تغيّرت بعد أحداث الزلزال وتداعياته النفسية، رغبات السكان الذين هجروا الأبنية الطابقية باحثين عن أماكن أكثر أمناً، من “المنازل العربية” أو الطوابق الأولى، أو إلى الأراضي، خاصة القريبة من المخيمات، وتحويلها إلى مراكز إيواء من قبل المنظمات والجمعيات الخيرية، أو الأشخاص أنفسهم.
رافق هذه التغيرات، ركوداً في سوق العقارات، وتوقفاً شبه كلّي لعمليات البيع والشراء، إذ قدّر انخفاض الأسعار بنسبة تتراوح بين 30 إلى 60٪ وتراجع الطلب على شراء الأبنية خاصّة الأبنية الطابقية، وارتفاع في السعر وزيادة في الطلب على الأراضي الصالحة للبناء، خاصة القريبة من المخيمات أو المدن الكبيرة.
بيوت بأقلّ من التكلفة
مثّل البناء الشاقولي حلّاً لمشكلة الاكتظاظ السكاني في شمالي غربي سوريا، والتي تضاعفت أعداد سكانها إلى نحو خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل عام 2011، ونشطت حركة البناء الطابقي في المدن الرئيسة. ومع الزلزال تهدمت آلاف الشقق السكنية وتصدعت أزيد من آلاف الأبنية. إضافة لما تضرر ترك سكان منازلهم نتيجة الخوف من الهزات الارتدادية وما تركته من آثار نفسية.
لأجل ذلك عرض أشخاص بيوتهم للبيع لتغطية تكاليف انتقالهم إلى أماكن أكثر أمناً، أو لتأمين نفقاتهم بعد توقفهم عن العمل، لكنهم تفاجؤوا بقلة الطلب أو انخفاض الأسعار المقدّمة لهم إلى أقل من تكلفة البناء.
عُرض على ياسر باكير ألفين وخمسمائة دولار ثمناً لشقته في حي القصور بسلقين، أنشط الأحياء العقارية في المدينة.
لم تتأثر شقة باكير، تحوي غرفتين وشرفة صغيرة، بالزلزال، لكن موقعها في الطابق الرابع قلّل من رغبة السكان بشرائها، يقول باكير “المبلغ الذي عرض عليّ أقل من ثمن الشقة وقت شرائها قبل عامين، إذ دفعت لقاء الحصول عليها ستة آلاف وخمسمائة دولار”.
ويقول مهند الخالد، متعهد بناء في إدلب، إن “المبلغ المعروض كثمن للشقة لا يغطي تكلفة البناء”، ويقدر “تكلفة بناء شقة سكنية بمواصفات بيت الباكير بنحو خمسة آلاف دولار على الأقل، دون كسوة”.
مثل باكير، كان عرض السعر المقدّم لعثمان عبد الكريم، لقاء شقته في الطابق الثاني من أحد أبنية بلدة إسقاط القريبة من سلقين، نصف ما دفعه ثمناً لها قبل أعوام.
يقول عبد الكريم إنه اشترى شقته المؤلفة من ثلاث غرف بثمانية آلاف دولار، وبعد الزلزال تعرضّت الطوابق العليا في المبنى الذي يضم خمسة طوابق، إلى التصدع في أحد الواجهات، وعند عرضها للبيع أبلغه المكتب العقاري بأن شخصين دفعا نحو أربعة آلاف وخمسمائة دولار فقط ثمناً لشقته.
البيع بنصف الثمن أو أقل من ذلك، حال من يحالفهم الحظّ بوجود راغب بشراء منزل في الأبنية الطابقية، سواء في الأحياء التي تعرضت للدمار أو السليمة، وفي كثير من الأحيان لا يقدم للراغبين بالبيع أي سعر في منازلهم.
يقول محمد اليوسف، يملك شقة سكنية في جسر الشغور، إنه عرض منزله للبيع منذ شهر تقريباً، لكن أحداً لم يطرق بابه حتى اللحظة.
