ازداد الطلب على شراء الذهب بعد الزلزال الذي ضرب الشمال السوري، باعتباره أكثر المدخرات أمناً في تفكير السوريين. ويدخل في ذلك عوامل كثيرة منها النكهة الشعبية التي وسمت المصاغ الذهبي في المنطقة بعد افتتاح أزيد من عشر ورش محلية، وتأسيس نقابة للصاغة تحمي المستهلك وتراقب عمل المحلات والورش من عمليات الغش والتزوير
يقول مصعب أسود ملاز، نقيب الصاغة في الشمال السوري، إن سوق الذهب تأثر لأسبوع بعد الزلزال، دون أضرار تذكر في المحلات والورش التي يتركز معظمها في مدينة إدلب والدانا وسرمدا، قبل أن تستعيد هذه الأسواق نشاطها، وبشكل أكبر مما كانت عليه قبل الزلزال.
ويرجع ملاز أسباب انتعاش أسواق الصاغة إلى تصدر الذهب قائمة الادخارات الآمنة في المنطقة، مقارنة بالمدخرات الأخرى من العملات الورقية التي قد تتعرض للتلف والضياع، وهو ما حدث خلال الزلزال، إضافة للسيولة المالية التي وصلت إلى الشمال السوري عبر الأشخاص أو المنظمات.
أما السبب الأهم لنشاط سوق الذهب فيرجعه ملاز لدخول آلاف السوريين من الولايات التركية المتضررة بالزلزال لقضاء إجازتهم في سوريا، وتحويل قسم منهم ما يملكونه من مدخرات مالية إلى مصاغ ذهبي. التأثير الأكبر، بحسب ملاز، كان على الذهب المستورد من تركيا، وذلك لتضرر ورش تصنيع الذهب المصدر إلى سوريا، خاصة من ولاية مرعش التي تضررت بشكل كبير نتيجة للزلزال.
لا يتعلق الأمر فقط بالمدخرات الآمنة، لكن هناك عوامل أخرى لعبت دوراً كبيراً في انتعاش السوق وزيادة عدد ورش تصنيع الذهب في الشمال السوري، قبل الزلزال وبعده، منها فرق الصياغة (المبالغ التي تدفع على كل قطعة ذهبية لقاء صناعتها)، وإقبال الناس على شراء المصاغ الذهبي الذي يتناسب مع الذوق السوري، وبالعيار الذي ألفوه (21)، وإمكانية تصنيع مصاغ ذهبي بنقوش معينة وأسماء أو تواريخ محددة تضاف إليه حسب الطلب، أيضاً المراقبة الدقيقة على المصاغ الذهبي وإمكانية استرداد المبالغ المالية ومحاسبة الصاغة في حال الغش أو التلاعب بالوزن أو العيار.
مرت صناعة الذهب في الشمال السوري بمراحل عديدة، لكنها استقرت منذ نحو ثلاثة أعوام، إذ بات لها أشكال تميزها عن غيرها، وشركات تسِم منتجاتها بطابعها، وتنوعت هذه الأشكال لكنها، في معظمها، حرصت على ملامسة الذوق الشعبي في المنطقة.
يقول محمد، أحد الزبائن الذين قابلناهم في محل للذهب داخل مدينة سرمدا، إنه استطاع إضافة اسمه واسم خطيبته، على خاتم زفافهما المقرر في الصيف المقبل، كذلك اختيار القالب بناء على طلبهما، وإن هذا الأمر لن يكون متاحاً لولا وجود ورش تصنيع الذهب المحلية في الشمال السوري.
ووصل عدد ورش تصنيع الذهب المحلية في الشمال السوري إلى عشر ورش، بدأت أولاها بالعمل منذ ثلاث سنوات، يقول ملاز “قبل هذا التاريخ كان الذهب يصل إلى الشمال السوري من ورش في مناطق سيطرة النظام، لكن مع وصول كميات كبيرة من القطع الذهبية بعيارات غير مطابقة للمعايير المعتمدة، إضافة لعمليات التزوير، (وصعوبة إيصالها ومرورها على الحواجز)، باتت الحاجة لورش محلية ضرورة ملحة”.
دخول الذهب من عيارات غير مطابقة إلى مناطق الشمال السوري “تزامن مع انتشار شركات مختصة بتزوير الذهب ونشره في مناطق النظام أو تهريبه الى الشمال السوري”، وذلك وفقاً لتصريحات غسان جزماتي، رئيس جمعية الصاغة والمجوهرات في مناطق النظام، عام 2018، قال فيها إنّ “الجهات المختصة ألقت القبض على 50 شخصاً يزورون الذهب ويبيعونه في الأسواق، إضافة لورش تزوير تضخ الذهب المزيف في الأسواق منذ سبع سنوات”، مؤكدًا أن عمليات التزوير هي ممنهجة وتقوم بها عصابات”، وفق تعبيره.
يقول الملاز “تم خلال تلك الفترة ضبط كمية من الذهب المهرب من مناطق سيطرة النظام ليتبين بعد تحليلها مخالفتها لمعايير الجودة ونقص في العيار، وهو ما دفعنا لإتلافها وإعادتها الى أصحابها لمنع انتشارها في السوق المحلية”.
تكرار الحالة دفع نقابة الصاغة في الشمال السوري، بالاتفاق مع وزارة الاقتصاد في حكومة الإنقاذ، إلى إصدار قرار بمنع استيراد المصاغ الذهبي من مناطق النظام، بهدف الحد من انتشارها وتشجيعاً لعمل الورش المحلية التي بدأت بالعمل وباتت تغطي أكثر من ستين بالمئة من حاجة السوق المحلية.
