تجاهلت مديريات التربية المتعاقبة في إدلب، أهمية مادتي الرسم والموسيقى في خطتها التدريسية، وإن كانت في فترة حكومة النظام موجودة ضمن البرامج التدريسية وتشكو من سوء في التنفيذ، فإنها ومنذ إنشاء مديريات التربية التابعة لحكومتي الإنقاذ والمؤقتة منذ عام 2015، قد أهملت بشكل نهائي، أو لم تعد موجودة ضمن الحصص الدرسية.
وتسبب إلغاء أو إهمال مادتي الرسم والموسيقى من مناهج التعليم في وزارة التربية بإدلب، بتحويل نسبة كبيرة من معلمي الاختصاصين إلى عاطلين عن العمل، باستثناء قلة منهم التحقوا بشواغر أخرى ضمن مدارس التربية.
وهذا ما حدث مع مدرس الموسيقى، سابقاً، منير العبدو، الحاصل على شهادة معهد موسيقى منذ عام 2009، إذ حصل مؤخراً على وظيفة أمين مكتبة، بعد انقطاعه عن التدريس أربع سنوات، أمضاها عاملاً في مجال البناء والمياومة.
فكَّرَ منير مراراً بتمزيق شهادته، كما يروي لنا، فبعد أن كان يعتبر تدريس مادة الموسيقى لا يقل أهمية عن تدريس باقي المواد العلمية، وهو سبب اختياره دراسة الموسيقى، أصيب بخيبة بددت كل أحلامه، مع قرار مديرية التربية إلغاء المادة من ضمن منهاجها التدريسي، وتهميش مدرسيها بشكل كامل، حسب تعبيره.
يقول منير لـ”فوكس حلب”: “ما بقي شاغر سواء تابع لمديرية التربية أو لمنظمة أو جمعية ألا وقدمت عليه ولكن دون جدوى”.
انعدام حظوظ المعلمين من أصحاب الشهادتين في مدارس التربية بإدلب دفع الكثير منهم للتدريس في المعاهد أو الروضات الخاصة، ضمن فترة مواسم التعليم الصيفية لمرحلة التعليم الابتدائية، وهذا ما فعلته هبة العثمان، والتي التحقت عن طريق مديرية التربية لتدريس مادة الرياضة ضمن عقد مدعوم من قبل إحدى الجمعيات لمدة ثلاثة أشهر فقط.
تقول العثمان: “رغم أنني أكملت الفصل الدراسي بعد توقف الدعم إلا أن مديرية التربية لم تجدد عقدي، وهو ما دفعني للتدريس ضمن روضة خاصة مقابل أجر شهري قدره مئة دولار”.
الرسم والموسيقى .. من مواد تعليمية إلى أنشطة ترفيهية
بررت وزارة التربية إهمال مادتي الرسم والموسيقى أو إلغائهما في المدارس، انطلاقاً من ضرورة العمل على رأب الفجوة التي تشكلت لدى النسبة الأكبر من الطلاب والطالبات نتيجة الانقطاع المتكرر عن الدراسة في المواد الأساسية “إنكليزي، عربي، رياضيات” من جهة، ولضمان مخرجات تعليمية أفضل من جهة أخرى، وذلك بحسب المكلف بتسيير أعمال وزارة التربية والتعليم زياد العمر.
يقول العمر لـ”فوكس حلب”: صحيح أن مادتي الرسم والموسيقى غائبتان عن منهاج التعليم، لكنهما حاضرتان كأنشطة من خلال جلسات الدعم النفسي، إضافة للدروس التفاعلية في مختلف المواد، إذ ترى مديريات التربية أن نسبة هذه الأنشطة مناسبة من حيث تقسيم الوقت للمواد التعليمية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفجوة التعليمية الكبيرة لدى معظم الطلاب وهذا أمر معروف لدى مديريات التربية والمنظمات والأهالي والطلاب أنفسهم”.
وأضاف العمر: “في الوقت الحالي لا يوجد مبادرات لدى المنظمات لدعم مثل هذه الأنشطة، ومديرية التربية لا تمانع أبداً وجود مثل هذه الأنشطة ولكنها غير قادرة على تحمل تكاليف تأمين الأدوات اللازمة والمساحات داخل المدارس”.
وأوضح بأن “مديريات التربية قامت بإحصاء المعلمين من حملة هذه الشهادات واستبدالهم بآخرين مختصين، وتوجيه المعلمين من حملة تلك الشهادات إلى الشواغر المتاحة من الدعم النفسي وأمين المكتبة والمرشد النفسي والإداريين”.
لكن، لماذا على معلمين ومعلمات أن يدفعوا ثمن اختيارهم دراسة الرسم أو الموسيقى، المادتان اللتان تعتبران في سوريا وفي العالم أساسيتان في المناهج التعليمية، فقط لأنه هناك مديرية تربية تتعامل مع هاتين المادتين على أنهما مجرد أنشطة ترفيهية؟ وتوجه معلميها إلى وظائف ليست من اختصاصهم مثل أمناء مكتبات أو مرشدين نفسيين؟ لكن في الواقع، هناك الكثير من معلمين ومعلمات الرسم والموسيقى لم تتح لهم الحصول حتى على هذا الشواغر ضمن مدارس مديرية التربية.
