وجود مسجد مفتوح الأبواب في ساعات الصباح كان يشغل بال “أبو علي”، من ريف إدلب، كانت عيناه تنتقلان في كل اتجاه للبحث عن مكان يستطيع من خلاله العثور على متبرع بالدم من زمرة (o سلبي) لطفله المصاب بالثلاسيميا، نصحه والد أحد المصابين، المنتظرين على الدور في بنك الدم، بالاتجاه إلى المسجد والإذاعة عن حاجته علّه يستطيع تأمينه.
الزمرة النادرة غير متوفرة في بنك الدم الذي راجعه في مدينة إدلب، ولون طفله، ستة أعوام، والذي عرف الرجل قبل أيام بإصابته ليأخذ صفة مريض بسجل دائم، كان يميل إلى الزرقة بوجه شاحب، وأن طفله يحتاج لنقل دم كل ثلاثة أسابيع، إضافة للأدوية في مرحلة لاحقة، الأدوية المفقودة هي الأخرى، بحسب ما أخبره رجل آخر من المنتظرين في المركز.
مئات من المصابين بمرض الثلاسيميا في شمال غربي سوريا، يخوضون رحلة البحث عن متبرع أحياناً، للزمر النادرة أو عند عدم توفره في بنوك الدم، إضافة لرحلات مكوكية بين مراكز الثلاسيميا والصيدليات والمنظمات المعنية لتأمين الدواء غير المتوفر ، منذ أشهر.
ولا توجد إحصائيات دقيقة بعدد المصابين بالثلاسيما اليوم، لكن تحقيقاً لفوكس حلب في عام 2018، أحصى وجود نحو 1135 مريضاً، وسط قلّة الدعم التي ما تزال ظاهرة حتى اللحظة.
بعد خمس سنوات، وفي أربعة مراكز للثلاسيميا (مدينة إدلب، كللي، الأتارب، إعزاز)، أحصى فريق التحقيق وجود (752) مريضاً. يضاف إليها مرضى لم نتمكن من إحصائهم في مراكز (جنديرس، جرابلس، دركوش، مركز آخر في مدينة إدلب)، والمرضى الذين ينقلون الدم ضمن مشاف أخرى.
ويقدّر حسن قدور، طبيب عيادة الثلاسيميا في مشفى إدلب المركزي عدد المصابين بنحو ألف مريض، بينما يقدّر ضياء مصطفى، مدير مركز كللي للثلاسيميا الأعداد بأكثر من ألف وخمسمائة مريض.
في مناطق النظام، قدّر معاون وزير الصحة عدد الولادات الجديدة لمرضى الثلاسيميا بنحو 200 ولادة، وعدد المرضى قيد العلاج بـ 5830 مريضاً في عام 2022. وتقدّر نسبة المصابين بالثلاسيميا عالمياً بنحو 4.4 من كل 10000 مولود، 1.7٪ من سكان العالم تظهر عليهم أعراض المرض، بينما 5% يصنفون كحاملين له.
الثلاسيميا مرض دائم
تعرف الثلاسيميا بأنها اضطراب وراثي مرتبط بالدم ينجم عن غياب أو انخفاض الهيموجلوبين (بروتين في كريات الدم مسؤول عن حمل الأكسجين إلى الأنسجة)، وينتقل عند اجتماع المورثات من حاملي هذه الصفة الوراثية، ما ينتج عنه إصابة الطفل بالمرض الذي يتميز بعدم قدرة الجسم عند المصابين على إنتاج خلايا الدم الحمراء، و يضطرهم لنقل مشتقات الدم بشكل دائم ودوري، أو زراعة نقي العظم.
وتنقسم الثلاسيميا إلى ثلاثة أقسام (كبرى ووسطى وصغرى)، ويشرح المدير الإداري لمركز الثلاسيميا في مدينة إعزاز، لؤي العيدو، لفوكس حلب، أن الثلاسيميا الكبرى تتميز بفقر دم شديد، وتكتشف عادة في مراحل عمرية مبكرة (بعد عمر 6 أشهر)، وتحتاج إلى نقل دم بشكل دائم ومتكرر شهرياً، ومرضى الثلاسيميا الكبرى معرضون للإصابة باختلاطات الدم المتكرر بتراكم الحديد في الكبد والطحال ثم القلب ما يزيد من خطر الوفاة، كذلك من الممكن إصابتهم بضخامة الطحال ما يؤدي إلى استئصاله في وقت لاحق، وهو ما يفرض عليهم استخدام خالبات حديد فموية ووريدية للحفاظ على مستويات الحديد الطبيعية في الجسم.
