور قريب الوصول باكراً في ساعات الصباح الأولى، كذلك العودة متأخراً وهو ما يفرض على المستفيدين استئجار سيارة خاصة (طلب).
تغيرات سعر الصرف لليرة التركية سبب آخر لزيادة الازدحام في مراكز PTT، تروي فاطمة، عاملة في واحدة من المنظمات وتقيم في إدلب، “قبل العيد الماضي حاولت الحصول على راتبي من مركز إعزاز وفشلت بسبب وصولي في وقت متأخر، وجاءت عطلة العيد لأخسر 50 دولاراً فرق سعر التصريف أثناء قبضي الأسبوع الفائت”.
بعيداً عن آلات الصرف وأعطالها وقلة أعداد المراكز، يتسبب الموظفون والشرطة في المكان بزيادة العوائق على المستفيدين، إذ تغيب آليات التنظيم الواضحة عن المكان ما يتسبب بخلافات ومشاحنات بين المنتظرين.
تروي سليمة العيسى، مهجرة من ريف دمشق،وهي إحدى الأرامل التي تسكن في عفرين، إن شجاراً يومياً يبدأ بين المستفيدين وعناصر الشرطة المكلفين بتنظيم الدور وحماية المركز، يبدأ مع وصول الموظفين الأتراك، إذ “تتشابك أيدي عناصر الشرطة لإغلاق الباب الحديدي بوجههم ومنعهم من الدخول بشكل عشوائي، في محاولة منهم لإدخالهم واحداً تلو الآخر لتسيير عملية التسليم بانتظام”.
تكمل العيسى “لا ينجح التنظيم سوى لوقت قليل، ليبدأ الناس الدخول بشكل عشوائي أو عن طريق المحسوبيات للشرطة”. تبرر العيسى عشوائية الدخول بما يتكبده المنتظرون من مشاق، تقول “حالات إغماء ومناشدات وانتظار طويل وجباه تتصبب عرقاً تحت أشعة الشمس الحارقة، حال المستفيدين الذين يحمون رؤوسهم من أشعة الشمس يقطع كرتونية أو ما يتوفر أمامهم، دون وجود أي وسيلة للاستراحة أو الجلوس في انتظار دورهم”.
يؤكد وسيم الخالد أن “جميع المراكز تحمل الصعوبات ذاتها ابتداء بجنديرس وعفرين واعزاز وصولاً لمناطق أخرى توجد فيها هذه المراكز”، ويضيف أن “مشاجرات شبه يومية تحصل بين المنتظرين، ويقوم عناصر الشرطة بحلها في بعض الأوقات بطرق عنيفة مثل استخدام الغاز المسيل للدموع أو الضرب” .
وتروي ماجدة العبدالله (اسم مستعار)، ممرضة حامل في الشهر الرابع “قدمت من مخيمات كللي لجنديرس لقبض راتبي وعند وصول دوري قام أحد عناصر الشرطة بإدخال ثلاثة نساء ورجلين لم يكونوا ضمن حشود المنتظرين، ما أثار غضبهم وتعالت الأصوات والمشاحنات، كسروا الباب الخارجي وهاجموا الباب الداخلي، واستخدم عناصر الشرطة القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم ومنعهم من الدخول”.
وتضيف “خلال ثوان معدودة لم أعد أرى شيئاً، شعرت بدوار عنيف يرافقه سعال، قامت صديقاتي بسحبي وإبعادي عن المكان، ووضع الكحول حول أنفي خوفاً من أن أفقد وعيي”.
رامية، 36 عاماً مهجرة من ريف حماة الغربي وتسكن مدينة إدلب عاملة بإحدى المنظمات، تعرضت للإغماء خلال انتظارها راتبها، بسبب ضيق التنفس وانقطاع الأوكسجين في ظل ارتفاع درجات الحرارة والانتظار الطويل، على حد وصفها.
تقول رامية “عندما فقدت الوعي قامت النساء بصب الماء على رأسي وسحبوني للممر الداخلي للمركز بعيداً عن أشعة الشمس،كل ما أذكره حينما صحوت قول إحدى النساء، يعني الواحد لازم يموت حتى تسمحولو يدخل ولا هيك لازم نضل نعيش الذل كل يوم”
الصعوبات المرفقة بـ “الذل والإهانة”، على حد وصف الطبيب الأخصائي فرحان الصالح، كان يعمل في منظمة أطباء عبر القارات في أطمة، كانت السبب في تركه لعمله، يقول إنها “جرعة شهرية من الإذلال والإهانة يتجرعها الموظف كل شهر، قبض الراتب رحلة أشبه ما تكون بالتسول على أبواب PTT”.
ووصف الإعلامي رامي كنجو في منشور له على وسائل التواصل الاجتماعي خدمة PTT بأنها “أسوأ خدمة تقدمها الجهات التركية”، بعد فقدان نساء لوعيهم خلال انتظارهن الطويل .
ويرى محمد السعيد، منسق سابق في إحدى المنظمات، بأن “هذه المراكز في بداية تفعيلها كانت حلاً للتخفيف عن الموظفين في استلام مستحقاتهم، لكنها أصبحت عائقاً مع ازدياد عدد المستلمين”.
تستقبل مراكز PTT بأفرعها القليلة عشرات آلاف الأشخاص شهرياً، في الوقت الذي تتوزع في أي ولاية تركية هذه المراكز في كل شارع تقريباً، ما يدفع للسؤال عن قلة أعدادها رغم ما يتكبده المستفيدون شهرياً من صعوبات وتكاليف وإعياء، إضافة للمشاجرات والتكاليف المالية، وغياب هذه المراكز عن مدينة إدلب
كل ذلك يطرح سؤالاً عن سبب فرض اعتمادها إن لم تخلق سوى مشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم، لسان حال المستفيدين في هذه المشكلة يقول “إما أن تقدموا خدمة مقبولة أو اتركونا لفوضانا القديمة، وقتها كانت تقوم بالمهمة عشرات مراكز الصرافة في المنطقة دون أن تضطروا لتفريقنا بالغاز المسيل للدموع!”