تنشط حركة بيع الأراضي الزراعية في المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام من قبل أصحابها، يساهم في ذلك اضطرارهم للبيع تحت وطأة الحاجة المادية والمصير المجهول لأراضيهم التي أهملت بعد تعذّر وصولهم إليها، في الوقت الذي يستغل تجّارٌ هذه الحاجة لشراء الأراضي بأثمان قد تصل إلى عشر ثمنها الحقيقي، كذلك اللاجئين الذين يجدون في هذه الأسعار المنخفضة فرصة للحصول على أراض زراعية تربطهم بالمكان وتحافظ على إرثهم العائلي.
تكاليف العلاج والدراسة وتأمين منزل للسكن في منطقة أكثر أمناً إضافة لغلاء المعيشة، الأسباب الرئيسة لبيع ملّاك الأراضي لحقولهم، وفق سياسة يحكمها العرض والطلب، يقول محمد المحمود، صاحب أرض زراعية في جبل الزاوية، مضيفاً “كل معروض مهان”، في إشارة لبخس الأسعار المدفوعة ثمناً للأراضي.
ويضيف المحمود “اشتريت أرضاً مزروعة بالزيتون والتين مساحتها ست دونمات في عام 2006، إثر عودتي من عملي في السعودية، بمبلغ 12500 دولار، وبعتها في العام الماضي بـ 3500 دولار، لم تغطي تكاليف بناء بيت من غرفتين في كفرعروق، المكان الذي نزحت إليه”.
عمر الشيخ، رجل أربعيني من ريف إدلب الجنوبي، قال إنه باع أرضه، خمس دونمات، بثلاثة آلاف دولار ليتمكن من إجراء عمل جراحي في ظهره بعد إصابته بانزلاق في الفقرات أقعده أرضاً.
ويقول عمر إن أرضه مثل غيرها من الأراضي الزراعية فقدت القسم الأكبر من سعرها الحقيقي، إذ عرض عليه في عام 2020، بيعها بمبلغ 1500 دولار للدونم الواحد، لكنه رفض ذلك لاقتناعه بأنها تساوي ضعف المبلغ المعروض آنذاك.
ويضيف عمر “قمت بعرضها بداية مقابل 1200 دولار للدنم الواحد، لكن معظم المشترين رفضوا السعر بحجة ارتفاعه، وهو ما دفعني للتنازل حتى النصف نتيجة حاجتي للمال”.
أبو يوسف نازح آخر من جبل الزاوية قال إنه باع الأرض الوحيدة التي يملكها للتكفل بمصاريف دراسة ابنه، وأضاف “تسجيل ابني في الجامعة ودفع الأقساط وتكاليف الدراسة في ريف حلب الشمالي، تصل إلى ألف دولار سنوياً على الأقل، في الوقت الذي لا أحصل من عملي كمدرس سوى على مائة دولار”.
“في البداية ترددت كثيراً ببيع أرضي الوحيدة، وبهذا الثمن الذي لا يعادل ربع ثمنها الحقيقي، إذ اشتريتها في عام 2000 بما يعادل عشرة آلاف دولار، وبعتها بـ 2500 دولار، لكن مستقبل ابني على المحكّ، وتلك ليست أول خسارة نمنى بها”.
كثر من أصحاب الأراضي الزراعية باعوا حقولهم لتأمين قوت يومهم بعد تعذّر وجود فرص عمل وغلاء المعيشة، يقول من تحدثنا معهم إن متوسط تكلفة الحياة في الشمال السوري بحدّها الأدنى، تتطلب متوسط دخل يصل إلى 300 دولار، في الوقت الذي تغيب فرص العمل، وإن وجدت فلا تتجاوز الأجور مئة إلى مئة وخمسين دولاراً، وهو ما استنزف كل ما نملك.
