تراجعت أسعار سلع ومواد صناعية وزراعية تنتج في المناطق الخاضعة للحكومة المؤقتة، وارتفعت أسعار المستوردات بعد الزلزال وذلك لأسباب عديدة، منها ضعف التصدير وارتفاع الأسعار الجمركية وتأرجح أسعار الصرف وضعف القدرة الشرائية وتأثر القطاع الصناعي والزراعي في المنطقة.
وتعتبر التجارة بشقيها (الاستيراد والتصدير) الأساس الذي يعتمد عليه نحو خمسة ملايين شخص يعيشون في الشمال السوري (أرياف حلب وإدلب) في الحصول على ما يحتاجونه من غذاء ومواد صناعية خام ومصنعة، وذلك لقلة المشاريع الصناعية خاصة المعامل الكبيرة، منذ ما قبل الثورة السورية في عام 2011، والتي تركزت في مراكز المدن الكبرى كذلك تراجع المساحات الزراعية الضيقة والمتنوعة.
وشهدت هذه المناطق نشاطاً تجارياً لصالح الاستيراد من الدول المجاورة أو المناطق متنوعة السيطرة مثل النظام وقوات سوريا الديمقراطية في السنوات الخمس الأخيرة، إضافة لزيادة في الصادرات مع انتعاش محدود في الورش الصناعية، وزراعة محاصيل اقتصادية يسمح بتصديرها عبر المعابر الخارجية والداخلية عصب التجارة الممسك بتوسعها أو تراجعها، وتقديم تسهيلات بالمرور للتجار والصناعيين من وإلى تركيا، لتبدأ مع الزلزال بالتراجع مرة أخرى لخوف التجار من المجازفة وإغلاق المعابر لفترات متقطعة وضعف القدرة الشرائية التي فاقمها الزلزال، وتراجع مستوى الأمان.
وتشكّل المواد الغذائية 27% من أنواع التجارة في المنطقة تليها الزيوت والسمن بـ 8%، السكر 7%، المحاصيل الزراعية 6%، الخضار، الفاكهة، الأرز، مواد البناء، المحروقات، البقوليات، القمح والطحين والألبسة 4% لكل منها، المواشي، اللحوم، البرغل، الأجبان والألبان والدواجن 3% لكل منها، البطاريات، ألواح الطاقة الشمسية، مواد التنظيف، الأحذية، آليات ومدخلات زراعية 2% لكل منها، بينما تشكل المعدات الصناعية 1% من أنواع التجارة، بحسب وحدة تنسيق الدعم ACU.
المعابر عصب التجارة
تسبب الزلزال بفوضى تركت آثارها على المعابر الخارجية والداخلية وترك اتساع رقعة الدمار في تركيا أثره على الصادرات والواردات إلى مناطق الحكومة المؤقتة، أغلقت بسببه المعابر لفترات متقطعة وقلّت الواردات لعدم شعور التجار بالأمان في الدخول والخروج الذي توقف بعدها، ودراسة السوق واحتياجاته وغياب القدرة على تقدير أنواع المساعدات وحجم الاستجابة الدولية للزلزال، إضافة لتوقف اليد العاملة في الورش والمعامل في الجانبين السوري والتركي ودمار معامل ومصانع، كذلك القرارات التي تسهل عمل التجار وعمليات الاستيراد بخصوص الرسوم الجمركية، بحسب الاقتصادي مصطفى الرسلان.
ويقول محمد حنش، رئيس غرفة الصناعة والتجارة في مدينة الراعي بريف حلب، إن المنطقة شهدت نهضة صناعية وتجارية في السنتين الأخيرتين، خاصة بعد افتتاح المناطق الصناعية والسماح بتصدير المنتجات المحلية إلى تركيا أو عبرها إلى دول أخرى، وإن متوسط حجم الصادرات السنوي في المنطقة الصناعية بمدينة الراعي بلغ نحو 75 مليون دولار.
وأضاف حنش أن أكثر المواد المصدّرة هي الأحذية والألبسة والحديد الكونسروة، أما المستوردة فكان أهمها “المواد الأولية للصناعات مثل الأحذية والنايلون إضافة للمواد الغذائية”.
وأرجع حنش سبب ارتفاع المواد المستوردة في السوق لتوقف أغلب المعامل التركية في الفترة التي تلت الزلزال عن العمل، إذ إن المنطقة لم تشهد أضراراً مباشرة تذكر باستثناء منطقة جنديرس.
وتمثل تركيا 60% من مصادر المواد التجارية إلى المنطقة، بينما تشكل مناطق النظام 5%، ومناطق قوات سوريا الديمقراطية 7%، وتتوزع النسبة المتبقية وهي 28% على إدلب والمنطقة المحلية، بحسب وحدة تنسيق الدعم.
ويوجد بين تركيا ومناطق الحكومة المؤقتة ستة معابر (جرابلس، الراعي، باب السلامة والحمام، رأس العين وتل أبيض ) يعمل فيها نحو 400 موظفاً، بحسب العميد عثمان هلال مدير الجمارك العامة.
