لم تراع تفاصيل ذوي الاحتياجات الخاصة خلال الاستجابة لزلزال السادس من شباط أو بعده، إذ خلت مراكز الإيواء أو الشقق التي سلّمت لهم من المعايير المطلوبة، سواء من ناحية التوسع في البناء والأبواب أو الحمامات الخاصة، كذلك الطرقات وبعد المسافة وتوفر الخدمات الصحية وآليات الدخول والخروج من الأبنية دون مساعدة، إضافة لتقديم المساعدات الإنسانية والصحية ومراعاة القرب والبعد عن أماكن العمل.
وتتشابه الوحدات السكنية التي وزّعت على متضرري الزلزال في شمال غربي سوريا، من حيث المساحة وتقسيمات الغرف، معظمها أبنية ليست طابقية، لكّن جميع من التقيناهم من ذوي الاحتياجات الخاصة تحدّثوا عن أعباء إضافية رافقتهم في الأماكن التي نقلوا إليها، ما فاقم صعوبات الحياة اليومية عليهم وعلى عائلاتهم،كذلك ترك أثره النفسي السلبي عليهم لزيادة حاجتهم إلى المساعدة من قبل أشخاص آخرين في معظم تفاصيلهم اليومية، وعدم القدرة على التكيف داخل هذه الشقق غير المراعية لطبيعة إعاقتهم.
سجين داخل الغرفة
حريّة التنقل داخل الشقة السكنية من أهم المعايير التي يطلبها ذوو الاحتياجات الخاصة، والتي يجب مراعاتها خلال البحث عن مسكن لهم، وتكييف هذه الشقق بما يتناسب مع ظروفهم، وهو ما يعزز من ثقتهم بأنفسهم ويقلل من “الحرج” والصدمة النفسية التي لخصها من تحدثنا معهم بـ “وجودهم كعبء، سواء على عائلاتهم أو محيطهم الاجتماعي”.
يصف أبو جعفر، من سكان مدينة الأتارب، مصاب بشلل سفلي، رحلته بعد الزلزال من مراكز الإيواء إلى أرض زراعية ثم شقة سكنية في بلدة كللي بـ “القاسية”، ويتحدث عن “تهميش ونسيان لذوي الاحتياجات الخاصة وعدم تقدير لظروفهم الخاصة”، خلال هذه التنقلات.
يتنقل أبو جعفر، على كرسي كهربائي متحرك خارج المنزل، أما داخله فيعتمد على كرسي عادي، ويستخدم يديه في تدوير العجلات، ذلك كان في منزله العربي الذي يسكنه في مدينة الأتارب قبل تصدّعه بالزلزال واضطراره لمغادرته، إذ فقد منذ تلك اللحظة “التجهيزات التي طوّعها داخل المنازل لتتناسب مع حالته، من توسيع للأبواب إلى الممر الذي يسير فيه إلى خارج المنزل، بما يضمن مرور الكرسي دون عوائق، إضافة للحمام “الإفرنجي” الذي يسهل عليه استخدامه”.
أتنقل داخل منزلي بـ “حرية”، يقول أبو جعفر، “أرض الديار واسعة ويقودني الكرسي إلى تختي وإلى المطبخ، أفتح البرّاد دون مساعدة من أحد، وأستحم وأقضي حوائجي، وأصل إلى الشارع وإلى محلّات التسوق أيضاً”.
بعد ساعات من الزلزال، تغيّر كل شيء، يضيف أبو جعفر، “انتقلنا إلى مركز إيواء داخل مدرسة الصناعة، لم يكن هناك أي تجهيزات لذوي الاحتياجات الخاصة، لكن طبيعة الظرف وحجم الكارثة وباعتباره مكاناً مؤقتاً هوّن علي الصعوبات”.
بعد أيّام أمضاها أبو جعفر داخل مدرسة الصناعة، فُكك مركز الإيواء ونقل مع متضررين آخرين إلى مخيم داخل أرض زراعية في قرية الجينة، لتبدأ مشكلات أخرى بالتشكّل، خاصة وأن تصدّعات المنزل الذي كان يسكنه حالت دون العودة إليه مرّة أخرى.