وتكون أعراض المرضى المصابين بالثلاسيميا الوسطى أقل حدة ولا يحتاجون لنقل دم متكرر، بين الحين والآخر، إذ تتراوح نسبة الخضاب لديهم بين 8 إلى 10غ/دل، وعادة ما يشخص المصابين بهذا النوع في مراحل عمرية متقدمة، أما الصغرى فلا يشتكي مصابوها من أي أعراض ولا يحتاجون لنقل الدم، ويطلق عليهم (حاملو المرض)، وتتراوح خضابهم بين 10 إلى 12 غ/دل.
مراكز الثلاسيميا.. آلية العمل وصعوبات جمّة
يموت 80% من مرضى الثلاسيميا في العقد الأول من العمر، إن لم يتلقون العلاج المناسب، ويبلغ متوسط أعمار المرضى في سوريا بين 25 إلى 30 سنة، بحسب وزير الصحة في مناطق النظام عام 2013. لكن هذه الإحصائيات تبقى تقديرية لا أكثر، بحسب دراسات طبية، إذ يلعب العلاج، نوعه ودقته والاستمرار به، إضافة للزيارات الدورية للطبيب ومتابعة المضاعفات، دوراً كبيراً في متوسط معدلات المرضى.
ويحصل مرضى الثلاسيميا في شمالي غربي سوريا على العلاج في مراكز موزعة على المناطق، مدعومة من منظمات طبية (ida-uossm -وقف الإغاثة الإسلامية -وطن) وبالتعاون مع مديريات الصحة والمجالس المحلية.
تأسست مراكز الثلاسيميا في شمالي غربي سوريا، بدء من عام 2014، مع تفاقم مشكلة المرضى، وضعف الخدمات المقدمة لهم في المستشفيات، غير المختصة بالثلاسيميا، وقلة خبرة الكوادر فيها، بجهود شخصية قبل أن تدعمها منظمات تعنى بالشأن الصحي في المنطقة.
يقول ضياء مصطفى، مدير مركز كللي للثلاسيميا، إن بداية التأسيس كانت في بنك الدم في كفرنبل عام 2014، بتوثيق أسماء مرضى الثلاسيميا المراجعين للبنك، بلغ عددهم في ذلك الوقت نحو 150 مريضاً ومريضة، ونظراً للعدد الكبير افتتح داخل بنك الدم مركزاً لمراقبة الثلاسيميا، (قبل نقله إلى كللي بريف إدلب الشمالي لاحقاً بعد سقوط مدينة كفرنبل).
يلخص المصطفى، أهم الصعوبات التي يواجهها مرضى الثلاسيميا المراجعين لمركز كللي وعددهم 250 مريضاً بعدم توفر الأدوية، إذ يصل إلى المركز كميات قليلة لا تلبِّي احتياجاتهم، ولاتتوفر هذه الأدوية في الصيدليات، وإن وجدت فبأسعار مرتفعة لا يمكن للمرضى تحمل نفقاتها، إضافة لصعوبات التنقل، إذ يحتاج قسم منهم لنقل الدم مرتين شهرياً، بينما ينقل الدم مرة واحدة شهرياً للمصابين كافة.
مأمون الشون، مدير بنك الدم في الأتارب، قال إن نحو 80 مريضاً يراجعون مركز الثلاسيميا في المدينة، تأسس في عام 2015، وإنه لا توجد أرقام ثابتة لعدد المرضى بسبب عدم توفر الخدمة بشكل دائم ومستمر من عدم توفر مشتقات الدم والأدوية اللازمة.
أكبر مراكز الثلاسيميا في مدينة إدلب، ويستقبل نحو 300 مريض شهرياً، بحسب الدكتور حسن قدور، طبيب عيادة الثلاسيميا في مشفى إدلب المركزي، تأسس في بنك الدم في سراقب عام 2015، بجهود شخصية، قبل أن تدعمه مديرية صحة إدلب في عام 2016، وكان آنذاك يقدم الخدمات المتوفرة إضافة للتوعية.