ويقول العميد هلال إن الحركة التجارية لم تتوقف بعد الزلزال لكنها انخفضت، بالمقابل زادت حركة المساعدات الغذائية، مؤكداً أن الحركة التجارية بدأت تستعيد عافيتها خلال الأيام الماضية.
وقدّر هلال عدد الشاحنات المستوردة خلال الأشهر الخمسة الماضية بنحو 45 ألف شاحنة والشاحنات المصدّرة بنحو 2800 شاحنة.
المخلص الجمركي في معبر الراعي أبو محمد، قال إن تراجع الحركة التجارية بدأ مع بداية العام الحالي وزاد بعد السادس من شباط “بعد الزلزال بقينا شهراً كاملاً دون عمل، العمل ضعيف منذ رأس السنة ويوجد في المعبر نحو 40 مخلصاً جمركياً”.
يدفع أبو محمد وأقرانه 200 دولار كل ستة أشهر ثمن بطاقة المخلص الجمركي إضافة لـ 300 دولار بدل إيجار للمكتب للفترة ذاتها، ويستوفي 5 دولارات عن كل سيارة يخلصها جمركياً، يقول “في هذه الفترة نخلص سيارة واحدة أو سيارتين على أبعد تقدير”.
يوافقه الرأي عبدو المحمود، يعمل كحمّال في معبر الراعي، يقول “كنا سابقاً نفرغ سيارتين أو ثلاثة أما اليوم فنحن 20 ورشة في كل منها 7 عمال، نعمل يوماً ونتوقف يوماً وإن حالفنا الحظ في يوم عملنا نفرغ سيارة واحدة”.
لدى المحمود أربعة أطفال يقطع لتأمين قوتهم مسافة 25 كيلو متر من محل عمله، أملاً في أن تكون ورشته من أصحاب الحظ بالحصول على دور لتقاضي مبلغ 500 ليرة تركية يقتسمها العمال السبعة فيما بينهم.
حظ السائقين بين المعابر ليس أفضل حالاً، يقول مصطفى الحمزة أحدهم، ويرجع السبب للسماح بمرور السيارات التركية إلى مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي كافة باستثناء معبر الحمران، يقول “أحياناً ومنذ الزلزال نبقى دون عمل لمدة 15 يوماً، كل مناشداتنا بعدم السماح للسيارات التركية بالدخول إلى المنطقة قوبلت بالرفض!”.
ويستقبل معبر الحمران الذي يربط بين أرياف حلب ومناطق شرق الفرات وتسيطر عليه قوات قسد، المواد الغذائية والسكّر والمشروبات الغازية والأدوات المنزلية والكهربائية والزيوت المعدنية وحجر البناء النحيت والخضار والأقمشة، ويصدّر منه النفط والكبريت الصناعي والألبسة والأحذية والصوف والقطن، بحسب أحد العاملين في المعبر.
ويقدر العامل “عدد السيارات التي تدخل من شرق الفرات بنحو 150 شاحنة نفط ومن 20 إلى 30 سيارة يومياً، بينما نصدر إلى شرق الفرات نحو 75 سيارة يومياً”.
المعابر مع مناطق النظام في هذه المنطقة مغلقة، وتصل المستوردات والصادرات منها وإليها عبر مناطق قسد.
إجراءات جمركية وتأرجح في سعر الصرف
يدخل من التجار عبر المعابر إلى تركيا وبإذن سنوي يدفع لأجله 2000 دولار نحو 800 تاجر، يزيد أو ينقص العدد بحسب التجديد، بينما يدخل من تركيا إلى أرياف حلب نحو 400 تاجر، لتفقد بضائعهم والاتفاق على المواد التي يحتاجونها وتأمين تسويق لمنتجات أخرى في دول الجوار.
بين أعوام 2020 حتى 2023 أقرّت ثلاث لوائح لجمركة البضائع بسبب فرق التصريف بين الليرة التركية والدولار، آخر هذه اللوائح اعتمدت الدولار تجنباً لتغير سعر الصرف، بحسب محمد الحاج محمد مدير جمارك الراعي.
يقول الحاج محمد إن الضرائب الموضوعة من قبل الحكومة التركية على الصادرات السورية “كبيرة”، وهو ما يدفع التجار لاختيار أسواق خارج تركيا لتصريف منتجاتهم عبر طرق الترانزيت.
ويقدّر الحاج محمد عدد الشاحنات المصدّرة بنحو 150 شاحنة شهرياً معظمها يحتوي محاصيل زراعية، خاصة البطاطا والخضار إضافة للأحذية، بينما يستقبل المعبر بين 100 إلى 200 شاحنة مستوردة يومياً، تحوي الإسمنت ومواد البناء والأعلاف والطحين والمواد الغذائية.
تحدد الرسوم الجمركية وتعدل من قبل لجنة مشكلة من وزارة المالية والاقتصاد والمديرية العامة للجمارك واتحاد غرف التجارة في المنطقة، وهي عبارة عن رسوم خدمية، بحسب العميد عثمان هلال مدير الجمارك العامة.
