استقرّ قسم كبير من أسعار المواد الخام الصناعية بعد نحو شهرين من الزلزال، وأعيد فتح معبر باب الهوى أمام دخولها، وبدأت عجلة الورش والمعامل بالدوران، لكن القطاع الصناعي في شمال غربي سوريا لم يتعافى حتى اللحظة لأسباب كثيرة، أهمها الدمار الكبير في مباني المنشآت الصناعية والورش، وتلف أو تعطل آلاتها، وصعوبة ترميمها أو إصلاحها دون تعويض من المديريات التابعة لحكومة الإنقاذ، أو المنظمات العاملة في المنطقة.
يقدّر عبدالله المصري المدير العام للصناعة في حكومة الإنقاذ، عدد المنشآت الصناعية في المنطقة ما بين (2000 -2500) منشأة، تتوزع بين الصناعات الغذائية والكيميائية والنسيجية والهندسية. قسم كبير من هذه المنشآت تعرّض لأضرار مباشرة أو تأثر بالزلزال وتداعياته، يقول المصري إن الأضرار شملت “البناء والآلات والمواد الخام والمنتجات المصنعة، إضافة لإصابات وضحايا بين العمّال والكوادر الإدارية”.
ويضيف مدير الصناعة أن أهم المنشآت الصناعية التي تأثرت كانت “معاصر الزيتون، الأفران، مناشر الحجر والرخام، معامل المنظفات”، مؤكداً أن حجم الدمار الذي وصفه بـ “الهائل” للمباني والآلات، وعدم تعويض أصحابها لإعادة تشغيلها يحول دون تعافي القطاع الصناعي حتى الآن.
يقول أبو عبدو، يملك ورشة للألبسة في مدينة الأتارب تضم نحو خمسين ماكينة ومائة عامل، إن “الزلزال هدّم أكثر من نصف الورشة المؤلفة من طابقين، وتضررت منظومة الطاقة الشمسية التي يعتمد عليها في التشغيل، إضافة للآلات والمكنات والأقمشة والبضائع الجاهزة التي أخرجها من تحت الأنقاض، قسم منها تعرض للتلف بينما تحتاج المكنات للإصلاح، ما اضطره للتوقف عن العمل”.
تداعيات ما بعد الزلزال كان لها الأثر الأكبر على القطاع الصناعي، إذ تسبب إغلاق معبر باب الهوى قبل إعادة فتحه، بعدم قدرة الصناعيين على استيراد المواد الأولية وارتفاع أسعارها إن وجدت، وتوقف الشحنات الموجود في الموانئ ودفع تكاليف إضافية لإبقائها. كذلك شكل ارتفاع تكاليف الشحن والوقود والكهرباء وتغيّر سعر الصرف وإغلاق المعابر الداخلية وتوقف التصدير والاستيراد منها وإليها (مناطق النظام وقوات سوريا الديمقراطية)، عوامل أخرى في تأثر القطاع الصناعي وتوقف معامل وورشات عن العمل، أو تقليل الإنتاج وعدد العاملين.
يقول مدير الصناعة في حكومة الإنقاذ إن “إغلاق المعبر تسبب بارتفاع أسعار المواد الخام والذي أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المنتجات بنحو 15% عما كانت عليه قبل الزلزال، وإن تداعيات الزلزال تسببت بتأخير في عجلة النمو الاقتصادي بنحو 10%”.
ويقدّر المصري نسبة المواد الخام المستوردة للصناعات من خارج المنطقة بنحو 70%، مؤكداً أن عملية الاستيراد تأثرت بسبب “صعوبة الحصول على المواد وإغلاق المعبر وانقطاع الطرقات وارتفاع أسعار المواد الخام”.
قسم من المنتجات والمواد الخام عاد إلى سعره ما قبل الزلزال، يقول أبو مصطفى، تاجر طحين مستورد، إن سعر طن الطحين ارتفع من 350 دولاراً إلى 450دولاراً، كذلك زادت أسعار الخميرة بمعدل دولار واحد لكل كرتونة، واستمرت هذه الزيادة لنحو شهر كامل، قبل أن تنخفض من جديد بعد فتح المعبر لتعود إلى سعرها القديم.
قسم آخر حافظ على الزيادة السعرية، بسبب زيادة الطلب عليه مثل الأسمنت الذي ارتفع من 80 إلى 106 دولارات، بحسب متعهد أعمال البناء علي مروح، والذي أرجع السبب لـ “كثرة الطلب على الأسمنت من أجل ترميم المباني المتضررة وتدعيمها، خاصة وأنه يستورد من تركيا المتضررة بالزلزال بشكل كبير، بينما حافظت مواد البناء الخاصة بالإكساء، مثل السيراميك والتمديدات الصحية، على أسعارها، نوعاً ما، بسبب قلة الطلب عليها”.
يقول حج حسين، صاحب معمل لأكياس النايلون، إن حركة المرور والشحن توقفت من الجانب التركي لنحو شهر تقريباً، وأن المواد الخام بقيت في ميناء مرسين ما تسبب بتوقف الإنتاج في معمله من جهة وزيادة التكلفة من رسوم وضرائب في الميناء.
التكلفة الزائدة التي قدّرها حج حسين بنحو 150 دولاراً للطن الواحد أجبرته على رفع الأسعار وخسارة قسم من زبائنه الذين كان قد اتفق معهم على تسليم البضائع بالأسعار القديمة.