يقدّم المركز اليوم، وبعد نقله إلى مشفى إدلب المركزي، خدمات نقل الدم إضافة للأدوية، إن توفرّت، والمضخات لتسريب الدواء الطارح للحديد (ديسفرال).
في مناطق الحكومة المؤقتة (عفرين، ريفي حلب الشمالي والشرقي) ثلاثة مراكز في جنديرس، إعزاز، جرابلس، يقول لؤي عيدو، المدير الإداري لمركز الثلاسيميا في إعزاز، إن المركز مجهز بشكل “ممتاز وحديث” من الناحية التقنية والخدمية.
ويستقبل المركز نحو 222 مريض ثلاسيميا شهرياً تقدم لهم خدمات نقل الدم وتسريب دواء ديسفرال، بمعدل 2 إلى 4 جلسات شهرياً، إضافة إلى أدوية خالبات الحديد الفموية والأدوية الأخرى تحت إشراف الأطباء، إضافة للتحاليل المخبرية الدورية.
الخدمات في جميع المراكز مجانية، ويستقبل مركز إعزاز، المرضى، بحسب العيدو، ثلاثة أيام أسبوعياً، وينظم المرضى ضمن بطاقات تسجل عليها المعلومات اللازمة.
ويوضح الطبيب القدور أن تأمين الدم مهمة غير سهلة، وخاصة عند المرضى ذوي الزمر السلبية والنادرة، إذ يصعب على المراكز في محافظة إدلب تأمينها بالكميات الكافية لعدم وجود آلية إلزامية للتبرع بالدم والاعتماد على المتطوعين، إضافة لمعاناة الحصول على الأكياس اللازمة لفصل الدم، إذ يفصل إلى بلازما وكريات دم مكثفة والتي بدورها تنقل لمريض الثلاسيميا، حيث لا يمكن نقل دم كامل للمريض وإنما فقط كريات دم مكثفة.
تلك المهمة تبدو أكثر يسراً في مناطق الحكومة المؤقتة، إذ يفرض للحصول على الأوراق الرسمية التبرع بالدم إضافة للمتبرعين المتطوعين، يقول مصطفى النجار، مدير بنك الدم في إعزاز، إن كميات الدم كافية لمرضى الثلاسيميا ومتوفرة في بنوك الدم في المنطقة، وإن الدم يقدّم للمرضى وفق إيصالات باحتياجاتهم وهناك سجلّات للمرضى الدائمين، مقدّراً حاجة مرضى الثلاسيميا في إعزاز بنحو 50 كيس دم شهرياً
الأدوية المفقودة
تقدم المراكز، إضافة لخدمة نقل الدم، يحتاج كل مريض لنحو 1200 وحدة دم شهرياً، أدوية خالبات الحديد، ديسفرال (فيال)، فيريبروكس حب، إكسجيد حب، حسب توافرها، إذ تشكو المراكز، خاصة في مناطق حكومة الإنقاذ (إدلب وريف حلب الغربي) عدم توفر الأدوية منذ أشهر، كذلك عدم وجود الكميات الكافية من الدواء في حال توفره.
لا يحتاج طفل أبي علي للعلاج بالأدوية بعد، لكن مئات المرضى يحتاجون شهرياً للأدوية، وأهمها تلك المختصة بطرح الحديد المتراكم في الجسم نتيجة عمليات نقل الدم، والتي يستعملها المرضى بشكل دائم، مدى الحياة.
طرق أبو حسين، يقيم في مخيمات قاح بريف إدلب، كل باب مركز في المنطقة، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، للحصول على أدوية طفله، يبلغ من العمر سنة ونصف السنة، المصاب بالثلاسيميا، دون جدوى.
ويروي أبو حسين أن الدواء لم يكن متوفراً في المراكز التي كانت سابقاً تؤمن له هذه الأدوية، وهو ما اضطره للبحث عنها في المنظمات والصيدليات الخيرية العامة والخاصة، ولكن جميع محاولاته باءت بالفشل.
