ما أن تستسلم لبنى للنوم في كل ليلة حتى تستيقظ بعد فترة قصيرة فجأة وهي تصرخ: “ما بدّي موت .. شيلو السقف عني”، متخيلة أنها ما زالت تحت ركام منزلها. لتدرك بعد لحظات أنها كانت تعيش كابوساً لم يبرحها منذ الزلزال.
نجت ابنة الأعوام العشرة وعائلتها من الموت، بعد أن تهدم منزلهم في مشروع بسينا السكني غربي سلقين، إثر حدوث الزلزال.
ورغم انتقالهم للعيش في خيمة عند أقربائهم في مخيمات حارم العشوائية، إلا أن لبنى ما زالت تحت تأثير الصدمة، إثر سقوط سقف عليهم وإخراجهم من تحت ركامه، كما تروي لنا والدتها.
تقول والدة لبنى: “في كل ليلة أحاول تهدئتها أنا وعمتها، وتذكيرها أننا في خيمة ولا سقف لها كي يقع. لكن جسدها لا يتوقف عن الارتجاف، وتطلب منا ألا نطفئ الأنوار أثناء نومنا، لأن نفسها يضيق وتشعر بتسارع دقات قلبها، فتمسك بي بكل ما أوتيت من قوة ولا تبتعد عني إلا عندما تغرق في النوم”.
ماذا عن تثقيف الطفل
تَحدث الأمراض النفسية لدى الأطفال جرَّاء تعرضهم لأحداث عظيمة لا يقدرون على استيعابها، مثل الزلزال، الذي تنتج عنه أنواع كثيرة من الاضطرابات، مثل الاكتئاب ومتلازمة “دوار ما بعد الزلازل” و”اضطراب ما بعد الصدمة“، وغالباً ما تصيب الأشخاص الناجين من الزلزال، كما حدث مع لبنى.
في مجال الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي لا يمكن توقع تشخيصات طبية ونفسية عن وضع الأطفال حالياً وما يعانونه بالضبط من دون جلسة تقييم للحالة النفسية والاجتماعية تُنفّذ عن طريق مختص بالصحة النفسية، وذلك بحسب المعالج النفسي حسين الشيخ.
يقول الشيخ لـ “فوكس حلب”: “من المهم تجنّب إطلاق أوصاف وتشخيصات للاضطرابات النفسية خلال الفترة الأولى للحدث، ففي الأزمات من المفترض أن يكون هناك تدخلات نفسية عن طريق الداعم النفسي الاجتماعي أو طبيب رأب الفجوة (mhGAP) من خلال جلسات دعم نفسي وتثقيف للأهل عن الوضع الحالي”.
وأضاف: “يجب أيضاً تثقيف الأطفال من خلال تبيان حقيقة الأمر لهم وبأن الزلزال هو ظاهرة طبيعية تحصل بكل مكان وقد تأتي هزَّات أخف من الزلزال، لكي لا يدور بذهن الطفل تحليلات غير منطقية تزيد من حالته النفسية”.
نجوا.. لم ينجوا
ثمة أطفال عانوا من مشاكل أخرى بسبب الصدمة النفسية إثر فقدانهم لذويهم، مثل التبول اللاإرادي واصطكاك الأسنان أثناء النوم. وهذا ما حصل مع ريتال، 11 عاماً، وأخيها الأكبر، 13 عاماً، بعد أن فقدا والديهما واثنين من أخوتهما، إذ تعاني ريتال من مشكلة التبول اللاإرادي بشكل مستمر، كما تقول لنا زوجة عمها، التي تشرف على رعاية الطفلين في هذه الفترة. صحيح أنهما نجوَا من الزلزال، ولكنهما لم ينجوَا من الآثار النفسية التي خلفها، وهناك تخوف أن ترافقهما مدى الحياة، بحسب تعبيرها.
تقول زوجة العم: “بقيت ريتال ثلاث ساعات تحت الركام مع أخيها أحمد في منطقة جنديرس، وخرجا بحالة صحية جيدة دون أن تظهر عليهما أعراض مرضية سوى من بعض الجروح الطفيفة. لكن مشكلتي التبول اللاإرادي واصطكاك الأسنان ما زالت ريتال تعاني منهما، إذ كلما حاولتُ تفقّدها أثناء نومها أسمع صرير أسنانها وتعرق وجهها رغم برودة الجو في الخيمة. وفي كل مرة أحاول إيقاظها تصاب بحالة من الهلع وتصرخ: زلزال .. صار زلزال!”.
تخجل زوجة العم مشاركة مشكلة ريتال مع أحد، إذ تخاف من أن تتعرض الفتاة إلى شكل من أشكال الوصم من محيطها المجتمعي. وفي الوقت ذاته تشعر بشيء من العجز وصعوبة بالتعامل مع هذه المشكلة، تقول: “المشكلة أننا نعيش في مخيم ولا نملك غسالة لتنظيف الثياب بشكل يومي، وأخاف أن ترافق ريتال حالة التبول اللاإرادي عندما تكبر”، مضيفة أنها “حاولت إقناع ريتال بالذهاب للطبيب، لكنها ترفض في كل مرة، وتبدأ في البكاء وتعدني بأن تحاول ألا يتكرر الأمر مرة أخرى، لكن دون جدوى”.