إيمان العمر، سيدة من ريف إدلب الجنوبي ورثت وأولادها عن زوجها قطعتي أرض، تعمل إيمان في المياومة خلال المواسم الزراعية وتتقاضى ما يقل عن مئة دولار خلال أشهر العمل التي لا تزيد عن خمسة أشهر، حسب قولها. تقول إيمان “لدي 3 أطفال أكبرهم في العاشرة من عمره، بداية بعت ما أملكه من ذهب لتأمين قوت يوم عائلتي، ثم بعت جزء من أثاث المنزل، قبل أن أبيع أرضي التي لم يكف ثمنها مصاريف الحياة سوى لسنة واحدة”.
وتوسعت في الآونة الأخيرة عمليات بيع الأراضي الزراعية لتأمين مبالغ التهريب، بعد نشاط حركة التهريب من تركيا إلى الدول الأوروبية، يقول أبو فارس، من ريف حلب الجنوبي، إن الحياة لم تعد ممكنة في الشمال السوري، وإن الأرض الزراعية التي يملكها بقيت تحت سيطرة قوات النظام في الحاضر وليس هناك أمل يراه بالعودة إليها، ما اضطره للتفكير بحلّ وجده بتسفير ابنه إلى أوروبا لإنقاذهم، على حد وصفه.
ويضيف “كان بيع الأرض يعادل خروج الروح، لكن الحيّ أبقى من الميت، انكشف حالنا، أرسلت ولدي ووصل إلى هولندا منذ سنتين بعد أن دفعت كامل ثمن الأرض واستدنت فوقها، هو اليوم يرسل لنا ما يساعدنا على العيش وهو ما يريح ضميري بالقرار الذي اتخذته”.
اليأس من العودة إلى القرى والبلدات التي نزح أهلها منها مع غياب أفق للحل وتوسع قوات النظام وقضمها لمساحات جديدة كل سنة، دفع ماهر العثمان، مهجّر من ريف حماه الشمالي لبيع أرضه التي استباحها النظام على حد قوله.
يقول العثمان “بعت جميع أرزاقي في مدينة مورك بما فيها أراضي الفستق الحلبي وعدد من الأراضي المتفرقة، بسعر لا يساوي عشر المبلغ الذي دفع لي قبل النزوح من بلدتي التي سيطرت عليها قوات النظام قبل ثلاثة أعوام”. ويتساءل العثمان” شو بقي النا في هديك المناطق؟؟ رجعة ما عاد النا وحتى لو ارجعنا رح نلاقي النظام قاصص الشجر من على وجه الأرض”.
تختلف دوافع البيع بالنسبة لـ نهاد الموسى، هو الآخر انقطعت لديه الآمال بالعودة إلى مدينته كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، والتي سيطرت عليها قوات النظام قبل ثلاث سنوات، ليطلق كامل ممتلكاته ف للبيع ويلتحق بأسرته التي أرسلها الى تركيا تمهيداً للسفر الى أوروبا ريثما ينتهي من بيع ما تبقى من تلك الأملاك.
يقول الموسى “بعت كامل أرزاقي بتراب المصاري حتى أستطع الهجرة من هذا البلد الذي لم يتبقى لنا منه شيء”.
وبحسب الموسى، فإن “مجمل العقارات التي بعتها لم يتجاوز ثمنها 20% من الأسعار التي كانت تدفع لي قبل نزوحي عن المدينة، بما فيها أرض تين مكونة من أربع دونمات بعت الدونم الواحد منها بـ 700 دولار في حين أن الدونم الواحد كان يعادل 2700 دولار حين اشتريتها قبل سبع سنوات”.
تتنوع أسباب بيع الأراضي بأثمان تقل عن سعر الحقيقي، ويتفق من تحدثنا معهم على أن خسارتهم تجاوزت نصف الثمن، واصفين التجّار والمشترين بـ المستغلين، لكن لأولئك رأي وأسباب أخرى.
تشترى الأراضي الزراعية من قبل تجّار وأصحاب رؤوس أموال يستثمرون في “مغامرة”، على حد وصفهم، بهذه الأملاك التي لا يستطيعون الوصول إليها والاستفادة من إنتاجها، يضاف إليها “شرعية هذه العقود” التي توثق في السجلات العقارية في إدلب، خارج دوائر النظام الذي يسيطر على مكان الأراضي المشتراة، أو بعقود “برانية” بين البائع والمشتري، وما يمكن أن يتسبب ذلك من خسارتهم للأرض بالكامل وعدم القدرة على “توثيقها في السجلات الرسمية لاحقاً”.