تختص ورش محلية بـ “تصنيع الزرد والسلاسل”، بينما تختص أخرى بـ “تصنيع ذهب الصب مثل الأساور وغيرها من القطع المشابهة”، أو بـ “تصنيع الأقراط (الحلق (والخواتم والمصاغ الذهبي الناعم”، ويطغى على ذلك النوع من الورش طابع التصنيع الشعبي، إذ تعتمد رغبات الزبائن في صناعتها.
تعتمد معظم الورش في عملها على الذهب المستعمل المعروف بـ “الخشر”، يعاد تدويره في ورش التصنيع من جديد بأشكال وقوالب مختلفة، إضافة إلى استيراد السبائك الذهبية من تركيا عند ازدياد العرض والطلب في الأسواق.
داخل ورشة في مدينة سرمدا، يغلب على تصنيعها المصاغ الناعم، اثنا عشر عاملاً تختلف مهمة كل واحد منهم عن الآخر، جميعهم من الحرفيين في هذه الصناعة، عكس الورش التي تعتمد في تصنيعها على أجهزة الصب والصقل، إذ ينخفض فيها عدد العمال وإمكانياتهم.
يقول أحمد الأحمد، عامل في الورشة، إن عمله يقتصر على التشبيك ولحم تلك القطع مثل الأقراط، قبل أن تنتقل إلى المرحلة التالية، إذ يقوم أحد الحرفيين بإجراء التعديلات اللازمة عليها.
تمر صناعة القطعة الذهبية بمراحل يشرحها خالد البرغل، صاحب ورشة، بقوله: “تبدأ المرحلة الأولى بالصهر والتذويب ضمن فرن يدوي، ثم تمر بمراحل عديدة مثل الترقيق على ما يسمى بالآلة الساحبة، بعدها يبدأ عمل الحرفيين باللف واللحام والنقش وتنتهي بالتلميع لتصبح جاهزة للعرض بعد التأكد من دقة العيار”.
يحسب سعر القطعة الذهبية بالغرام، يضاف إليها “الصياغة، وتختلف تلك القيمة بين القطعة والأخرى بحسب النقش والتعديل الذي يجري عليها. يقول خالد البرغل “هنالك قطع تحسب صياغتها تبعاً للوزن عن كل واحد غرام، كما أن هنالك قطع تحدد قيمة صياغتها بشكل عام بغض النظر على الوزن”.
وتتولى عملية المراقبة وجودة المنتج في تلك الورش، جمعية الصاغة، التي أنشئت باتفاق بين مالكي تلك الورش وبعض النافذين في تجارة الذهب، مع بدء تزايد أعداد ورش صناعة الذهب في الشمال السوري.
وتتبع الجمعية لاتحاد الجمعيات الحرفية التابعة لوزارة الاقتصاد والموارد التابعة لحكومة الإنقاذ، بهدف مراقبة عمل تلك الورش والإشراف على عملية البيع والشراء، ومراقبة عيارات الذهب الذي ينتج في كل ورشة.
تراقب الجمعية الجودة وعيارات الذهب بعد أخذ عينات من السوق، وتحليلها بشكل دوري بشكل مطابق للمواصفات المتفق عليها، إضافة لإصدار تسعيرة يومية لأسعار الذهب في الشمال السوري وتعميمها على مراكز الصاغة ووضع ضوابط لعمليات البيع والشراء من خلال تحديد نسبة الربح لكل قطعة.
يقول الملاز” تلزم كل ورشة بوسم تجاري يدرج على القطع المصنعة كافة في تلك الورش لضمان منع التلاعب، وإلزام محلات البيع بوجود نسخة عن فواتير البيع والشراء لمتابعة عملية المراقبة بشكل مستمر”.
ويكشف عن جودة المنتج من خلال جهاز كشف معادن متطوّر بـ (الأشعة السينية)، أو عن طريق (التحليل الكيميائي)”، بعد أن فرضت الجمعية علامة تجارية على منتجات كل ورشة لتمييز الذهب وسهولة مراقبته.
كما وضعت الجمعية لائحة عقوبات لمن يقوم بمخالفتها، من بينها: “مخالفة التسعيرة والتي حددت عقوبتها للمرة الثانية بالإنذار وغرامة ألفي دولار، وفي حال التكرار سحب الترخيص من الورشة المصنعة”.
وبلغ عدد مزاولي مهنة تجارة الذهب في الشمال السوري نحو 170 صائغًا بحسب الملاز؛ موزعين على ريفي حلب وإدلب، جميعهم حاصلين على الترخيص من قبل الجمعية، التي قالت إنّها تأخذ عينات من تلك المحلات وتخضعها للتحليل؛ وبناءً عليه تعطي الموافقة ببيع المنتج.
وتمنح تراخيص التجار الراغبين بمزاولة المهنة بشروط، من ضمنها: “أوراق ثبوتية، ومعدات لوجستية (كاميرات مراقبة، ميزان ذهب، شلمون، فواتير، وغيرها”، كما اشترطت الجمعية “حصول طالب الترخيص على تزكية من (صائغين) مرخصين لديها”.
وصل سعر غرام الذهب اليوم إلى 55 دولاراً، ما عدا الصياغة، ولا تتعلق زيادة السعر بالزلزال، بحسب ملاز، بل تعود إلى أسعار صرف الدولار التي تتناسب عكساً مع أسعار الذهب.
ساهمت ورش تصنيع الذهب المحلية في الشمال السوري في تحقيق نوع من الأمان للراغبين باقتناء المصاغ، وحدّت من عمليات التلاعب والتزوير، لكنها وافقت بشكل أكبر النقوش والأشكال ما يطعم هذا المصاغ بنكهة سورية.