يقدّر أبو عمر، صاحب مكتب عقاري في سلقين، نسبة انخفاض الأسعار بأكثر من 50%، تقلّ هذه النسبة في المناطق التي لم تشهد تأثراً بالزلزال، وتصل إلى 30٪. بينما حافظت الطوابق الأرضية و”المنازل العربية” على أسعارها أو ارتفعت بعد أن أصبحت مقصد عائلات كثيرة في المنطقة.
يقول محمد السلوم، إنه باع منزله “العربي” في بدلة دلبيا بريف حارم، بربح ألف وخمسمائة دولار خلال الأيام الماضية. ويضيف إنه كان قد عرض منزله للبيع بداية العام الحالي لكن أحداً لم يشتريه، وبعد حادثة الزلزال طرق بابه عشرات المشترين، ليبيعه بالسعر الذي يريده.
يحدّد نسبة الانخفاض والزيادة عوامل كثيرة، منها، الطابق، درجة تصدع البناء، الحي وتأثره بالزلزال، ووجود راغب بالشراء. ويضيف أبو عمر “إن تراجع الأسعار ساهم في شلل سوق العقارات في إدلب، إذ يفضل ملّاك المنازل التريث في البيع ريثما يستعيد السوق جزء من عافيته” بحسب أبو عمر.
ويقول محمد أبو اصطيف، صاحب مكتب عقاري في مدينة سلقين، إن عمليات الشراء الحالية تتم بغرض “التجارة لا السكن”، و تقتصر على التجار ومن وصفهم بـ “المغامرين”، والذين يدفعون مبالغ قليلة في هذه المنازل أملاً بتحسن أسعارها وبيعها مستقبلاً، أما بخصوص الأبنية المتصدعة والمتضررة فقد توقفت حركة البيع والشراء بشكل كامل.
الأرض أكثر ثباتاً
لجأ الهاربون من الزلزال إلى الأراضي المجاورة والساحات المكشوفة خوفاً من الهزات الارتدادية، ووجدوا فيها ملاذاً لهم و لعائلاتهم، ما دفعهم للتفكير بالإقامة الدائمة في خيام، أو بناء منازل “عربية” داخلها، الأمر الذي زاد من أسعار الأراضي لضعفين أو أكثر.
وشهدت الأراضي القريبة من المخيمات والمدن الرئيسة نشاطاً في عمليات البيع والشراء، وارتفاعاً في الأسعار، إذ قدّر مقيمون تحدثنا معهم في بلدة البردغلي، شمال غربي الدانا، وهي منطقة مكتظة بالمخيمات، نسبة الزيادة في أسعار الأراضي بضعف ما كانت عليه.
بالقرب من مخيم الهدى، الواقع في البردغلي، ارتفعت قيمة متر الأرض من خمس إلى تسع دولارات. وبحسب إياد القاسم، أحد المشترين، إن هذه الأرض كانت قد عرضت عليه سابقاً لكنه لم يكن يرغب بالسكن فيها، ومع الزلزال وتصدّع منزله في حارم و عجزه عن الحصول على منزل مجاني داخل المخيمات وخوف عائلته من السكن في منزل طابقي، لجأ لشراء هذه الأرض بضعف السعر.
ويقول، أبو اصطيف، صاحب المكتب العقاري، إن تراجع عمليات البيع والشراء على المنازل أعقبه زيادة في الطلب على الأراضي المحيطة بالمدن، سواء من الأهالي أو الجمعيات والمنظمات التي عملت على بناء مراكز إيواء ومخيمات لاستيعاب النازحين الجدد، وهو ما ساهم في رفع ثمنها.
باع عبد الكريم الحجي، يملك خمسة دونمات في مدينة حارم، أرضه دفعة واحدة بزيادة أربع دولارات عن كل متر، لواحدة من المنظمات التي حوّلتها إلى مركز إيواء.
