أصبح الحصول على فرصة عمل تؤمن معيشة كريمة أمراً صعباً في شمالي غرب سوريا. وفي مخيمات النزوح بات الأمر أشبه بالمستحيل، بحيث تنعدم فرص العمل التي توفر دخلا مادياً في بقعة جغرافية لا يتناسب عدد سكانها مع حجم المساحة التي يعيشون ضمنها؛ إذ يبلغ عدد سكان الشمال أكثر من أربعة ملايين نسمة فقد غالبيتهم عمله وممتلكاته، الأمر الذي يزيد العبء على المهجرين مادياً ونفسياً، ما يجعل بعض المشاريع الصغيرة، التي تدعهما منظمات إنسانية، بارقة أمل تخلق فرص عمل جديدة، وتساند المستفيدين منها على مواجهة واقعهم المادي الصعب.
خالد رجل بترت ذراعه بقصف على القرية التي كان يسكنها قبل تهجيره، ولم يكن يستطيع إعالة نفسه بأي عمل. جراء ذلك تدهورت حالته النفسية والمادية إلى أن حالفه الحظ لاحقاً في مخيمات النزوح بقبوله ضمن برنامج المنح الصغيرة لذوي الاحتياجات الخاصة. تلقى خالد مبلغاً مالياً من قبل منظمة تكافل الشام لمصابي الحرب، ساعده بإطلاق مشروع صغير، إذ افتتح محلاً (دكاناً صغيراً) بمبلغ 1200 دولار، يبيع فيه مواداً غذائية أساسية تناسب طلب ساكني المخيم.
يؤكد خالد عودة الفائدة عليه على المستوى المادي والنفسي على حد سواء، حينما يخبرنا أنه وبعد بدء العمل انتقل من حالة العجز والكآبة، التي كان يعيشها، إلى الرغبة في العمل والتفاؤل. وبعد أشهر قليلة من العمل أثبت أنه قادر على الاعتماد على نفسه في تأمين دخل أسرته وأنّ بإمكانه أن يكون منتجاً، لا مستهلكاً، وليس عالة على أسرته ومجتمعه كما اعتقد سابقاً.
يقول خالد: “كنت عاجزاً بكل معنى الكلمة. وبعد المشروع أشعر وكأني ولدت من جديد.” شجع خالد الأرملة روان غالي35 عاماً، إحدى الأرامل التي لطالما عجزت عن إيجاد فرصة عمل تعيل بها أطفالها، على التقديم على هذه المشاريع.
تعتمد كل منظمة على معايير الضعف بالاستحقاق لاختيار المستفيد، بالإضافة لرغبته في تنفيذ المشروع، بحسب أحمد الراغب، الذي يعمل منسقاً في أحد المشاريع السابقة.
بلغت نسبة العائلات التي تعيش تحت خط الفقر في شمالي غرب سوريا ما يقارب 90 في المائة ,أما نسبة البطالة العامة فقد بلغت 88,48 في المائة بحسب إحصائية لفريق “منسقو استجابة سوريا” صدرت في 9 أيار الماضي.
روان معيلة لخمس أطفال دفعتها أحوالها المادية السيئة لتراكم الديون عليها ورفض أصحاب المحال المجاورة بيعها في حال عدم تسديد المبالغ المستحقة عليها. كانت روان عاجزة عن توفير المال في ظل انعدام تأمين فرصة عمل لها في مخيمات كللي التي تستقر فيها كما أخبرتنا.
تقول: “في البداية بحثت كثيراً عن أي عمل يناسبني ويؤمن قوت أطفالي، لكن دون جدوى. لم تنقطع محاولاتي وبقيت مصرة إلى أن تواصلت في النهاية مع هيئة الإغاثة الإنسانية عبر منصات التواصل وأخبروني بإمكانية دعم مشروع لي في حال قامت المنظمة بطلب مستفيدين جدد.”
بعد عدة أشهر أُبلغت روان أن اسمها مع المقبولين من بين 350 متقدمة. كان لها النصيب هي و105 مستفيدات لدى المنظمة لحضور تدريبات وتقديم مقترح مشروع صغير. حضرت جميع التدريبات المطلوبة من قبل المنظمة حول إدارة المشاريع وكيفية شراء المواد وطريقة البيع وأساسيات التسويق. وبعد تقديمها مقترح مشروع حول صناعة الحلويات والمعجنات وبيعها، قدمت لها المنظمة جميع ما يلزم من فرن وأسطوانة غاز وأوان لصنع المعجنات، بالإضافة لمواد اساسية من طحين وسكر وسمن وغيرها من مواد تشغيلية بقيمة 1300 دولار تساعدها لمدة ثلاثة أشهر.
ترتب روان صحون الحلوى التي صنعتها بعد تغليفها وتضعها في صناديق كرتونية. تحدثنا عن شغفها بهذا العمل، فهي تهواه منذ الصغر، والآن يناسب واقعها كونه في المنزل ولديها طفلة معاقة بحاجة لرعاية خاصة.
“ماكنت متوقعة وصل لهالمرحلة من النجاح.” بهذه الكلمات وصفت روان ما وصلت اليه، فتحسن وضعها المادي وتسديد كل الديون المترتبة عليها وكثرة الطلب على منتجاتها، دفعها للتخطيط لمرحلة قادمة تزيد من شهرتها. تقول: “خطتي الجاي وزع للمحلات بالمخيمات القريبة وساوي كرت اكتب فيه العنوان ورقم تواصل وساوي صفحة ع الفيس ليزيد الإقبال أكتر وأكتر.”
