تمرّ الأيام القليلة التي تفصلنا عن عيد الفطر ثقيلة على عائلات في الشمال السوري. احتياجات كبيرة وإلحاح أطفال على الفرح يرافق ذلك عجز تحكمه الأسعار المرتفعة وشلل سوق العمل وارتفاع البطالة ونقص المساعدات واليأس، إضافة للموت والحزن والنزوح الذي يرافق حياتهم وكان آخرها ما خلفه الزلزال من تداعيات.
كعك العيد، حين تغيب رائحته في الأسبوع الأخير من رمضان، يعني أن شيئاً كبيراً قد تغير، فلا “عيد دون كعكه” في حياة السوريين. مقياس يمكن من خلاله تقدير أحوال السكان، إذ لم يكن يخلو بيت سوري من كعك العيد، فقيرهم وغنيهم، بفارق في الأنواع والكميات والأصناف.
تقول أم محمد، جدّة لأكثر من عشرين طفلاً في جبل الزاوية، إن كعك العيد كان “ضيافة الفقراء”، وإنها كانت تصنعه سابقاً بكميات كبيرة لـ “تستر وجهها” أمام من يزور عائلتها في العيد، إضافة لما تحمل صناعته من طقوس، “لمة الجيران للمساعدة، نقش القوالب المختلفة والذي يستعار من منزل إلى منزل، خشب وبعدها بلاستيك، سمك العجين، لونه، معلمية شي الفرن على الغاز، الحشوة من عجوة أو جوز أو فستق حلبي
والتي كانت تفرّق بين عائلة فقيرة ومتوسطة، الناطف، السكّر الناعم، ترتيب الكعك في كراتين كبيرة لاستخدامها في العيد وفي إفطارات كثيرة تليه مع كأس الشاي، أو في سهرات طويلة ليكون ضيافة شبه دائمة، قلائد على الحيطان لشتاء قادم، فرحة الأطفال وهم يحاولون المساعدة، والأهم من ذلك رائحة الشمرا واليانسون وحبة البركة، كل شيء في هذه الطقوس كان يخبرنا بقدوم العيد قبل تكبيراته”.
نتبع الرائحة، تقول نوال المحمود، سيدة في مخيم بدير حسان، تقودنا إلى بيوت ما يزال كعك العيد فيها حاضراً، بعد أن غاب عن سلم أولويات عائلات كثيرة في الشمال السوري، لأسباب كثيرة تجملها بـ “ارتفاع أسعار المواد، وتكلفة الوقود، وأولويات أخرى خاصة ملابس الأطفال، والأهم من ذلك، النفْس، إذ لم يعد هناك مزاج للفرح بعد ما نعيشه من ظروف”.
تشبه أم محمود، مهجرة من مدينة حلب، من يمتلك قدرة صناعة كعك العيد بـ “الحج، لمن استطاع إليه سبيلاً”، فتأمين الخبز وضرورات الحياة بات معادلة يومية يحاول الجميع حلّها، ولهذا قرّرت الاستغناء عنه في العام الحالي لصالح ما تراه أكثر أهمية.
“المعمول، الكعك بعجوة، البرازق، الكعك المالح، البيتي فور، الغريبة، الكرابيج..”، وصفات كثيرة في مطبخ ربات المنازل السوريين كانت حاضرة، وبدأت تغيب شيئاً فشيئاً، إذ تبلغ، بحسب أبو عمر، موظف في مدينة إعزاز، تكلفة كيلو الكعك نحو 35 ليرة تركية، والمعمول والبرازق نحو 60 ليرة تركية، وهو مبلغ ليس بحوزة معظم العاملين في الشمال السوري الذين يعيش معظمهم تحت خط الفقر.
يزيد سعر كيلو الطحين عن عشر ليرات تركية والسميد عن 15 ليرة، وكيلو السمن عن 35 ليرة، أما الجوز والعجوة فيتراوح سعر الكيلو بين 75 إلى 100 ليرة تركية، ويزيد الفستق الحلبي عن 150 ليرة، إضافة للتوابل التي يحتاجها الكعك، والغاز الذي وصل سعر اسطوانته لنحو 290 ليرة تركية.
