فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

المشاتل .. رائحة الورود تطرق باب الذكريات

حسين الخطيب

بالرغم من أن مهنة مشاتل ورود الزينة في أطوارها الأولى في ريف حلب، إلا أنها ازدهرت بسرعة خلال الأعوام القليلة الماضية

في الطريق الواصل بين بلدتي إرشاف ودابق في ريف حلب الشمالي، ومع لحظات غروب الشمس ونسمات الصيف العليلة، تأخذك رائحة الريحان إلى الجلسات العائلية الصيفية، على المصطبة المطلة على حوض الريحان واللكية والعطرية والعسلة والجوري بألوانه المختلفة، والذي غالباً ما يستعار منه أصص الريحان لإيقاف تطاير الحصيرة كلما هبت نسمات صيفية إلى الدكة، ويبادله الجالسون بلمسات حميمية لعل رائحته تمتزج بالأنامل.

يدير محمد سراج علي (21) عاماً مشتل الرضا، حيث يقضي معظم وقته فيه (14 ساعة يومياً)؛ فإلى جانب البيع المفرق للزبائن المارين بالطريق كون المشتل على طريق رئيسي، وتيسير عمل الباعة المتجولين، تحتاج النباتات إلى اهتمام كبير من خلال ريها بشكل دوري، وتقليم الأغصان اليابسة، وإبدال أصص الشتول وتغيير تربتها، ومتابعة نموها.

في المشتل، البالغة مساحته أكثر من 200 متر مربع، تصطف أصص الريحان – النبتة الأكثر شعبية – واللكية والعطرية التي تفوح رائحة ورقها، والقطيفة بلونيها الأصفر وبالبرتقالي الفاقع، والكاميليا بلون زهرها البنفسجي الفريد، والسكرة ولسان العصفور وحسن يوسف والزنبق وزهرة الشنتل وقص المخمل، وفم السمكة، وكسندرة وفستان العروس.

بينما تضفي زهور الياسمين والكاردينيا والفل والجوري والنسرين، عبقاً فريداً من نوعه يمنح الناظر إليها جمالاً أخاذاً حتى يقلب له دفتر ذكرياته، في حين تفوح رائحة فواح الليل، وورق الليمون، والقرنفل المهجن الممزوج بالألوان البهية، أما تلك الخماسية فتتسلق الجدران وتأخذ مكاناً مرسوماً بريشة فنان.

بالرغم من أن مهنة مشاتل ورود الزينة في أطوارها الأولى بالريف الحلبي، إلا أنها ازدهرت بسرعة خلال الأعوام القليلة الماضية، فارتفاع أعداد السكان وتحول البلدات في البناء إلى نظام المدن أدى إلى تقلص مساحة المنازل التي كانت تحتوي على أحواض الزهور، ومساكب الخضروات، وأشجار مثمرة بأنواعها المختلفة.

كما يعود إقبال الأهالي على شراء الشتول إلى ثمنها المقبول، إذ يتراوح سعر شتول ورود الزينة بين 10 و100 ليرة تركية (0.4 و4 دولارات)، وذلك وفقاً للحجم الذي تتميز به النبتة عن غيرها، فضلاً عن النوع. بينما ينخفض السعر في حال كانت النبتات حديثة الزراعة ولم يمضِ على زراعتها أسبوع على أقل تقدير.

يفضل محمد سراج استخدام روث الحيوانات، كالدجاج والأغنام، والتربة الحمراء والمياه، دون استخدام أي نوع من الأسمدة الكيميائية، التي ستضاعف سعر الشتول، ما يساهم في الحد من إقبال الأهالي على شرائها، على حد قول محمد.

الحفاظ على المهنة المتوارثة

يصف الشاب أن عمله في مهنة الشتل متوارث، فقد ورثه عن والده وجده اللذين كانا يعملان بها في بلدة حيان شمال حلب وتشكل مصدر رزق أساسي لإعالة أسرهما، كونها تستمر على مدار العام مع اختلاف مواسم أنواع الزهور، حيث كانا يركزان على شتول الأشجار المثمرة.

ورغم النزوح والهجرة المتكررة التي بدأت مع هجمات النظام المتكررة لبلدات الريف الحلبي، من بلدة حيان إلى محافظة الرقة على ضفاف الفرات، حافظ والد محمد على العمل في المشاتل لأكثر من خمس سنوات عاد بعدها إلى محافظة إدلب، حيث أقام وعائلته لمدة عامين يعمل في مهنة شتول الأشجار المثمرة، بينما مضى على عمله في ريف حلب مرة أخرى نحو خمس سنوات أخرى.

