يسعى أصحاب ورش خياطة الجينز في مدينة عفرين لإيجاد سوق تصريف لبضائعهم المكدّسة عبر بيعها بأرباح قليلة أو بالآجل أو تصديرها وفق إجراءات غير آمنة قد تسبب بضياع كامل ثمنها، بمقابل إبقاء ورشهم مفتوحة في ظل ضعف القوة الشرائية في الداخل السوري، إضافة لغرق السوق بالبضائع المستوردة.
مدينة عفرين بريف حلب أكثر مناطق الشمال السوري حضوراً في سوق الجينز، إذ تضم نحو مئتي ورشة منها يعمل داخلها أزيد من أربعة آلاف عامل وعاملة، ما يزال القسم الأكبر منها فاتحاً أبوابه مقابل ورشات أجبرت على الإغلاق خلال الأشهر الأخيرة.
يقول محمد سعيد، صاحب ورشة لخياطة الجينز في عفرين، إن أرباح الورش باتت قليلة جدّاً بسبب منافسة المنتجات التركية والأجنبية أو تلك القادمة من مناطق النظام لها في الأسواق التي وصفها بـ “المحدودة” في ظل الظروف القاسية التي يعيشها السكان، خاصة بعد زلزال السادس من شباط الماضي.
معظم ورش الجينز المنتشرة في عفرين نزحت مع أصحابها من مدينة حلب في عام 2016، واستقروا في مدن وبلدات عفرين التي كانت آنذاك آمنة وبعيدة عن القصف تحت حكم قوات سوريا الديمقراطية، ما زاد من حدة المنافسة في بقعة جغرافية صغيرة.
لا تقتصر المنافسة على الورش والبضائع المستوردة، إذ ينشر معمل الجينز الوحيد في المنطقة (بلو) بضائعه في أسواق الشمال السوري كافة وبأقلّ من أسعارها في الورش، إضافة لاعتماده طريقة البيع الآجل مع زبائنه، الأمر الذي زاد من صعوبة عمل ورش الجينز التي لا تمتلك القدرة على ذلك ما أدى لخسارة زبائنها، بحسب مصطفى طبشو، تاجر ألبسة بالتجزئة في مدينة إعزاز بريف حلب.
ويرجع طبشو ضعف سوق ورش الجينز إلى صغر المنطقة التي تستهدفها تلك الورش و تهاوي سعر صرف الليرة التركية مع تدني الأجور بشكل عام ومنع التصدير إلى تركيا.
ويصف زياد الجاسم، صاحب محل بيع ألبسة جاهزة في عفرين، منتجات ورش الجينز في الشمال السوري بـ “الجيدة”، يقول “عفرين مشهورة بصناعة الجينز وبأنواع جيدة، معظم بضاعة محلي هي من صناعتهم لكن الطلب ورغبات الزبائن تجبرنا على شراء منتجات أخرى، في الغالب صناعة تركية وأسعارها أغلى من الإنتاج المحلي ولها زبائنها”.
ويتابع الجاسم “هامش ربحنا عادةً من الصناعة المحلية أفضل منه في البضاعة التركية، إلا أن ثقة الزبون بالإنتاج المحلي تكاد تكون معدومة، ويفضل الصناعة التركية والأجنبية مهما كان مصدرها، وهو ما يفسر ضعف الطلب عليها، إضافة إلى محدودية الأصناف وموديلاتها”.
سبب آخر يضيفه علي الحمدو، صاحب ورشة جينز، لأسباب خسارة ورش الجينز المنافسة في السوق المحلية، وهو استخدام الأقمشة التي يصفها بـ “الرديئة” في خياطة الجينز، وهي الأقمشة الوحيدة المتوفرة والتي يستوردها تجار محددون من الصين وتركيا وبلدان أخرى.
يقول “نحن ملزمون بما يحضره تجار الأقمشة. رداءة نوعيتها يفقدنا فرصة المنافسة في السوق المحلي أمام المنتجات الأجنبية التركية وغيرها أو المنتجات من مناطق النظام، مع وجود فارق في الأسعار يصل حتى نصف دولار في يارد القماش الواحد بين الدفع النقدي لأولئك التجار والدفع الآجل”.
