لم تنقضِ مأساة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من شباط 2023 بعد، رغم مضي أكثر من شهر ونصف عليها، خاصة بالنسبة للأطفال الناجين الذين كانوا على اتصال مباشر مع الضحايا أو قريبين من المساهمات ذات الصلة والتي لم تقتصر على الكبار.
فاجأ الزلزال سكان المناطق المنكوبة. وما أن بزغ فجر اليوم الأول للزلزال، حتى كانت أعداد الجثث تزداد كلما تقدمت عقارب الساعة. أدت كثرة أعداد الضحايا وتوزعهم في مناطق متفرقة إلى تشتيت جهود المنظمات الإغاثية. فاضطر السكان الناجون إلى المشاركة في عمليات الإغاثة والإنقاذ. وكانت لأطفال الشمال السوري بصمة في العمل الإغاثي، رغم أن مشاركتهم انضوت على مخاطر لم يدركها الأهالي؛ على الأقل في بادئ الأمر.
هول المصيبة الجماعية كان من نتائجه إغلاق المدارس، وتحول أطفال من الدراسة إلى الحفر بمعاولَ يدوية خشنة، ومن الركض وراء زملائهم في ساحات المدرسة إلى السير في جنازاتٍ جماعيةٍ لأشخاصٍ يجهلون وجوههم، ومن الجلوس في المقعد الخشبي الناعم إلى البقاء على مقربةٍ من تابوتٍ يحوي جثث الموتى.
براء نجم طفل في سن12 عاماً، نصب والده خيمة بالقرب من مقبرة الحلفا في مدينة إدلب هرباً من بنائهم المتصدع الذي قد ينهار فوق رؤوسهم بفعل الهزات الارتدادية الكثيرة بأية لحظة. فجأة وجد براء نفسه مضطراً إلى الانضمام لمجموعة من أطفال مدرسته مع ذويهم لحفر قبور لضحايا الزلزال رغم الأمطار الغزيرة والبرد القارس، بحسب والد براء.
دُفن في مقبرة الحلفا ما يقارب 300 شخصاً من ضحايا الزلزال، بينهم 126 طفلاً، بحسب حسام، أمين سر “جمعية البر والخدمات الاجتماعية” ومكتب دفن الموتى، وهو أحد مشاريع الجمعية.
نضج مبكر أم لهو أطفال؟
تراوحت أعمار الأطفال في الفريق الذي بلغ عدد أعضائه من50 إلى60 طفلاً بين سن الثامنة وسن الثانية عشرة عاماً. تتذكر أم براء كيف كانت تراقب طفلها وهو يمسك أدوات الحفر التي تفوقه طولاً ووزناً، تارة يناول أحد الكبار ما يحتاجونه، وتارة أخرى يحمل الفأس محاولاً حفر التربة اللزجة التي تحولت لوحل زاد من مشقة الحفر. مياه الأمطار بللت ثيابه وصار بالكاد يحمل قدمه التي غاصت في الوحل فصارت أثقل منه. “شعرتُ أن طفلي أصبح رجلاً ناضجاً خلال ساعات فقط”.
ما تزال صورة أجساد أصدقائه النحيلة وأياديهم الصغيرة التي لم تسلم من الخدوش والرضوض عالقة في ذاكرة أم براء، فقد كان عليها تعقيم جروحهم ومحاولة إقناعهم بالكف عن هذا العمل وتركه للكبار.
تقول إنها رأت في عيونهم إصراراً على المساهمة ولا تعلم إن كان هذا الإصرار هو لعب ولهو أم أنه وعي ونضج مبكر لعقولهم التي اعتادت على الصدمات الناتجة عن القصف والتهجير، فهي تذكر جيداً كلام جارتها المهجرة أم أحمد وكيف كان أطفالها يظنون النزوح رحلة ترفيهية قبل أن يجربوا مرارته.
مخاطر كارثية بعد الزلزال
قد يمثل ما قام به براء وأصدقاؤه عملاً بطولياً بنظر والدته وأهالي المدينة، أو ربما لم يفكر أحد بالأمر، أو كان الجميع تحت وقع الكارثة ولم يكن متاحاً وممكناً سوى إشراك الجميع بما فيهم الأولاد في عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث، لكن بالنسبة لـ بسام البطحي، طبيب ومرشد نفسي، لم يكن الأمر كذلك
إذ اعتبر أن التجارب التي مرّ بها الأطفال بعد كارثة الزلزال لن تمر بسلام، وخاصة إذا كان من بين الضحايا أطفال مثلهم. لذا سارع إلى توعية الأهالي عبر حساباته معتبراً أنّه “إذا كان الميت صغيراً قد يسبب تهيُّجاً في المشاعر عند الطفل وعدم السيطرة على مشاعره”.