يستخدم الطفل دواء إكسجيد، وفقدان هذا الدواء رفع من نسبة الحديد في دم الطفل الصغير الذي بات يحتاج لجلستي نقل دم شهرياً عوضاً عن واحدة، وهو ما يفاقم أعراض المرض.
وتراجعت نسبة الخضاب في دم الطفل إلى 6غ/دل، نتيجة نقص الدواء، بعد أن كانت تصل إلى 10غ/دل سابقاً مع استخدام الدواء، بحسب والد الطفل الذي يخشى، كما أخبره الأطباء، من مضاعفات زيادة عمليات نقل الدم وعدم استخدام الدواء، مثل التشوهات ونقص النمو وتأثيرات على الكبد والقلب.
يقدّر الطبيب حسن قدور تكلفة العلاج الطبي المتكامل لمريض الثلاسيميا سنوياً بين 10 إلى 20 ألف دولار، لا يحصل المريض، في المركز الذي يعمل به، منها سوى على نقل كريات الدم الحمراء المكثفة، وبين 15 إلى 20% من الأدوية التي يحتاجها.
ويشرح الطبيب القدور أن هناك ثلاثة أنواع من الأدوية الطارحة للحديد، والتي لا توجد حلول بديلة عن استخدامها، نوعان منها على شكل أقراص أما الثالث فيكون على شكل حقن يتسرب عبر مضخات يستخدمها المريض بين 8 إلى 10 ساعات يومياً، وتبقى معلقة على جسد المريض ولا تعيقه عن القيام بجميع الأنشطة اليومية.
ويوضح الطبيب أن نقصاً كبيراً في الأدوية والمضخات تشهده المنطقة، إضافة لنقص في أجهزة المراقبة، إذ أن قسماً من الأجهزة والمواد المخبرية والشعاعية والمتعلقة بكميات الحديد المترسب في الجسم وإدارة الجرعات والحاجة للأدوية الطارحة للحديد غير متوفرة.
“إن لم تتوفر الأدوية ما الحاجة لهذه الاستقصاءات”، يستدرك الطبيب القدور، ويعتبر عدم توفر هذه الأدوية بشكل كاف سبباً من أسباب الموت البطيء، ويضيف أن هذه الأدوية تأتي عن طريق مديريات الصحة والمنظمات التي تتواصل مع منظمة الصحة العالمية والجمعية العلمية لمرضى الثلاسيميا، وأن هناك وعود منذ أكثر من ثلاث سنوات بدعم المراكز والمرضى دون أن يتحقق منها سوى جزء يسير، إذ لم “يتبنى مرضى الثلاسيميا حتى الآن”، خاصة وأن الأدوية غير متوفرة في القطاع الخاص، وإن توفرت فبأسعار باهظة لا يمكن تأمينها.
حال مركز مدينة إدلب للثلاسيميا يتطابق مع المراكز الأخرى في المحافظة، يقول مأمون الشون، مدير بنك الدم في الأتارب “لا تتوفر خالبات الحديد الضرورية بشكل دائم ولا تتبنى أي منظمة توفيره للمرضى بشكل دائم ومجاني”، مؤكداً أن لا بديل للاستغناء عن هذه الأدوية وأن عدم استعمالها المنتظم سيؤدي إلى ترسب كميات كبيرة من الحديد يترك آثاره على أداء أعضاء الجسم مثل (القلب، الكلى، الدماغ، الكبد..)، ويفاقم المشكلات المرضية لدى المصابين.
تتوفر الأدوية بشكل أكبر في مركز إعزاز، ضمن مناطق الحكومة المؤقتة، يقول المدير الإداري في المركز إنهم يقدمون الديسفرال الوريدي لنحو 100 مريض شهرياً، إضافة لأقراص فيريبروكس لنحو 80 مريضاً، وإكسجيد لنحو 50 مريضاً، إضافة للأدوية الأخرى التي يحتاجها المرضى تحت إشراف الطبيب المختص.
في رحلة بحث عن أقراص فيربيبروكس وإكسجيد، قام بها فريق التحقيق في عشر صيدليات كبيرة متفرقة (في إدلب وريف حلب)، باءت محاولاتهم بالحصول على الدواء وبأي ثمن بالفشل.
