تُعِد أم شذا (25 عام) وجبة الإفطار بمنزلها قبل موعد آذان المغرب بساعة. ثم تجلس مع زوجها وبناتها الثلاث لتناول الإفطار الرمضاني المعتاد على عجل، الذي ما أن ينتهي حتى تنقلب طقوس ما بعد الإفطار “المعتادة”، إذ يتعين على الأسرة العودة مجدداً إلى خيمتها المجاورة للبناء، وتبعد عنها مسافة مئتي متر فقط، فالعائلة تقيم في خيمة منذ الزلزال الذي ضرب الشمال السوري في السادس من شباط 2023، حيث يعيش أفرادها خوفاً من انهيار المبنى المتصدع فوق رؤوسهم.
لم تعد الحياة مجرد تنقل بين منزل وخيمة، بل يترتب عليها معاناة كثيرة، تقع في الغالب على كاهل النساء؛ إذ يتعين على المرأة أن تتدبر أمور المنزل والخيمة ومنزل معاً. تقول أم شذا: “ونحنا عم نفطر بترجعلي الراحة النفسية ببيتي وبنسى الشنططة، ومن بنشبع وقبل مافكر بأنو رح نجهز المشروبات والحلو للسهرة الرمضانية، بيرجع الواقع يصفعني: السهرة بالخيمة والنومة فيها”.
وقبل أن يحين موعد السحور، تعود أم شذا إلى بيتها المتصدع، ثم إلى الخيمة الضيقة لتجلب معها “وجبة مسافر أو مزارع”، بحيث تفي بالغرض وبأقل عدد من الأواني. إذ من الصعب إعداد الطعام في الخيمة، التي لا تحتوي سوى على موقد غاز (سفري) صغير، بالكاد يكفي لغلي الشاي. مقتنيات الخيمة محدودة جداً، وحتى الماء والإنارة الخافتة. لذا تختفي طقوس السحور، الذي تصفه أم شذا بسحور “تمشاية حال”.
أم شذا واحدة من آلاف سكان مدينة سلقين الحدودية مع تركيا، الذين يعيشون رمضانَ جديداً لا يشبه أشهر رمضان الماضية، فثمة طقوس رمضانية اندثرت وأخرى تبدلت، إضافة إلى مشاكل حياتية عدة بعد نكبة المدينة بالزلزال المدمر.
أعداد الضحايا والمصابين المهولة جعلت السكان يعيشون خوفاً دائماً من تكرار الكارثة. وبات لكثير من عوائل المدينة الناجين مسكنان: بيت طابقي يُخْشَى النوم والاستقرار فيه، وخيمة أو مزرعة للسكن المؤقت تفتقد لأغلب مقومات الحياة. الأهالي يبقون متنقلين بين هذا وذاك، يعيشون حياة مشتتة تفرض نموذجها عليهم، وتعدل على طقوس رمضان كما يناسبها.
الساعة الخامسة عصراً، شارع السبع بحرات بمركز المدينة، السابع من رمضان. تتأمل إحدى نساء المدينة هذا الشارع، الذي كان ذات يوم يكتظ بالناس وباعة الخضروات وعرق السوس. أما الآن، فهو مليء بالركام وكل الأبنية على أطرافه مهدمة، والعمال ينظفون الشارع. مشهد موجع جداً على حد تعبيرها، تقول: “إنه يُختَصر وجع المدينة وما افتقدته برمضان”.
من لمّة لفُرقة
يُعْرَف سكان مدينة سلقين بمحبتهم للحياة في أوساط إدلب. وتعرف المدينة بأنها وديعة مسالمة لا يفوت أهلها أي فرصة سعادة أو طقس محبب.
علاقات الجيران يغلب عليها الود، لدرجة أنها تفوق علاقات القرابة أحياناً، فيها ترابط اجتماعي لافت. من طقوس المدينة الأساسية في رمضان السهرات الرمضانية، إذ يتشارك الجيران والأقارب (عائلتان على الأقل) سهرات رمضان لأنها “جمعة الروحانية الحلوة، فيها بنحس بأنو هي ليلة رمضانية”، كما تصفها براءة، أم شام.
تتابع براءة (32 عام) “كنا نشرب المشروبات مع الي منحبهون، وناكل التحلايات والفواكه سوى، العبرة مو بالأكل العبرة بروح السهرة الجماعية، فمثلاً أنا من ضمن طقوسي ركوة القهوة العظيمة مع جارتي عبير”.
في الوقت الحالي تفتقد براءة تلك “الجمعات” ككثيرات غيرها، فقد تباعد الجيران، وانعدمت السهرات الجماعية، فمع حلول المساء تمكث كثير من العوائل في “مأواها الليلي” إما في خيمة بإحدى فسحات المدينة أو في مزرعة من مزارع البساتين التي تنتشر على أطراف سلقين.