وتسببت فروقات سعر تصريف الليرة التركية مقابل الدولار بمشكلة أخرى للصناعيين، إذ انخفضت قيمة الليرة بنحو 10%، ما أدى إلى ارتفاع في سعر المنتجات سواء لتجار الجملة أو المفرق، خاصة وأن 91% من المواد الأولية الصناعية يدفع أصحاب المنشآت والورش ثمنها بالدولار، مقابل 24% من المبيعات بالدولار للمنتجات، بحسب وحدة تنسيق الدعم ACU.
يقول من تحدثنا معهم إن ربح المنشآت الصناعية لا يتجاوز “أجزاء من الدولار= سنتات”، والاتفاق مع التجار كان بالليرة التركية، ما تسبب إما بنقض الاتفاق وخسارة الزبائن، أو التوقف عن العمل ريثما تعود أسعار الصرف إلى طبيعتها، وهو ما لم يحدث هذه اللحظة، إذ وصل سعر التصريف اليوم لنحو 21 ليرة تركية للدولار الواحد، مقابل 18.8 في اليوم الذي سبق الزلزال.
العمال كانوا أكثر المتضررين بالزلزال، إذ يعمل معظمهم في ورش ومعامل خاصة دون عقود عمل تجبر أصحابها على دفع مستحقاتهم في حال التوقف، سوى بمبادرات شخصية.
يقول أبو عبدو، صاحب ورشة الخياطة التي تضررت في مدينة الأتارب، إنه دفع للعمال نصف راتب شهري خلال فترة توقفهم عن العمل، قبل أن ينقل ورشته إلى مكان آخر ويبدأ العمل من جديد، بينما لم يتقاضى، مصطفى الخليل، عامل في ورشة بناء في سرمدا، وأبو أحمد، خيّاط في ورشة داخل مدينة الدانا، أي مبلغ مالي منذ توقفهم عن العمل بسبب الزلزال.
يتقاضى الخليل ما يعادل 105 دولاراً شهرياً من عمله قبل الزلزال، يقول إنها “ما بتكفي طلبات العائلة الأساسية، منعتمد على السلة الغذائية الشهرية وساكن مع عائلتي بمخيم لوفر أجار البيت، ما في مدخرات كمان، ومن وقت وقفت الورشة انكشف حالنا”.
تقدّر وحدة تنسيق الدعم ما يتقاضاه العمال من المهن الصناعية في شمال غربي سوريا بين 87 إلى 109 دولارات، وهو ما يعني أن جميعهم تحت خط الفقر، وفي كارثة مثل الزلزال وما رافقها من فقدان لهذه المبالغ اليسيرة وارتفاع ثمن المنتجات، يتحوّل معظم العمال إلى ما تحت خط الجوع لعدم قدرتهم على تأمين المواد الأساسية لعائلاتهم.
ما يعيشه العمال، ينطبق على 90% من سكان الشمال السوري، بحسب تقديرات منسقو الاستجابة، وهو ما يؤدي أيضاً، ونتيجة ضعف القوة الشرائية، إلى تراجع القطاع الصناعي والذي يعتمد على السوق المحلي بتصريف 93% من إنتاجه، بحسب وحدة تنسيق الدعم.
ليس هناك استجابة لمتضرري القطاع الصناعي في الزلزال، ففي الوقت الذي غاب فيه الدعم من قبل المنظمات الدولية لهذه الفئة من المتضررين، اقتصر دور المديرية العامة للصناعة وغرفة تجارة وصناعة سوريا الحرة على تسهيل دخول المواد الخام وإعفائها من الرسوم، وتسهيل تصريف المنتجات وإحصاء الأضرار الناتجة عن الزلزال ورفع سجلات من أجل تعويض أصحابها وتقديم دراسات فنية لترميم المنشآت وصيانة الآلات، بحسب مدير الصناعة.
يقول من تحدثنا معهم من متضررين إن الانتظار قد يطول دون جدوى لتعويضهم عن الأضرار، قسم منهم رمم ما خسره على نفقته الشخصية، آخرون أغلقوا ورشاتهم لعدم قدرتهم على إصلاحها، أما العمّال فـ “لا حول ولا قوة”، يطرقون الأبواب بحثاً عن فرصة عمل أخرى، وسط ارتفاع في معدلات البطالة وقلّة في فرص العمل، إذ لا يغطي القطاع الصناعي سوى 16% من مصادر الدخل للعاملين في شمال غربي سوريا، 2% منهم ضمن المعامل والمشاغل، 3% في الصناعات اليدوية، 11% في أعمال البناء وإنتاج مواده، بحسب وحدة تنسيق الدعم.
بعد نحو أربعة أشهر ما تزال تداعيات الزلزال تظهر بشكل أكبر على حياة السكان في شمال غربي سوريا، إذ توسّعت دائرة الفقر والبطالة، وزادت الاحتياجات، ما يفرض إيجاد حلول لدعم القطاعات المنتجة كافة، خاصة الصناعية منها، والتي تضاعفت أعداد منشآتها خلال السنتين الأخيرة، وتنوعت مجالاتها، وأنشئت مدن صناعية مخدّمة ومجهزة لهذا الغرض، قبل أن يهدم الزلزال كثيراً منها، وتهدّد آثاره ما بقي منها.