بحسب اليونيسف، فإن آلاف الأطفال عرضة للخطر بعد زلزالين ضربا جنوب شرق تركيا وسوريا، كما تؤكد التقديرات أن 3,7 مليون طفل في سوريا أمام مخاطر كارثية بعد الزلزال، وحذرت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل، في بيان لها في الثاني من آذار الجاري عقب زيارتها لسوريا، من الكوارث المستمرة والمتفاقمة على الأطفال المتضررين بسبب التأثير النفسي للزلازل، والخطر المتزايد للأمراض المعدية التي تنتقل بالتلامس وعبر المياه، وعدم وصول العائلات الأكثر هشاشة إلى الخدمات الأساسية بسبب 12 سنة من النزاع.
وقالت في البيان: “عانى أطفال سوريا بالفعل رعباً وحسرة يفوقان الوصف. لم تدمر هذه الزلازل المزيد من المنازل والمدارس وأماكن لعب الأطفال فحسب، بل حطمت أيضاً أي شعور بالأمان لدى الكثير من الأطفال والعائلات الأكثر هشاشة”.
صورة عالقة في ذاكرة الأطفال
يعلق في ذهن براء عدد من مشاهد حفر القبور، رغم تظاهره بالقوة والصلابة، يقول “إن مشهد محاولتي وأصدقائي ردم التربة على بعض الجثث في القبور يعود لذاكرتي قبل النوم دائماً. لم نكن نستسلم عندما يحاول الكبار صرفنا عن ذلك فننتقل إلى حفر قبرٍ جديد متجاهلين جروحنا”. كما يذكر جيداً كيف يعبّر أقارب المتوفين عن حزنهم بالنحيب والبكاء الشديد بينما يقف وأصدقاؤه يراقبون المشهد بصلابة.
عند سؤاله عن حاله يحاول براء التأكيد على أنه بخير وأنه لم يكن خائفاً من منظر الجثث التي كانت تفترش أرض المقبرة، كذلك فعل أحد أصدقائه ممن شاركه العمل في انتشال الضحايا عندما طرحنا عليه السؤال ذاته فوصف مذهولاً كيف كان قادراً على سحب جثث أطفال في سنه أو أصغر سناً من دون أن تتملكه مشاعر الخوف.
كذلك يعتقد والد براء أن طفله بخير وأنه “جريء” وأنه عبَر تجربة الزلزال بشجاعة، فهو كان يعيش حياة الطفولة الطبيعية قبل عدة أيامٍ في الحدائق والملاعب وكذلك في المدارس التي تضرر منها بعد الزلزال في منطقة سلقين وحارم والأتارب والملند وإدلب المدينة 250 مدرسة.
والسبب في هذه “القوة النفسية” من وجهة نظر الطفل براء أنهم اعتادوا على هذه المشاهد بين الحين والآخر نظراً لما عايشوه من واقعٍ منكوبٍ منذ ولادتهم، وأن هذه الكارثة ليست الأولى التي يشهدها أطفال الشمال السوري، إذ عايشوا واقعاً دموياً، وهذا ما يجعلهم أكثر صلابة.
تشكل “عقدة الذنب” لدى الأطفال
الدكتورة النفسية “يمنى جمال” في تصريحها لفوكس حلب، ترى أن هذا التطوع سيؤثر على نفسية الطفل، لاسيما فيما يتعلق بنظرته للحياة والمستقبل، وتعتبر التطوع بشكله العام أمراً جيدا وله أثر إيجابي على حياة الطفل لاسيما إذا لم يؤثر على تنمية مهاراته، ولكن السؤال الذي يراودها حول هذه القضية هو لماذا لا يتم توجيه هؤلاء الأطفال إلى التطوع بأعمال تتناسب مع أعمارهم!
وعن عدم إظهار الطفل المتطوع أعراض وعلامات الرهبة أو التأثر، تقول الأخصائية المغربية غزلان أفريو لفوكس حلب: “من المحتمل جداً أن يتكوّن لدىٰ هؤلاء الأطفال المتطوعين ما تسمى (عقدة الذنب)، وربما الألم النفسي والإحساس بالقلق تجاه الأعداد الهائلة من الموتى، وقد يتضخم الإحساس بالعجز والألم بالتزامن مع عدم القدرة على تغيير الأحداث أو تقديم المساعدات اللازمة. وبرأيها فإن هذه الأعراض قد تظهر وقد يحاول الطفل إخفاءها مظهراً تبلُّد المشاعر واللامبالاة، ومن الممكن أن تظهر في فترة (ما بعد الصدمة)”.
لم ينتظر الأطفال أجوراً مادية أو مقابلا لتطوعهم، بل إن مساهمتهم وصلت لمحاولة معرفة وتوثيق أسماء الضحايا على القبور ومساعدة العوائل المتضررة وذوي الشهداء، كما لم تصلهم مساعدات أو وجبات خلال عملهم، فليس هذا ما جاؤوا لأجله، “بل جاؤوا ليكونوا جزء من الحل”، على حد تعبير أبو براء، ولو كان ذلك على حساب راحتهم الجسدية وعافيتهم النفسية.