يضج محيط مدينة جنديرس شمالي غربي سوريا، ذات النصيب الأكبر من الدمار نتيجة الزلزال، بأصوات السيارات التي تنقل مواد البناء مثل البلوك والرمال والإسمنت، فالمدينة تشهد حركة بناء منازل جديدة في محيطها، وبالمقابل تُخرج شاحنات ركام المنازل المدمرة.
وتحول الحيّ الكائن شمالي المتحلق على الطريق المؤدي إلى قرية كفر صفرة، لم تتجاوز مبانيه سابقاً عدد أصابع اليد الواحدة، مؤخراً إلى جمعيات سكنية جل ساكنيها من مهجري حمص ودمشق، ويحيط به عدة مخيمات. أما منازل الحي المبنية وفق أنماط مختلفة معظمها تتكون من طابق واحد، وبعضها أبنية طابقية فالملاحظ أن أساليب البناء فيها لم تختلف عما كانت عليه قبل الزلزال ما ينذر بتكرار الكارثة التي حلت بالمدينة في حال وقوع زلزال آخر.
أيضاً على طول المتحلق المحيط بالمدينة من ثلاث جهات (شمال، شرق، غرب) تنشط حركة تجارة الأراضي، إذ تراوح سعر المتر المربع الواحد من عشرة الى خمسة وعشرين دولاراً أمريكياً تبعاً لموقعها، وجميعها أراض زراعية تُقتلع أشجار الزيتون منها وتجهز كمحاضر للبيع.
كذلك في حي الفيلات يقتَلع أصحاب الأراضي الزراعية أشجار الزيتون لتحويلها إلى محاضر مخصصة للبيع، إذ تم اقتلاع أزيد من 200 شجرة زيتون تقريباً وتكرر الأمر في عدة مناطق بمحيط جنديرس، ويستعان بركام المنازل المدمرة لشق طريق في الأراضي الزراعية بالمدينة.
على غرار منازل حيّ شمالي المتحلق، بطريقة تقليدية ودون أعمدة بيتونية، يبني معظم أصحاب المنازل حديثة الإنشاء منازلهم، إذ يحفرون الأرض حتى بلوغ الجزء الصلب منها (الجبل كما هو متعارف عليه بين الأهالي)، ثم توضع طبقة صخرية تعلوها أخرى بيتونية كأساس للمنزل. أما الجدران فإما أن تبنى بالحجر أو بقطع البلوك مقاس 15 سم.
يعلو الجدران سقف بيتوني بسماكة 20 سم مسلح بقضبانَ حديدية دون بلوك الهوردي المخصص للأسقف والذي يساهم بعزل الصوت، كما أن له دوراً في متانة السقف بحسب “أبو خالد” متعهد بناء. يعتبر أبو خالد آلية البناء المتبعة آمنة ولا تحتاج لاستشارة هندسية، ويفسر ذلك باستنادها للأرض الصخرية وذلك بشرط استخدام مواد بناء ذات جودة عالية.
لم يكن من الصعب التحقق من مواد البناء المستخدمة في المنطقة وجودتها، وبعد سؤالنا بعض معامل البلوك هناك تبين أنهم يستعملون كيس إسمنت بوزن 50 كغ لإنتاج مائة قطعة من البلوك، وفي البناء تستعمل نفس الكمية لكل 100 بلوكة، كذلك كل 4 عربات رمل يضاف لها كيس من الإسمنت.
أكثر ما يثير الاستغراب هو استخدام رمال تستخرج من أطراف نهر عفرين في جنديرس ومناطق أخرى. هذه الرمال تتكون من حصى ملساء ناعمة فيها كثير من الأتربة والشوائب، ويعتقد بعض من التقيناهم أن استخدام تلك الرمال زاد من وقع الكارثة في جنديرس.
المهندس محمد خير حايك المختص بهذا الشأن، يؤكد أن الرمل المستخرج من أطراف النهر يشترط به النظافة التامة وعدم احتوائه على أتربة أو رواسب وهو شرط غير متوفر غالباً، كما قدّر الكميات الضرورية لبناء آمن بضعف الكميات التي تستخدم في إنتاج البلوك، أو التي يستخدمها أبو خالد في البناء.
صدمة الحايك بمقادير مواد البناء المستعملة لم تكن وليدة اللحظة، كما أنها لم تكن لهذا السبب فحسب، بل تعود لعدم الاستفادة من الدروس التي علمتنا إياها كارثة الزلزال إذ يقول: “على ما يبدو أن المعايير المتبعة في البناء وفق ما تم وصفه سابقاً لا تصل لنصف المعايير المقبولة وربما أقل وهو ينذر بخطر تكرار كارثة آثار الزلزال، لا قدّر الله”.