لا يقتصر العمل في المشتل على ورود الزينة فحسب، وإنما أيضاً على تجهيز الشتول للأشجار المثمرة في وقت نصبها، مثل (الزيتون والفستق الحلبي والرمان، والكرز، والكرمة، والتوت، والتين، والتفاح، والليمون والبرتقال)، إضافة إلى أشجار المظلات التي تستخدم في تزيين الشوارع والحدائق.

بيد أن الطلب على الشتول الشجرية انخفض نتيجة جفاف بعض آبار المنطقة. ما دفع الأهالي إلى العزوف عن نصب بعض الأنواع من الأشجار المثمرة، واقتصار الشراء على عدد محدود من الشجر لتعويض الأشجار المتضررة سواءً من الحرائق أو الأمراض أو الجرف في حال كانت قرب خطوط التماس.

المشاتل توفر فرص عمل

ينحدر مراد الحفيان من بلدة معر شورين بريف إدلب ويقيم مع أسرته المكونة من خمسة أفراد: زوجته وثلاثة أطفال في مخيم مخصص للنازحين في بلدة احتيملات بريف حلب الشمالي. كان يعمل أعمالاً حرة كالعتالة وصناعة البلوك (الطوب).

منذ أشهر قليلة بدأ العمل في مشتل الرضا. في البداية كانت مهمته تقديم الرعاية اليومية للمزروعات إلى جانب محمد سراج علي. لكن أحد العاملين في المشتل تعرض لوعكة صحية شديدة ما دفعه إلى العمل ضمن البيع الجوال من خلال سيارة تعود ملكيتها لصاحب المشتل.

اليوم، يحضر مراد ورود الزينة كالكاميليا وفستان العروس والريحان والقطيفة وغيرها، حسب طلب زبائنه. يحملها في سيارته ليلة رحلته الجوالة إلى بلدة الراعي بريف حلب الشمالي، فهو يعمل مقابل أجر يومي يتراوح بين 100 و150 ليرة تركية (4 إلى 6 دولارات) حسب الشتول المباعة.

يفضل أهالي المدن والبلدات، التي يجولها الحفيان، الريحان والجوري والكاردينيا والقرنفل. ويحاول توفيرها دائماً في بسطته التي تجوب مدن وبلدات اعزاز واحتيملات وصوران والباب ومارع وأخترين، حيث تستمر جولته اليومية حتى بيع كامل البسطة المصطفة في صندوق السيارة.

تحتوي المشاتل على عشرات الأنواع من الزهور التي تزرع على مدار العام ضمن فترة تسلسلية يعتمدها المزارع خلال زراعته وتخديم السوق المحلية بالمزروعات، وفق الطلب عليها، فضلاً عن أنواع الزهور المستوردة من تركيا والمهجنة كالقرنفل والصباريات.

ذاكرة الورود والرائحة

ثمة دور مهم للورود لا ينبغي إهماله، لم يُخفِه معظم من قابلناهم: العامل النفسي. فلزهرة الكاردينيا مكانة خاصة لدى أحمد زكور، فهي ترتبط بحدث مهم وقع في حياته، إذ كانت الكاردينيا أول زهرة يحصل عليها من خطيبته، التي تزوجها قبل سبعة أعوام في مدينة صوران، وتشكل بداية حياتهما، فكلما كان يشم تلك الرائحة يتذكر اللحظات الأولى للقائهما، لدرجة أنه يحتفظ لليوم بأول زهرة ضمن مقتنياته الخاصة.

أما صخر فروح، من مدينة مارع، فيشتري القرنفل الذي يمتاز برائحته ولون زهوره من إحدى عربات ورود الزينة الجوالة في المدينة. إذ يرتبط القرنفل ورائحته وشكل أوراقه في استخدامه خلال تشييع جثامين شهداء الثورة السورية.
يقول: “أحب شكل ورائحة نبتة القرنفل كثيراً، لأنه كان يوضع بالقرب من رأس شهداء الثورة السورية أثناء تشييعهم، لذا عندما أنظر إليه أتذكر الكثير من الأصدقاء والأقارب الذين قضوا خلال الثورة”. ويضيف: “شكله جميل ويحمل مدلولاً. أضعه بالقرب مني كلما أردت الجلوس في بهو المنزل.”