الأسعار المرتفعة دفعت عائلات لاتخاذ قرار بالاستغناء عن صناعة كعك العيد أو التخفيف من الكميات التي يصنعونها، “دوقة فقط لنفرح الولاد”، يقول من تحدثنا معهم، معتمدين على سلة الإغاثة التي تحوي جزء من المواد اللازمة لكعك العيد مثل الطحين والزيت.
يقول أحمد أبو محمود، يسكن في شمال حلب، إن “نصف مونة الكعك وجدت في سلة الإغاثة”، وإنه باع النصف الآخر لشراء القسم الآخر من اللوازم لصناعة بعض كعك العيد هذا العام.
أبو محمد، مهجّر من حلب إلى مدينة الأتارب، قال إنه استغنى عن صناعة كعك العيد في العام الحالي، حاله كحال كثيرين من السكان، وإنه سيلجأ إلى السوق لشراء “كم كيلو” لإسعاد أطفاله وتقديم ضيافة العيد.
ويبلغ سعر كعك العيد والبيتي فور في أسواق الشمال السوري نحو 45 ليرة تركية، أقراص العجوة بنحو 50 ليرة تركية، البرازق 60 ليرة، المعمول بنحو 75 ليرة تركية، جميعها من النوع المتوسط، بحسب أبو محمد، الذي قال إن طعمها لا يشبه ما اعتاد عليه من كعك منزلي، حتى على صعيد الرائحة.
“بصنف أو صنفين، وبكميات قليلة، سنمضي عيدنا”، تقول، حسناء وفاطمة، سيدتان تحدثنا معهن، تعشن في مخيم للأيتام بريف إدلب، وأضفن أنهن وسيدات في المخيم اتفقن على صناعة كعك العيد لأطفالهن داخل خيمة من خيام المخيم، استعرن فرناً وقمن بتأمين المواد اللازمة لذلك، من السلل الإغاثية والتمر الذي يوزع على المخيمات وشراء ما يتبقى من السوق.
ليست الأسعار وحدها من تسبب بقرار عائلات الاستغناء عن الكعك، افتقاد الفرح والحزن المخيِّم على ضحايا الزلزال ممن فقدوا أفراداً من ذويهم أو منازلهم و اضطروا للنزوح عنها، تقول نور الأحمد، من مدينة الدانا، اضطرت لمغادرة منزلها بعد الزلزال والسكن في إحدى المخيمات، إنها لن تصنع كعك العيد رغم ظروف زوجها الاقتصادية الجيدة، “ما عاد في نفس لشي، العيد بأهلو وبفرح الناس، ما عاد فيه عيد لنعملو كعك”.
تتحدث السيدتان عن صناعة الكعك بذاكرتهن، وأنهن حاولن استعادة طقوسه من لمّة الجيران والأطفال لإدخال شيء من الفرح في حياتهن، خاصة بعد أشهر من الزلزال وتداعياته التي تركت آثارها على حياتهن وحياة أطفالهن، إضافة لعدم قدرتهن على شراء الحلويات وضيافة العيد من الأسواق لارتفاع أسعارها.
تزامن العيد مع دخول فصل الصيف وحاجة الأطفال لملابس جديدة، سواء من أجل العيد أو الصيف، يقول علي شعبان، مهجر من مدينة حلب يسكن في مخيم بريف إدلب وأب لخمسة أطفال، ؛قبل التفكير بالكعك والضيافة كان علي تأمين ثمن ملابس لأطفالي، إذ يبلغ متوسط سعر أي بدل بين 35 إلى 50 دولاراً، من النوع المتوسط أو ربما أقل من ذلك، وتصل إلى أكثر من 100 دولار من النوع الجيد”.
علي عاطل عن العمل بعد تداعيات الزلزال التي أفقدته عمله، شأنه شأن كثير من السكان، ومنهم محمد بيطار الذي قال إنه استطاع شراء ملابس لولدين من أولاده السبعة وينتظر تأمين مبلغ لتغطية نفقات ملابس باقي أطفاله، وعند سؤاله عن كعك العيد اكتفى بالحوقلة.
العجز عن صناعة كعك العيد يشير إلى الحالة السيئة لعائلات كثيرة في الشمال السوري، والتي تتخلّى عاماً بعد عام عن أساسيات كانت حتى زمن قريب بمتناول الجميع، في الوقت الذي تمتلئ به الأسواق ومحلات المعجنات بأصناف مختلفة من كعك العيد في انتظار أن “يجبر الله عنهم”.