أما أحمد، أخو ريتال الأكبر، فما زال يعاني من اكتئاب شديد وقلق حاد وفقدان للشهية إثر الصدمة التي تعرض لها حين رأى جسد والدته متقطع أمام عينيه، بعد أن وقع سقف المنزل عليها وكان شاهداً على لحظاتها الأخيرة وصوت أنينها قبل أن تفارق الحياة، بحسب ما روت لنا زوجة عمه.
علاج سلوكي
يقضي أحمد جلّ وقته في شرودٍ دائم وعزلة لا يقبل أن يخرجه منهما أحد. ورغم محاولة صديقة والدته كسر عزلته بحديثها معه، إلا أنه يتحدث بصعوبة بالغة مليئة بالغصات التي يحبسها، بعدها ينهار باكياً ويخبرها أنه في شوقٍ لرائحة أمه ورؤية وجهها الذي اعتاد على رؤيته كل صباح. يقول أحمد لنا: “عم حس روحي عم تتطلع بعد موت أهلي .. بحاول أشغل حالي وعبّي وقت فراغي لأنسى اللي صار .. بس ما عم أقدر”.
تُعالج الحالات الشبيهة بحالة أحمد عن طريق العلاج السلوكي، من خلال عمل المرشد النفسي. وفي حال كانت الأعراض التي يعاني منها المريض شديدة قد ينصح المرشد ذوي المريض بالذهاب إلى الطبيب ليصف له دواءً يتناوله إلى جانب متابعة حالته مع المرشد النفسي، كما يوضح الطبيب النفسي موفق العموري. ففي بعض الحالات قد يضطر الطبيب للجوء إلى مضادات القلق أو الاكتئاب لمساعدة الأطفال الذين يعانون من حالة “اضطراب كرب ما بعد الصدمة”، حسب قوله.
يقول العموري لـ “فوكس حلب”: “تظهر على هذه الفئة أعراض كثيرة كالتبول اللاإرادي والقلق والنكوص والخوف والرهاب وقضم الأظافر، إلى جانب تغيّر حاد في سلوكياتهم مثل التعامل بعدوانية أو التعلق الزائد أو الهشاشة النفسية، ناهيك عن دخولهم في حالة من الترقب أو الجمود أو الصراخ أو الانقطاع المفاجئ عن الكلام أو الخوف من الأماكن المغلقة والمظلمة”، ويردف قائلاً: “جميعها ردود أفعال شائعة تظهر بعد حدوث أي كارثة أو حالة خوف، كما يمكن أن يعاني المريض من أرق وأحلام مزعجة أو مخيفة وأعراض جسدية كالغثيان أو صداع في الرأس وآلام في المعدة”.
الإسراع بمراجعة طبيب نفسي
مشكلة الطفل سامي، 8 سنوات، كانت مختلفة، إذ فقد قدرته على الكلام بعد الزلزال. تقول والدته: “في ليلة الزلزال خرجنا من منزلنا الكائن في مدينة جنديرس نحو مخيم كفر صفرة، وفي الطريق كان سامي يرتعش كلما سمع صراخ النسوة والأطفال وبكائهنّ ورأى مشاهد الأبنية المدمرة”.
وتتابع “رغم محاولتي احتضانه وتخفيف ارتعاشه، إلا أنه ظل بحالة صدمة، غير قادر على الكلام ما جعلني أفقد الرغبة بسؤاله عن سبب صمته. وما إن وصلنا إلى المخيم حتى فجعت بعدم قدرته على الكلام وإجابة العائلة عما حصل معنا”.
أثناء زيارة إحدى فرق دعم المنظمات للمخيم نصحت إحدى الموظفات والدة سامي بالإسراع بمراجعة طبيب نفسي لمساعدة الطفل على التخلص من هذه المشكلة.
الأطفال أكثر المتضررين
احتمالية إصابة الناجين من الزلزال الذي حدث في سوريا وتركيا بمتلازمات نفسية وارد جداً، وخاصة الأطفال، كما يوضح الطبيب محمد الحسن، إذ يُرجع السبب إلى اختلال في التوازن ينشأ نتيجة اضطراب في الأذن الداخلية، فالقلق الحاد في الشبكات العصبية السمعية يؤثر على قشرة الدماغ ويندمج مع المعلومات الواردة من الأذن إلى الدماغ ويُظهر نمطاً من تأرجح مركز ثقل الجسم مشابهاً للاضطرابات العصبية المركزية، حسب تعبيره.
رغم الخسائر المادية التي تعرضت لها المنطقة في الشمال السوري، إلى جانب العائلات التي خسرت منازلها وأماكن عملها وباتت تعيش في مراكز إيواء، فإن جُلَّ ما يشغل بال العائلات الناجية هو تعافي أطفالهم من صدمات نفسية، وألا ترافقهم مدى الحياة، عدا الأطفال الذين خسروا أمهاتهم أو آبائهم أو الاثنين معاً، وهؤلاء تحديداً بحاجة لدعم نفسي في الفترة القادمة.