تبيع ورش الجينز بضاعتها لأصحاب المحلات والتجار بسعر دولارين ونصف دولار للمقاسات الصغيرة، وبأربع دولارات ونصف الدولار للمقاسات الكبيرة، في حين يبيعها أصحاب المحلات للزبائن بأربع دولارات للمقاس الصغير وعشر دولارات للمقاس الكبير، بحسب السعيد.
ولا يسمح بتصدير منتجات الجينز إلى تركيا، لكن أصحاب الورش يصدّرون إنتاجهم بشكل رئيسي إلى العراق، و ليبيا بعد افتتاح خط جديد إليها منذ عامين، ومع ذلك لم تقدم لهم الطرق الجديدة حلولاً جذرية، بحسب ثلاثة من أصحاب ورش الجينز تحدثنا إليهم وأرجعوا السبب إلى “طلب تجار العراق وليبيا إرسال البضاعة لمعاينتها من قبلهم قبل أن يرسلوا ثمنها وهو ما يشكل خطراً بخسارة البضاعة لعدم وجود ضمانات في عمليات التصدير تلك”.
وأكد أصحاب تلك الورش “حدوث حالات نصب واحتيال بحق أصحاب ورش جينز من قبل مستوردين في ليبيا أو العراق ما اضطرهم لإغلاق ورشهم والخروج من السوق”.
وترتبط عمليات التصدير عادة بالائتمانات المصرفية لضمان حقوق طرفي الصفقة لكن تلك الخدمة تغيب عن الشمال السوري مع عدم وجود مصارف تعمل في المنطقة، فيما يصف السعيد خدمات مركز البريد التركي PTT بـ “الضعيفة ولا تلبي احتياجاتهم في ضمان حقوقهم و إنهم يلجؤون عادة إلى محلات الصيرفة المنتشرة بكثرة لاستلام ثمن بضائعهم”.
عمال ورش الجينز أيضاً يشكون ضعف الأجور لارتباطه بكميات الإنتاج، يقول جوان محمد، خياط في إحدى ورش عفرين منذ خمسة سنوات “رواتب هذه المصلحة ضعيفة جداً، لكن قلة فرص العمل تجبرنا على الاستمرار فيها، أعمل بنظام أجر وفق كمية الإنتاج إلا أن أجري الأسبوعي في الغالب لا يتجاوز ثمانمائة ليرة تركية”.
يعمل في ورشة الحمدو أزيد من 25 عاملاً تتراوح أجورهم بين ثلاثمائة وثمانمائة ليرة تركية تبعاً للخبرة وسرعة إنجاز العامل للكمية المطلوبة منه، يقول الحمدو: “من المؤكد أن هذا الأجر يعتبر زهيد جداً في واقع معيشي تتجاوز فيه الأسعار ما هو موجود في تركيا، لكن ضعف الطلب على منتجاتنا يمنعنا من زيادة الأجور. وفي كثير من الأوقات نحتفظ بالعاملين ونقدم لهم أجراً دون عمل لعلمنا بواقعهم المعيشي مع قلة فرص العمل البديلة”
يتمسك العاملون في ورش الجينز بأعمالهم رغم ضعف الأجور التي يتقاضونها مقارنة بغلاء الأسعار المتزايد مع هبوط سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار، بحسب من تحدثنا معهم من عمال، وانعكاس ذلك يبدو واضحاً على القوة الشرائية للسكان الذين تبلغ نسبة البطالة بينهم 88.5% في حين قاربت نسبة العائلات التي تعيش تحت حد الفقر نسبة 90% في شمالي غربي سوريا وفق احصائيات منسقو استجابة سوريا، 40% منهم تحت حد الجوع في منطقة يقطنها أزيد من ستة ملايين نسمة.
“أكثر شي خسران في مناطقنا هم المصنعون واليد العاملة” إذ لا يوجد جهات داعمة لهذا القطاع ولا تسهيلات لأعمالهم وخاصة من جهة التصدير والتسويق، بحسب السعيد. ضعف قطاع الصناعة عموماً والجينز خصوصاً يهدد مصير نحو مئتي ورشة وآلاف العمال، مع غياب أي أفق لحل يسمح لهم بالاستيراد والتصدير وضمان المنافسة.