وهذا حال أحمد ياسين، معلم رسم سابق لدى مدارس التربية التابعة للنظام السوري، اختار العمل في التمديدات الصحية الكهربائية، كما يروي لنا، بعد أن أصابه اليأس من توظيفه بشهادته في إحدى مدارس التربية في إدلب.
يقول الياسين: “تركت عملي، كمعلم في مدارس النظام، منذ ست سنوات، بسبب قرار فصلي منها، بموجب تقرير رفع بحقي أنا وعدد من زملائي، وبعدها طُلب مني مراجعة أحد فروع الأمن في مدينة حماة لتصحيح وضعي وإعادتي مجدداً إلى مهنة التدريس، إلا أنني رفضت الذهاب، خشية من التعرض للاعتقال”.
وأضاف: “لهذه الأسباب، قررت نقل أوراقي الثبوتية وشهادتي التعليمية، إلى مديرية التربية بإدلب، وخضعت بعدها لمسابقة تعيين ونجحت فيها .. لكن لم أعيِّن إلى الآن”.
لا تختلف قصة آية صفا، خريجة معهد الفنون الجميلة في مدينة إدلب عام 2006، عن قصة أحمد ياسين كثيراً، إذ مضت عليها ست سنوات لم تمارس فيها مهنة التدريس، بسبب إهمال شهادتها من قبل مديرية التربية في إدلب، كما تروي لنا، فبعد تخرجها من معهد الفنون الجميلة، حصلت على شهادة استطاعت بموجبها التدريس ضمن المدارس التابعة للنظام حتى عام 2017.
تقول آية: “في عام 2018، توقفت عن ممارسة نشاطي التعليمي بسبب قرار من النظام، يقضي بتحويل مستحقات المعلمين الموجودين خارج سيطرته إلى مدينة حماة واشتراطه حضورهم بشكل شخصي، وهو ما دفعني للتوقف عن التدريس خوفاً من المرور من على حواجز النظام”.
وكان مدرسون في إدلب، وحتى اليوم، ما يزالون على ملاك مديريات التربية في مناطق النظام، ويتقاضون رواتبهم منه، ويمارسون عملهم التعليمي داخل مدارس المنطقة الخاضعة لمديريات التربية الحرة، لكن هذه الأعداد تراجعت لعدة أسباب، أهمها صعوبة الوصول إلى مناطق النظام لاستلام استحقاقاتهم، بسبب وجود الحواجز ومخاطر الطرق والتكاليف العالية، إضافة لاعتقال أشخاص منهم على هذه الحواجز، قبل عام 2018، واستحالة الوصول بعد عام 2018 نتيجة إغلاق المعابر بين المنطقتين، إلا عبر طرق التهريب والتي تتطلب دفع مبالغ كبيرة تزيد عن راتب موظف لسنتين، خاصة وأن راتب المدرس لا يتعدى، وفق سعر الصرف الحالي، نحو 25 دولاراً. ويضاف إلى ذلك كلّه الالتحاق بملاك مديريات التربية الحرّة عند كثر من المدرسين الذين علقوا عملهم منذ بداية الثورة لأسباب تتعلق برفضهم التعامل مع أي مؤسسة سواء كانت مدنية أو عسكرية تتبع للنظام السوري.
تقول آية “بعد تركي لمهنة التدريس في مدارس النظام وضعتُ نفسي تحت تصرف أحد المجمعات التربوية التابعة لتربية إدلب الحرة، أملاً في الحصول على شاغر وظيفي، وها قد مضت خمس سنوات وما زلت انتظر استدعائي لشغل منصب تدريسي بإحدى المدارس التابعة لمديرية التربية”.
خلال السنوات الماضية لم تكف آية عن مراجعة مديرية التربية، أملاً بتعيينها كمدرسة لمادة الرسم، لكنها توقفت عن المحاولة بعد غياب مادة الموسيقى وإهمال مادة الرسم رغم وجودها ضمن الخطة التدريسية وعدم تنفيذها، حسب تعبيرها.
معلمون في انتظار شاغر وظيفي
عدد قليل من معلمي الشهادتين وظفوا ضمن شواغر متاحة لدى مدارس التربية في إدلب، وقسم قليل منهم اتجه إلى التعليم الخاص، لكن ما تزال الشريحة الأكبر من أصحاب الشهادتين عاطلة عن العمل، وهو ما خلف لديهم عدة تساؤلات عن مصيرهم ضمن مدارس التربية بعد التخلي عن موادهم التعليمية من ضمن المنهاج الذي وضعته وزارة التربية.