ويقول أمين الأسمر، مقاول يعمل في بيع وشراء العقارات، إن سبب شرائه للأراضي الزراعية في قريته بريف إدلب الجنوبي هو معرفة هذه الأراضي وثقته بالعودة إليها عاجلاً أو آجلاً.
ويتعرض الأسمر لانتقادات مستمرة من عمليات الشراء التي يجريها، والتي يراها الكثير منهم استغلالاً لحاجتهم المادية، ويبرر ذلك بقوله: “كتير ناس بتلومني وبتعتبر شرائي لهذه العقارات بأسعار منخفضة هو عملية استغلال لوضع الأهالي المادي، علماً أنني لا أجبر أحداً على البيع، وبالأخير البيع والشراء عرض وطلب”.
ويتابع “البعض يعرض علي عقار وأنا أوضح له أن قدرتي تقف عند مبلغ محدد فإن شاء باع وإن لم يشأ امتنع، يعني بالأخير أن عبشتري سمك فالمي، وبجوز ما أقدر أوصل لجميع الأرزاق الي اشتريتها وأنا عايش”.
ولا تقتصر عمليات الشراء على التجار والسماسرة، إذ يباع القسم الأكبر منها للاجئين والمغتربين، سواء في أوروبا أو دول الخليج العربي ولبنان.
يقول جعفر الخطيب إنه اشترى خمس عقارات لأخيه المقيم في النمسا معظمها لنا أو لأقربائنا وهو ما دفع أخي لشرائها. ويتحدث جعفر عن عمليات تخمين للأراضي من قبل التجار والعارفين بالمنطقة وأسعارها، مرجعاً سبب شراء أخيه هذه الأراضي “للأمل والحنين الذي لم ينقطع يوماً”.
ويقول مصطفى الموسى، لاجئ في ألمانيا من جبل الزاوية، إن عمليات الشراء تأتي لأسباب عديدة، في حالته كان السبب هو الحفاظ على إرث والده، إذ اشترى ميراث أخوته للحفاظ عليه، تجنباً للمشكلات التي قد تحدث من اضطرارهم لبيع حصصهم بأسعار غير مناسبة.
ويضيف الموسى، فارق العملة يلعب دوراً كبيراً، إذ يشتري كثر من أصدقائه أراض زراعية في مدنهم وبلداتهم للحفاظ على المبالغ المالية التي يملكونها، يقول “هي مبالغ قليلة لا يمكن أن تشتري شيئاً في ألمانيا، لكنها قد تشتري أرضاً واسعة في سوريا”.
ولا ينكر مصطفى استغلال أشخاص لظروف احتياجات الناس وشراء أراضيهم بأثمان قليلة، يقول “نحن نعرف أن هذه الأسعار وهمية، لا يمكن أن يتراجع سعر الأرض الزراعية للنصف أو أكثر من ذلك، خاصة أنها أراض مزروعة ولم يطرأ عليها أي تغيير، وأن الدفع يكون بالدولار لا بالليرة السورية التي فقدت قيمتها، لكن من الصعب تقبّل دفع مبالغ أعلى من المتداول في الأسواق”.
تتك فراغة تلك العقارات عقب عملية البيع بعد إخراج رقم العقار وموقعه من قبل المالك السابق للأرض للمشتري ضمن المكاتب العقارية، ويجري تثبيته بعد إخراج بيان عقاري ومساحي للأرض المراد بيعها من قبل دائرة الشؤون العقارية في إدلب لتلافي وجود أي مشاكل على الأرض.
لم تعد الأرقام تشكل شيئاً في الظروف القاسية لسكان الشمال السوري، الأرض كانت آخر الأشياء التي تربطهم بالمكان، وفي سبيل النجاة بدؤوا ببيعها ليقتلَعوا من المكان كما هجّروا منه، هذه المرة مثل كل المرات السابقة، الثمن، أيّاً يكن، كان بخساً لشراء مكان وذاكرة ومسقط رأس.