كما شهدت أسعار مواد البناء ارتفاعاً ملحوظاً منذ بدء نشاط حركة البناء نتيجة ارتفاع الأسعار عالميا وتضرر قطاع الصلب في تركيا، المصدر الرئيسي لمواد البناء في الشمال السوري. كما أن زيادة الطلب عليها محلياً جعلها تُفقد أحياناً، إذ زاد سعر طن الإسمنت الأسود بين 10 في المائة و20 في المائة ليصل إلى 110 دولارات.
ونسبة الزيادة نفسها لحقت الحديد المبروم مع وصول سعر الجديد منه إلى 700 دولار للطن الواحد. إلا أن كثيرين يستخدمون الحديد المستخرج من الأنقاض بعد تعديله، بنصف سعر الجديد تقريباً وذلك حسب الجودة والنوعية.
ويبلغ سعر سيارة الرمل الأبيض (النحاتة) حجم عشرة أمتار مكعبة 100 دولار. وكذلك سيارة البحص من الحجم نفسه، بينما يبلغ ثمن البلوكة قياس 15 سم 27 سنتاً، وقياس 20 سم 30 سنتاً بنسبة ارتفاع مماثلة لباقي المواد.
محمد راضي (اسم مستعار) اشترى قطعة أرض عقب الزلزال بفضل ما تلقاه من أقاربه وأصدقائه من مساعدات مادية، وباشر في بناء منزله عليها لإيواء عائلته وإخراجها من الخيام التي تغطي محيط جنديرس.
تكاليف البناء المرتفعة دفعت راضي لاتخاذ قرار ببناء منزل دون سقف بيتوني، كمعظم منازل المهجرين وكذلك المتضررين من الزلزال في الشمال؛ وهذه المنازل عبارة عن خيمة مسقوفة بطبقة بطانيات وأخرى عازلة لمياه الأمطار، لهذا السبب لم يقدم راضي على طلب رخصة بناء متسائلاً عن سبب الترخيص طالما أن بناءه أشبه بخيمة، وعلل ذلك بقوله: “لا يمكن للناس المتضررة انتظار أن تقوم المنظمات بمساعدتهم بالبناء فقد يطول الأمر كثيراً،” ويضيف: “كل واحد وصله قرشين بده يآوي حاله بقطعة أرض اشتراها”.
ضمن مخطط جنديرس التنظيمي لا يوجد طلبات ترخيص جديدة للبناء، بحسب المهندس “نوري سيدو” رئيس قسم التخطيط العمراني والرخص ضمن مجلس جنديرس المحلي. ويقول سيدو: “لم يتم منح رخص بناء جديدة خارج المخطط التنظيمي إلى الآن وتعتبر كل الأبنية المنشأة حديثاً عقب الزلزال مخالفة”.
تقتصر طلبات الترخيص ضمن المخطط التنظيمي عقب الزلزال على عمليات الترميم، بينما خارج المخطط التنظيمي يحتاج منح رخصة بناء إلى وجود طلب تخصيص للأرض (وهو تحويل قطعة الأرض من زراعية إلى مخصصة للسكن بمساحة صغيرة لا تتجاوز ستين متراً مربعاً عند تقديم الأوراق المطلوبة وثبوتيات الملكية). وبناء عليه يقرر منح الرخصة من عدمه، بحسب سيدو.
يتبع أبو علي مهجر من حمص طريقة أخرى في البناء عبر بناء منزله بدون أن يحفر أساسات في الأرض معتمداً على ركام المنازل لصنع جبل صناعي يرتكز المنزل عليه، ويوضع هذا الجبل فوق الأرض مباشرة ويرتفع ما يقرب من المتر أو قد يزيد حسب ميلان الأرض وموقعها.
يقول أبو علي: “سيكون الجبل ركيزة قوية تحت المنزل يعلوه شيناج (أساس) بيتوني وثم جدران من قطع البلوك وفوقها طبقة بيتونية بسماكة 20 سم.” وعن آليات البناء المتبعة تلك يقول الحايك: “لا يمكن تحميل جدران البلوك أوزاناً بيتونية فهي غير آمنة ولا يعتمد عليها”.
يبقى تأمين مأوى أفضل من خيمة هو محرك الأشخاص للبناء بهذه الأساليب غير الآمنة هندسياً، وفي تقرير سابق لفوكس حلب في حزيران عام 2021 عن حركة البناء في جنديرس ذكرنا الأماكن التي نشطت بها حركة البناء بشكل غير مرخص وهي ذاتها كانت من أشد الأماكن التي تعرضت للضرر جراء الزلزال.