تلك التساؤلات أجابت عنها الوزارة على لسان المكلف بتسيير أعمالها زياد العمر، إذ قال: “بمجرد رأب الفجوة التعليمية في المواد الرئيسية وتأمين التكاليف والمساحات اللازمة لمثل هذه الانشطة التي تندرج ضمن هذه الاختصاصات، ستقوم مديريات التربية باعتماد المادتين، إضافة لدراسة مقترح يسمح لهم بتعديل شهاداتهم وإكمال دراستهم ضمن أفرع تربوية أخرى معاهد – جامعات، وضمن اختصاصات تربوية”.
لم نتمكن من العثور على إحصائية لأعداد المعلمين من حملة شهادتي الموسيقى والرسم، لكن من خلال اختبار تأهيلي أجرته مديرية التربية في مجمعاتها التربوية لكافة الاختصاصات، من ضمنها اختصاصي الرسم والموسيقى، فقد بلغ عدد الناجحين في تلك المسابقة مائتي مدرس، لكن معظم من التقيناهم، ممن تجاوزوا ذلك الاختبار، أكدوا لنا أنه لم يتم استدعاؤهم لشغل منصب تعليمي حتى اليوم، باستثناء قلة قليلة تم اختيارهم لتغطية شواغر محدودة كالرياضة او أمين مكتبة أو إدارة.
طلاب كليات الفنون يواجهون المصير نفسه
لم تقتصر عملية التهميش على معلمي مادتي الرسم والموسيقى، وإلغاء المادتين من المدارس، بل شملت أيضاً المفاضلة الجامعية لفرعي الرسم والموسيقى في جامعة إدلب، ما دفع طلاب الفرعين ممن تركوا دراستهم في معاهد وجامعات النظام وانتقلوا لإكمالها ضمن جامعة إدلب للمفاضلة على فروع أخرى، بحسب ما يؤهلهم مجموع شهادتهم الثانوية.
مدين السويد، طالب كلية فنون سنة ثانية، ترك جامعته قبل خمسة أعوام في جامعة حلب وقرر إكمال دراسته في جامعة إدلب، ليفاجأ بعدم وجود الفرع، الذي كان يدرسه، في جامعة إدلب، وهو ما دفعه للمفاضلة على فرع آخر ضمن الجامعة، وبموجب مجموع شهادة الثانوية حصل على معهد إدارة أعمال، بالرغم من رغبته في إتمام فرعه السابق.
يقول السويد: “وجدت نفسي أمام خيارين؛ إما التوقف عن التعليم أو تغيير فرعي الجامعي والعودة إلى السنة الأولى لدراسة معهد إدارة أعمال من جديد”.
لا حاجة للموسيقى في “المحرر”
بيَّنَ الدكتور أحمد أبو حجر، رئيس جامعة إدلب، موقف الجامعة من الاختصاصين بقوله: “كلِّيتا الفنون الجميلة والموسيقى ليستا أولوية في جامعة إدلب، فنحن نسعى لافتتاح اختصاصات تطور حياة أهلنا، وتفيد الحياة العلمية التي يحتاجها الطلبة، وجزء من الفنون الجميلة يتم تغطيته من خلال قسم الهندسة المعمارية، أما الموسيقى فلا نرى حاجة لها في المحرر”.
وفيما يخص الطلاب الذين قدموا مفاضلتهم على الفرعين سابقاً، ضمن جامعات النظام وقرروا نقل دراستهم الجامعية إلى جامعة إدلب، أوضح أبو حجر بأن “الطلاب الذين كانوا يدرسون الموسيقى أو الفنون الجميلة تم تحويلهم لاختصاصات قريبة من اختصاصهم أو حسب معدلاتهم في الشهادة الثانوية ويتابعون تعليمهم بالجامعة، بعد تعديل المقررات أصولاً”.
أما عمر الحسين، موجه تربوي سابق وخبير بالمنهاج التعليمي، فاعتبر أن مادتي الموسيقى والرسم، مكملتان للمواد العلمية وميسرة لها، من خلال فسحة الترفيه التي توفرها للطلاب مع المواد والدروس العلمية، إذ تساعد على استيعاب أكثر لها، ولا توقع الطالب بحالة الملل من استمرار الدروس العلمية، حسب تعبيره.
وبحسب الحسين: “لم تقتصر انعكاسات إلغاء المادتين على الطلاب فقط، إذ أن الضرر الأكبر يقع على المعلمين الذين تعرضوا لظلم كبير، بعد إلغاء العمل بشهاداتهم أو حصرها ضمن مجالات ضيقة غير قادرة على استيعاب العدد الكبير منهم”.
لا ندري كم من المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات، كانت لديهم أحلام كبيرة بدراسة الرسم أو الموسيقى، لكنها تلاشت اليوم بسبب اعتبارات من قبل وزارة التربية بإدلب بتصنيفهما ضمن المواد غير الأساسية في المنهاج التعليمي، بل مجرد أنشطة ترفيهية.