ويضيف العميد هلال “يؤخذ بعين الاعتبار في الاستيراد المحافظة على الأمن الغذائي من خلال توفير البضائع الغذائية برسوم مخفضة، مثل الطحين والزيوت والسكر، ورفع رسوم البضائع المستوردة التي يوجد ما يماثلها في الإنتاج المحلي لحمايته، ويمنع استيراد المواد من البلدان المعادية مثل روسيا وإيران وإسرائيل، ورفع رسوم البضائع المستوردة للرفاهية مثل الدخان والعطور والسيارات، ومنع استيراد السلع الموسمية خلال فترة انتاجها كالبطاطا والخضروات، أما في التصدير فيسمح بتصدير كل المواد إلا إن كانت لا تحقق اكتفاء محلياً”.
يقول زكي أبو النور، صاحب ورشة أحذية بريف حلب، إن معظم المواد الخاصة بالأحذية تستورد من تركيا، لكن أسعارها بعد التصنيع أقل منها في تركيا بسبب توفر اليد العاملة “الرخيصة”، على حد وصفه.
ويضيف “لا نستطيع تصريف بضائعنا في تركيا تجنباً لخسارة الورشات السورية فيها، ما يضطرنا لتصريفها عبر طرق الترانزيت من تركيا إلى ليبيا والخليج العربي ولبنان، وهو ما يفرض تكاليف إضافية ويقلل من الربح”.
يعمل في ورشة أبو النور 50 عاملاً، ينتجون نحو 2500 زوجاً من الأحذية، وهو ما يعني رواجاً في هذه الصناعة والتجارة بها إن توفّرت التسهيلات اللازمة لذلك، من توفير للأمن وتخفيض الرسوم وغيرها من الضروريات الأخرى.
المنتجات الزراعية هي الأخرى تحتاج إلى حلول لتصدير الفائض منها، بحسب محمد الأشقر تاجر حبوب في إعزاز، والذي قال إن الحكومة التركية لم تستقبل منتجات الحبوب في العام الحالي ما أدى إلى انخفاض أسعارها، ويضرب مثالاً عن محصول الشعير الذي تراجع سعره من 420 دولاراً في العام الفائت إلى 200 دولار، والقمح من 600 إلى 300 دولار، بعد إيقاف تصديرهما، هذا الأمر ينطبق على محاصيل زراعية متنوعة أخرى، تراجع سعرها بنحو 50% ما أدى إلى خسارة المزارعين أو اتجاههم لزراعة محاصيل اقتصادية يسمح بتصديرها، رغم تكلفتها العالية وإضرارها بالتربة كذلك فقدان المنطقة لتنوعها الزراعي.
تراجع سعر صرف الليرة التركية وضعف القدرة الشرائية تسبب بما يشبه “الشلل” في تجارة الألبسة، والتي قدّر تراجعها بنحو 75%، يقول عادل أبو أحمد تاجر ألبسة في مدينة الباب “لم يعد اللباس أولوية، نسبة كبيرة من السكان ليس لديهم عمل ومن يحالفه الحظ يتقاضى راتبه بالليرة التركية، وبما لا يزيد عن ألف وخمسمائة ليرة، لا تكفي لشراء أولويات الحياة من غذاء ودواء”.
وتمثل نسبة المستوردات بالدولار 92% مقابل 8% بالليرة التركية، في الوقت الذي تباع فيه المستوردات بالليرة التركية وبنسبة 93% مقابل 7% بالليرة التركية، بحسب وحدة تنسيق الدعم. ومع تراجع سعر الصرف بعد الزلزال خسر التجار نحو 9% من رأس مالهم، فقط بسبب الفروق السعرية.
إضافة لعدم استقرار سعر الصرف في العملات المختلفة (الدولار-الليرة السورية) والذي شكل 12% من صعوبات القطاع التجاري، برزت مشكلات أخرى أهمها ارتفاع تكاليف الشحن 13% وإغلاق المعابر 30% موزعة على (11% معابر مع سيطرة النظام، 10% مع تركيا، 9% مع مناطق قسد)، اعتماد المستهلكين على الدين والتأخر في السداد 10%، عدم استقرار الليرة التركية 9%، فقدان بعض المواد من الأسواق 7%، الإتاوات 7%, الأوضاع الأمنية السيئة 4%، عدم وجود قوة تنفيذية لاسترداد الدفعات المالية والقصف 3% لكل منهما.
دعم حركتي التصدير والاستيراد وإيجاد أسواق بديلة لتصريف المنتجات ووضع سياسة واضحة على المعابر تضمن استمرار تدفق المواد منها وإليها، وضبط الرسوم الجمركية وتخفيضها، وتحقيق الأمن وإيجاد قوة تنفيذية للعقود المالية من أهم الشروط لانتعاش القطاع التجاري الذي تراجع في الآونة الأخيرة، لاستقطاب الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين إلى المنطقة، ما يضمن عودة النشاط التجاري الذي بدوره سينشط القطاعات الأخرى الصناعية والزراعية.