يقول أبو جعفر “المخيم كان عبارة عن خيام متلاصقة ببعضها البعض مبنية على أرض طينية، كان الوقت شتاء وزادت الأمطار من صعوبة الحياة، إذ كان من المستحيل التنقل بالكرسي الكهربائي فوقها أو بين الخيام المتلاصقة، كنت أزحف وأزحف حتى أصل إلى خيمتي أو يشاهدني أشخاص فيحملوني إليها، وداخل الخيمة كنت أزحف للوصول إلى فراشي”.
المشكلة الأكبر كانت في دورات المياه، يقول أبو جعفر إنها “متر بمتر مصنوع من الصاج”، ومع “الظروف الأخرى صرت عالقاً داخل المكان، لا أستطيع الدخول أو الخروج”، يضاف إلى ذلك أن “معظم المساعدات اقتصرت على الاسفنج والأغطية ومواد غذائية، لا موادّ صحية أو نظافة، لا حفوضات على سبيل المثال لمن يحتاجها، لا أحد اهتم بهذه الجوانب من المنظمات”.
فكرة العودة إلى المنزل المتصدع، بما تحمله من خوف، كانت ترافق أبو جعفر، على حدّ قوله، لكن انفراجة حدثت بنقل سكان المخيم إلى شقق سكنية في مخيم كللي أو الكمونة، إلا أن الحال لم يتغيّر، وزاد عليه صعوبات أخرى في المكان الجديد.
يشرح أبو جعفر حال المكان، يقول “لم يكن هناك تجهيزات لذوي الاحتياجات الخاصة، الدخول عبر الأبواب في الشقق الضيقة التي لا تزيد عن ثلاثين متراً كان أمراً شائكاً، الطرقات مفروشة بالبحص ما مزّق دواليب الكرسي الكهربائي، دورات المياه لا تختلف عن تلك التي كانت في الخيام ويصعب الدخول أو الخروج إليها لحالات تشبه حالتي، المساعدات شحيحة والمرافق الصحية غير متوفرة”.
أنا الآن “سجين في غرفة”، سابقاً فقدت قدمي للمشي، والآن أفقد ما يعينني “الكرسي الكهربائي”، بعد تعذّر استخدامه.
شقق على قمة جبل
اختيار مكان الشقق السكنية صعوبة أخرى واجهت ذوي الاحتياجات الخاصة، ومع ضيق المساحات المتاحة وزيادة عدد المهجرين والنازحين لجأت المنظمات إلى الأراضي الجبلية لتهيئتها وبناء وحدات سكنية داخلها.
في الجهة الغربية من بلدة كللي وعلى بعد نحو خمس كيلو مترات منها، وزعت شقق سكنية للمتضررين من الزلزال، ومنهم مالك الأحمد، مهجر من مدينة حلب يسكن في ترمانين، وتعرض منزله للدمار بشكل كبير ولم يعد صالحاً للترميم.
فقد الأحمد إحدى قدميه في عام 2013، واستعاض عنها بطرف صناعي “من فوق الركبة”، وفي الزلزال سكن مركز إيواء أنشأه أصدقاؤه ومنحوه غرفة له ولعائلته المكونة من زوجته وطفليه، قبل أن تمنحه مديرية التنمية، بعد شهر، شقة سكنية في مخيم كللي.
يقول الأحمد إن المخيم “على رأس جبل، ويصله السكان عبر طريق زراعي، ولا توجد مواصلات لتنقلنا إلى المكان المقطوع عن العالم الخارجي، خاصة وأن بعد المسافة ووعورة الطريق لا تتناسب مع قدمي الاصطناعية”.
“من يستطيع المشي لخمس كيلومترات على عكاز و طرف اصطناعي”، يشير الأحمد بيديه في إشارة لعدم الفهم، إذ لم تراع “حالته الصحية وأقرانه من ذوي الاحتياجات”، خاصة وأن المساعدات لا تكفي متطلبات العائلة، ما يضطر السكان للبحث عن عمل.