يقول الصيدلي عبدو رجب، يملك صيدلية في الأتارب، إن هذه الأدوية “مجانية ولا يمكن وجودها في الصيدليات، إذ تقدّم من قبل المراكز وعيادات الثلاسيميا، ولا وجود لها في مستودعات الأدوية، فهي أدوية تدعمها منظمات طبية وصحية عالمية شأنها شأن اللقاحات لارتفاع ثمنها”.
ويقول الصيدلي خالد، يملك صيدلية في سرمدا، إنه ؛لا يمكن استيراد هذه الأدوية كباقي الأنواع الأخرى، ولم نستطيع تأمينها من تركيا عبر المستودعات أيضاً”، مؤكداً أن الحلّ الوحيد للمرضى هو “الحصول عليها عبر المراكز التي تستطيع تأمينها من قبل منظمة الصحة العالمية أو منظمات صحية أخرى”.
تقول السيدة عائشة، والدة محمد طفل مصاب بالثلاسيميا 10 سنوات بريف إدلب، إنها لم تستطع تأمين الدواء لطفلها منذ أكثر من شهرين، وأن الحلّ البديل كان بنقل الدم كل أسبوعين، وهو ما تراه أمراً شاقاً، بالنسبة لطفلها، إذ بات يشكو من آلام متفرقة في جسده، إضافة لوهن عام وبكاء متواصل وانزواء عن عائلته.
أما بالنسبة لها فمشقة تأمين الدم عبر البحث عن متبرعين أصبح كل 15 يوماً عوضاً عن كل شهر، هذا إن استثنيا تكلفة النقل وصعوبة الوصول إلى المراكز من بيتها في جبل الزاوية، يبعد نحو 20 كيلو متراً عن أقرب مركز، وتدفع مقابل وصولها نحو 150 ليرة تركية (أجرة زوجها كعامل مياومة لثلاثة أيام).
توضح دراسة بعنوان البناء النفسي لمرضى الثلاسيميا، نشرت في عام 2015، إن عمليات نقل الدم المتكررة (وهو ما تحدث عنه المرضى الذين قابلناهم بزيادة عدد مرات نقل الدم إلى مرتين شهرياً بعد فقدان الأدوية)، يؤدي إلى تلف الأنسجة واضطراب عمل الأعضاء مثل الكبد والقلب والكلى.
وإن تراكم الحديد (نتيجة عدم استخدام الأدوية الطارحة) قد يسبب تليفاً في الكبد أو تشمعه، إضافة لاضطرابات النظم وضخامة القلب والتهاب التامور وقصور القلب الاحتقاني، كما يمكن أن يتسبب في تغيرات عظام الطفل وكبر في حجم الرأس وتمدد عظام الجبهة والجدار الخارجي للجمجمة وانحراف الأسنان وتماثل هذه التغيرات ملامح وجه الطفل المنغولي بعيون مائلة وانبعاج في الجزء الأنفي السفلي، إضافة لصغر حجم قوام الشخص وبروز البطن نتيجة تضخم الطحال والكبد، كذلك قد تضطر الأطباء لاستئصال الطحال بسبب سرعة الانخفاض في مستوى الهيموجلوبين.
المشكلات النفسية ليست أقل خطورة
يتسبب نقص الدواء وعدم العلاج المنتظم، كما أوضحت الدراسة السابقة، بمشكلات جسدية صحية إضافة لمشكلات جسدية تغيّر ملامح المصابين بالثلاسيميا ما يترك أثره على حالتهم النفسية.
تقول أم لطفلة مصابة بالثلاسيميا في مدينة الأتارب إن تغيرات شكلية ظهرت على جسد طفلتها التي باتت تتجنب الخروج من المنزل أو الذهاب إلى المدرسة، خاصة وهي تشاهد نظرات أقرانها التي وصفتها بـ “المتنمرة”.
يقول المدير الإداري في مركز إعزاز، إن تلوناً في الجلد باللون البرونزي المائل للسواد، يحدث نتيجة تراكم الحديد في جسم مرضى الثلاسيميا، وقد يحدث أحياناً تمدداً عرضياً في عظام الوجه بسبب تكبير مصانع الحديد الموجودة في العظام نظراً لحاجة الجسم لتوليد كميات كبيرة من الدم، ما يعطي سحنة خاصة لمرضى الثلاسيميا.