يعزو البعض سبب تغير الطقوس الرمضانية إلى الأوجاع التي لحقت بكثيرين، مثل فقدان أحد أفراد العائلة أو الأصحاب بسبب الزلزال، الذي أصبح الحديث الشاغل أثناء اجتماع الأهل أو الأصحاب. تقول سلام، شقيقة أحد ضحايا الزلزال: “أخي محمد كان هو الي يجيب المعروك للبيت. هلق ماعم نحسن ندخلو على البيت، ماما من تشوفو أو تسمع بياع معروك تفرط بكا، وعالسحور كان يطلب سلطة زعتر وجبنة، وهلق ماعم نحسن نعمل أي شي يذكر فيه”.
الطعام في الخيمة لكن الماء بالبيت
بالنسبة لكثيرين، لم تعد الحياة مجرد تنقل بين منزل ومزرعة أو خيمة، بل يترتب عليها معاناة كثيرة، تقع في الغالب على كاهل النساء؛ إذ يتعين على المرأة أن تتدبر أمور المنزل والخيمة معاً.
تعيش أحلام (30 عام وأم لخمسة أطفال) مع عائلتها في خيمة على جبل الجبيلي شرقي سلقين، تبعد عن منزلها حوالي 400 متر. تذهب للبيت لإعداد الطعام، أو غسيل الملابس، أو أي حاجة يتطلبها الحال لا تتوفر بالخيمة. تقول أحلام: “أنا معلقة مابين هون وهنيك، نفسياً راحتي هون، لكن هون كلو تعب جسدي، عطول رايحة راجعة عالبيت. في شغلات مرهقة. تخيل الطفل إذا بدو يقضي حاجة لازم اطلعوا عالبيت”.
وختمت: “المي محسوبة علي بالغالون. كيف ست بيت بدها تقدر تدبر امورها بلا مي، هون عم يجبلي زوجي بالغالون شي نشرب ونفض شغلات فاضية متل كاسة أو شي، وعلى رمضان صعبت الأمور أكتر”. تعترف أحلام، أنها قررت وزوجها ذات يوم الإفطار بالمنزل والنوم فيه وتحدي خوفهما. لكنهما ما لبثا أن خرجا منه الساعة الثانية عشر ليلاً بعد حدوث هزة ارتدادية فاقدين الأمل بالاعتياد على النوم بالمنزل.
خصوصية مخنوقة وخلافات عائلية
هذه المساكن المؤقتة والجديدة، التي لم يعتد عليها سكان سلقين، وضعت النساء بشكل مفاجئ في خضم حياة شبه عارية. حياة تجعل المرأة محتاطة بلبسها الكامل طيلة اليوم وكأنها في السوق. الأمر الذي يشكل معاناة إضافية، إذ عليها أن تتأقلم بشكل اضطراري مع مساكن تغيب عنها الخصوصية.
تقول حسناء (48 عام) إحدى نساء المدينة العائدة للنوم في منزلها منذ أيام: “مادمنا بالخيام لبسنا اللبس الخارجي مو كأنا أبدا بمسكن النا، لأن فجأة بيدخل حدا عالخيمة في كتير ناس ما بتنطر، بمجرد صاح الصوت صار جوا، هي خيمة مو بيت وباب وجرس، بالخيمة أنت ببيتك ومو بيتك”.
السكن في خيمة خلق خلافات عائلية بين الأزواج. أخبرنا رائد (أب لثلاث طفلات) أن علاقته بزوجته ساءت كثيراً مؤخراً، فهو كره طبيعة الحياة بين الخيمة والبيت، وأراد إقناع زوجته بالرجوع إلى البيت، ولكنها رفضت مراراً.
يقول رائد (36 عام): “بالبداية احتملتها، لكن الوضع لم يعد يطاق، كل ماقررت الرجوع للمنزل تعارض بشدة وحجتها الخوف. وعندما أتى رمضان لم يعد الوضع يحتمل، أكثر من مشكلة حدث بيننا بسبب هذا الموضوع حتى رجعنا يوم الأمس وهي شبه مرغمة”.
لم يستطع رائد النوم في أول ليلة بالمنزل، وأمضى الليلة يتذكر كلام زوجته وينظر إليها وإلى بناته. بقي صاحياً طيلة الليل تحسباً لحدوث شيء حتى يخرجهن فوراً إلى الخيمة، في حين نامت زوجته بلباسها الكامل وحتى بحجابها تحسباً للأمر ذاته.
يحاول أهالي المدينة العودة لحياتهم الطبيعية متجاهلين حرقة الفقدان والخوف. ومع بداية رمضان عاد قسم من سكان المدينة إلى بيوتهم، وخصوصاً البيوت التي لم تتصدع، حيث يعيشون في قلق، كما أخبرنا بعضهم. في حين لم يفلح بهذه العودة قسم آخر من السكان وخصوصاً ممن تضررت منازلهم أو حاراتهم، وما زالوا ينتظرون حلم الاستقرار وتأهيل منازلهم من جديد.