الطريق إلى الدانا، حيث كان يعمل مالك الأحمد أحياناً على طاولة في فرن خبز أو داخل أحد محلات بيع المواد الغذائية، يبعد أكثر من 15 كيلو متراً، وتغيب المواصلات العامة عن المكان، إذ ينتظر الشخص، بعد قطعه خمس كيلومترات مشياً على الأقدام للوصول إلى الطريق الرئيسي، نحو ساعتين لتمرّ واحدة من السيارات وتقلّه، إن حالفه الحظ، وهو ما يعيشه الأحمد الذي قال إن المساعدات لا تكفي سوى عشرة أيام، ما جعله يفكر بالبحث عن بيت مستأجر في إحدى المدن القريبة للحصول على فرصة عمل.
حال أبو جعفر ومالك يتطابق مع حال معظم ذوي الاحتياجات الخاصة، وتختلف مشكلاتهم بحسب الإعاقة ونوعها، لكنهم جميعاً يشتركون في “غياب الاهتمام ومراعاة التفاصيل أو متابعة شؤونهم الطبية”، بحسب أحمد عرابي، من مؤسسة جيل القرآن.
يقول عرابي “لم تكن مراكز الإيواء التي زرناها مجهزة بما يتناسب مع ذوي الاحتياجات الخاصة، من حيث البناء أو المساعدات”. وأضاف “نقل المتضررين إلى الساحات الفارغة أو الأراضي الزراعية زاد من الأعباء على ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ نقل قسم منهم إلى منازل تتبع لمديريات التنمية، لكن القسم الأكبر لم يحالفه الحظ بالانتقال”.
وبحسب ملاحظات عرابي، فإن ذوي الاحتياجات الخاصة آثروا البقاء في خيمة بالقرب من منازلهم تؤمن لهم استخدام “المنافع العامة من حمامات ومطابخ”، قسم آخر منهم لم يغادر منزله مطلقاً رغم الخطر.
استجابة قدر الإمكان
يقول عمار النجار، مدير مديرية شؤون متضرري الزلزال، إن وزارة التنمية أنشأت مراكز إيواء وأشرفت على المراكز التي أنشأتها منظمات إنسانية، وتأكدت من وجود معايير واضحة للاستجابة، منحت فيها الأولوية لذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام والأرامل.
وأضاف النجار، أن الوزارة سارعت إلى نقل ذوي الاحتياجات الخاصة إلى دور رعاية معتمدة، بسبب ظروفهم الصحية وعدم قدرتهم على التكيف في ظل الازدحام الحاصل، وحاجتهم لمرافق صحية وأغذية وأدوية خاصة، أو إلى منازل دعمتها بالأثاث والمواد الأولية التي تساعدهم على التماسك والصمود، على حد قوله.
ذوو الاحتياجات الخاصة الذين تحدثنا معهم لم يذكروا وجود مثل هذه الخدمات، وأكدوا أنهم، كغيرهم، تسلموا شققاً سكنية ضمن الوحدات التي وزعت دون مراعاة لظروفهم، إذ لا يوجد فرق بين هذه المباني التي تفتقر للخدمات التي تسهل حياتهم.
لم يقتصر عدم المراعاة على شقق وزارة التنمية، لكن تعداها إلى مشاريع المنظمات، يقول عبد الله خطيب من فريق ملهم التطوعي إن “موضوع ذوي الاحتياجات الخاصة لا يراعى بشكل كبير، ويقتصر في مشاريع ملهم التطوعي مثلاً، على تفاصيل في سعة الأبواب وإيجاد ممر آخر غير الدرج للوصول إلى الشقة، ووجود حمام إفرنجي في بعض الشقق، ومنحهم الطوابق الأرضية من المباني”.
يعيش نحو 150 ألفاً من ذوي “الإعاقات الشديدة” في شمال غربي سوريا، ويصل هذا العدد لنحو 750 ألفاً من ذوي الإعاقة بالمفهوم الواسع، ما يشكل نحو 20% من عدد السكان، دون وجود توجهات حكومية أو منظمات تعمل على مساعدتهم وتيسير أمورهم والاهتمام بتفاصيلهم، سواء على صعيد السكن والصحة أو التعليم و إيجاد فرص عمل مناسبة.