التغيرات في العمود الفقري وشكل الوجه ولون البشرة أكثر ما يتعرض له مرضى الثلاسيميا غير المواظبين على العلاج بشكل دقيق ومتكامل، خاصة المرضى الذين لا يعالجون بخالبات الحديد، ما يترك آثاره النفسية والنقدية على نظرتهم النقدية لأنفسهم، بحسب الدراسة السابقة.
وأظهرت الدراسة أن أعراض القلق بشكل حاد، وقلة التكيف الأسري، والنظرة السلبية للحياة وعدم الكفاءة الشخصية، إضافة لمشاعر السلبية والذنب والاغتراب والعدائية أبرز ما ظهر في العينة المدروسة من المصابين بالثلاسيميا.
وأوضحت الدراسة ” أن 44% من المصابين بالثلاسيميا لديهم مشكلات نفسية، و74% لديهم درجة منخفضة في نوعية الحياة، و67% يعانون من قلق الموت و20% من اكتئاب ومشاكل عاطفية و49% من مشكلات في السلوك والتصرف”، كما أكدت الدراسة أن النقل المتكرر للدم يؤثر سلباً على الصحة النفسية المرتبطة بنوعية الحياة والحياة المدرسية.
نحو مجتمع خال من الثلاسيميا
لا يوجد علاج ناجع للتخلص من مرض الثلاسيميا في الشمال السوري، إذ يقتصر العلاج على نقل الدم و الأدوية الطارحة للحديد، إن توفّرت، وهي آلية لا يمكن شفاء المرضى بها. العلاج الشافي الوحيد، يكون عبر زراعة نقي العظم، وهو إجراء غير متوفر في المنطقة وله شروط خاصة ونسبة النجاح فيه غير مشجعة، بحسب الطبيب القدور.
ويحتاج المرضى الذين يخضعون لعملية زراعة نقي العظم إلى أدوية مثبطة للمناعة ومراقبة طبية طيلة الحياة، وتبلغ تكلفة هذه الزراعة نحو 110 آلاف دولار، في الوقت الذي يعيش فيه نحو 90% من سكان الشمال السوري تحت خط الفقر، ولا تستقبل تركيا في مشافيها حالات الثلاسيميا، سواء للعلاج أو الزراعة.
أمام هذه التحديات وصعوبة تخيل حياة مرضى الثلاسيميا تبرز الوقاية كحل أكيد للتخلص من مرضى الثلاسيميا نهائياً، في حال توفر المعدات اللازمة لذلك.
فضمن تعريف مرض الثلاسيميا أنه “مرض وراثي”، لا ينتقل إلا عن طريق أبوين مصابين أو حاملين للصفات الوراثية لهذا المرض، ويمكن تجنبه بإجراء تحليل للثلاسيميا (تحليل دم هيموجلوبين الكتروفوريسييز)، وفرض هذا التحليل كشرط لإتمام الزواج.
توضح دراسة وراثية أن زواج (مصاب بالثلاسيميا من حامل للمرض) تقتضي إنجاب أطفال مصابين وحاملين بنسبة متساوية، أما زواج (حامل -حامل)، فيقضي احتمالاً بنسبة 25% لإنجاب طفل مصاب و50% لحاملين للجين الوراثي للثلاسيميا.
هذه التحاليل كانت شرطاً لإتمام الزواج في المحاكم الشرعية السورية سابقاً، لكن التحليل غير معمول به حالياً علماً أنه يتوفر جهاز في مدينة سلقين بريف إدلب لإجراء هذا النوع من التحليل، بحسب الطبيب حسن قدور، الذي اعتبر فرض هذا القانون خطوة أساسية للتخلص من مرض الثلاسيميا مستقبلاً، أسوة بدول عديدة مثل قبرص واليونان وإيطاليا.
موت بطيء ما يعيشه مرضى الثلاسيميا نتيجة فقدان الأدوية والمعدات اللازمة، ورحلة شقاء وتكاليف باهظة لعائلاتهم وسط تجاهل من قبل منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية لدعم أكثر من ألف مريض في المنطقة، يتشاركون فيما بينهم نصائح لتناول بعض الأطعمة والوجبات الغذائية التي تخفف من الحديد الذي بات جزء من أجسادهم.