يخبرنا الحجي إنه كان قد عرض أرضه للبيع في العام الفائت، وحدد سعر المتر الواحد بتسع دولارات دون أن يجد مشترياً، وبعد الزلزال باعها بثلاثة عشر دولاراً للمتر الواحد نتيجة ارتفاع الطلب عليها.
ويضيف الحجي “جميع الأراضي المحيطة بأرضي ارتفعت أسعارها”، وتراوحت هذه الزيادة بين خمسين إلى مائة بالمائة من قيمتها السابقة.
في الشمال الغربي من مدينة إدلب، اشترى محمد الحسن، مستثمر عقارات، قبل نحو عام، ثلاثمائة دونماً لتحويلها إلى مشروع سكني، مقابل دولار واحد لكل متر. وبعد الزلزال باع كل متر منها بخمس دولارات نتيجة تحول قسم من متضرري الزلزال للشراء فيها لقربها من مدينة إدلب.
يقول الحسن إن معظم الأراضي في تلك المنطقة لم تكن مرغوبة سابقاً، ولكنها اليوم أصبحت “مقصودة”، وضاعف أصحابها السعر فور البدء بعمرانها بالرغم من طبيعتها الجبلية.
أمين الصالح، عامل بناء، قال إن “الكثير من الأراضي المهملة تحرك سوقها عقب الزلزال، لا سيما الأراضي المجاورة للمشاريع السكنية، وتلك التي باتت مقصداً لبعض المستثمرين بهدف التجارة، مع العلم أن معظم تلك الأراضي كانت تشهد حالة ركود في عمليات البيع والشراء كونها أراض جبلية تفتقر للتخديم”.
إضافة للمستثمرين والمنظمات، شكّلت التعويضات المالية التي منحت لسكان متضررين، وعودة عائلات سورية من الأراضي التركية، المتضررة هي الأخرى من حادثة الزلزال، أسباباً في تعزيز نشاط سوق الأراضي وارتفاع ثمنها.
حصل عبد الله الخطيب، على ألف ومئتي دولار جزء منها كتعويض من قبل إحدى المنظمات والآخر من أقرباء له، بعد الزلزال. يقول الخطيب “قمت بشكل مباشر بتسديد المبلغ الذي حصلت عليه ثمناً لأرض اشتريتها بجوار أقاربي في مخيم باريشا، بعد نصحهم لي بوجود منظمة ستقوم بعملية بناء للمتضررين من الزلزال”.
متضررون آخرون سلكوا طريق الخطيب ذاته، أملاً في مساعدتهم على بناء منازل أكثر أمناً لهم، يضاف إليهم دخول عشرات آلاف السوريين عبر المعابر الحدودية من تركيا، سواء بشكل نهائي أو مؤقت، بعد أن تضررت منازلهم في تركيا.
يقول محمد المرسال، أحد الوافدين من تركيا رفقة عائلته، إنه حسم موقفه من العودة إلى تركيا والتمهيد للسكن بشكل دائم في سوريا، وهو ما دفعه لشراء أرض بمساحة مائتي متر مربع في بلدة كفرلوسين الواقعة شمال مدينة الدانا، مقابل أربعة الآف دولار، في خطوة أولى قبل إتمام عملية البناء.
ويضيف المرسال “قمت بتلك الخطوة بعد أن حسمت موقفي من الاستقرار في الشمال السوري، وتأمين سكن آمن لعائلتي”.
العودة إلى بناء “المنازل العربية”، طابع المرحلة القادمة في الشمال السوري، بعد عقدة الخوف التي تسبب بها الزلزال، وكثرة الوفيات والأضرار المادية، ما ينبئ بمشكلة توسع جديدة على الأراضي الزراعية، وينهي مشاريع الأبنية الطابقية التي كانت تمثل حلّاً للاكتظاظ السكاني.
أمام هذا الواقع يخضع سوق العقارات لسياسة الطلب والرغبة، ما يشكل تأرجحاً بين الزيادة والانخفاض، الركود والنشاط، يلعب الزلزال وما تركه من آثار نفسية، لن تزول لمدة طويلة، حجر الأساس في هذه التغيرات.