صعوبة الظروف الاقتصادية وعدم توفر فرصة عمل أجبرت طلاب كثر على الانقطاع عن دراستهم أو التخلي عنها بالكامل، حالهم كحال عدنان الخالد 25 عاماً، نازح من ريف إدلب الجنوبي ويسكن في مخيم صلوة على الحدود السورية التركية. انقطع عن دراسة الحقوق في السنة الأولى من تهجيره سنة 2019 وعجز عن تأمين نفقات الدراسة. لكنه أصر على متابعة دراسته.
التحق الخالد في أعمال المياومة المتقطعة ضمن ورش البناء إلى أن استقر به الحال للعمل في نحت الحجارة مقابل أجور يومية لا تتعدى 40 ليرة تركية، وهو مبلغ لا يكفي لتسديد ما يلزم من احتياجات دراسته على حد وصفه.
اشترك الخالد ببرنامج تدريبي لمنظمة الأيادي الخضراء العاملة في منطقته، والتي تقوم على تقديم مجموعة من تدريبات الدعم النفسي والصحة المجتمعية وإدارة الحالة التي تقوم على تخديم كل حالة بحسب احتياجها، فطالب الجامعة يتم دفع قسط جامعته 300 دولار مع مبلغ 7دولارات بشكل يومي لمدة شهرين حاله كحال 80 طالباً تم قبولهم معه. يُدفع المبلغ لكل طالب تنطبق عليه معايير الاستحقاق من سوء حالة مادية أو إصابة حرب أو عدم وجود معيل.
كان للخالد نصيب في دفع المنظمة له أقساط وتكاليف متابعة الدراسة لهذا العام وتشجيعه للخروج من الحالة النفسية المتردية وتبعات الانقطاع والشعور بالعجز الذي لازمه سنوات، في الوقت الذي تخرج أغلب أصدقائه وانخرطوا في ميدان العمل لدى مؤسسات ومنظمات. يخبرنا الخالد بأن البرنامج كان منقذاً وداعماً له، نفسيا ومادياً وحقق على أثره النجاح لهذا العام ومازال يحلم بإكمال دراسته.
تعتبر المشاريع الصغيرة بمختلف أشكالها على رأس سلم الأولويات لإنقاذ المجتمع من البطالة وتحفيز الشباب والعائلات على عدم الاعتماد بشكل رئيسي على السلة الغذائية وإيجاد فرصة عمل لتكون المورد للأسرة.
“فرصة غيرت حياتي”، بهذه العبارة بدأ تامر حسن 25 عاماً حديثه لنا عندما أخبرنا بأن مشروع زواجه المنتظر لعامين أوشك على الفشل لعدم قدرته تأمين نفقات الزواج المتفق عليها مع أهل الخطيبة، فكان قرارهم الأخير إنهاء الخطوبة في حال عدم توفير مطالبهم.
يقول الحسن: “راودني خاطر الانضمام للفصائل رغم عدم قناعتي، كحل لمأزقي وبينما كنت أتصفح الفيس، وإذ بفرصة للتقديم على مشاريع صغيرة من قبل منظمة الناس عند الحاجة. وبعد ثلاثة أيام دعوني لمقابلة والاستفسار عن مدى قدرتي بالالتزام بمشروع صغير لبيع ألبسة بقيمة 1000 دولار تموله المنظمة شريطة المتابعة بالعمل بشكل دائم.”
يخبرنا الحسن أن الفرصة التي أتيحت له هو و90 مستفيداً من أصل 400 متقدم كانت بمثابة نقلة نوعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، إذ حسنت من دخله المادي وساعدته الأرباح على تأسيس منزله والزواج. وبعد ثلاثة أشهر دعمته المنظمة مرة أخرى لمتابعة عمله، إذ قام بتوسعة المحل وزيادة صنف آخر من الألبسة مخصص للنساء، تقوم زوجته بالبيع فيه. ينهي حديثه وهو يضحك قائلاً: “الحلم كان بسطة صغيرة والأمل يصير محل بمول الحمرا.”
تختلف كل منظمة عن غيرها في حجم الدعم ومدته ونوعية المشاريع، فمنها ما يكون على شكل منح مالية نقدية، وأخرى تتمثل بشراء مواد أولية للانطلاق ضمن مشاريع صناعية أو زراعية وربما حيوانية.
لا تتناسب كمية البطالة المنتشرة وخصوصاً في مخيمات الشمال السوري مع حجم المشاريع المطلقة، ولكنها تحسن من حال الواقع المعيشي قدر المستطاع لبعض العوائل.
أشار محمد الحلاج، مدير فريق منسقو الاستجابة في تقرير صدر مؤخراً، إلى أن نسبة الكثافة السكانية في المنطقة – شمالي غرب سوريا – بلغت 998 نسمة ضمن الواحد كيلو متر مربع.
يقول مصطفى العلي (اسم مستعار)، عامل بإحدى المنظمات الإنسانية الداعمة لهذه المشاريع، “الحاجة لدعم الاقتصاد المحلي ملحة جداً، وتكون من خلال تقديم مشاريع التعافي المبكر وسبل العيش لدعم أصحاب الدخل المحدود؛ إلا أن هذه المشاريع ما زالت محدودة.