مع بداية يوم 21 من آذار، زيّن أطفال خديجة عبدالله الأربعة المنزل وأحضروا هدايا لأمهم وشغلوا الأغاني الخاصة بمناسبة عيد الأم. ثم تجمعوا حول والدتهم للاحتفال بهذه المناسبة، في محاولة منهم أن تنسى همومها ولو للحظات. هكذا احتفل الأطفال بوالدتهم في العام الفائت. لم تكن السيدة الثلاثينية تدري ما يخبأ لها القدر هذه السنة، وأن ذاك الاحتفال كان آخر عيد أم تحتفل به مع أطفالها، فهي لن تلتقي بهم بعد الآن أبداً.
تحولت فرحة العام الماضي إلى غصة في هذه السنة. إذ فقدت خديجة أطفالها وزوجها في الزلزال الذي ضرب مدينة جنديرس. لم تحظّ بفرصة لتودعهم حتى، سوى تلك اللحظات الأخيرة، التي قضوها معاً تحت الأنقاض، تبادلوا فيها بعض الأحاديث الدافئة وعبارات الوداع الحارقة، كما وصفتها.
تقول خديجة إن ابنتها ربيعة البكر (13 عاماً) كانت أكثر أولادها تعلقاً بها، وهو ما جعل الحظ يحالفها بالتصاقها بها حتى في آخر لحظات حياتها. لم تعلم خديجة أن ربيعة وأخوتها سيفارقونها بهذه السرعة. لقد حاولت الصراخ مرات عدة بعد انهيار بنائهم المؤلف من خمسة طوابق في شارع جنديرس لإنقاذ أبنائها، لكن دون جدوى.
تتأمل خديجة، المهجرة من مدينة حلب، صور أولادها في هاتف خالتهم المحمول والدموع تفيض من عينيها، متسائلة: “ماذا لو بقوا على قيد الحياة في هذا العيد؟” تبتلع غصة فقدهم وتكمل تساؤلها مرة أخرى: هل آثروا بقائي على قيد الحياة كهدية منهم؟ ولكن ما هكذا تكون الهدايا لقد أحرقوني ببعادهم.
كانت خديجة محتجزة مع ربيعة وحسام في غرفة، بينما قضى زوجها وطفلاها محمود وأحمد في غرفة أخرى. بعد عملية إنقاذ مضنية كانت خديجة الناجية الوحيدة من الأسرة.
تستذكر الأم أسئلة ابنتها ربيعة قائلة: “معقول يامو نموت هون وما حدا يسمعنا. معقول الجيران يتركونا. والله كلن بحبونا ومنحبن. أكيد رح يفقدونا ويجو، يامو عم تسمعيني؟ إي يامو بس ماقادرة أعمل شي صدري ورجليي كتير عبيوجعني من الضغط”.
تنهال دموع خديجة بغزارة أكثر عندما تكمل تذكرها بقية حديث ربيعة: “يامو! إذا أجو يطالعونا لح خليهن يطالعوكي أنت وأخي قبلي. أنا بحبكن كتير. ما بدي ضل عايشة وأنتو مو معي. أنت أم حنونة وقدمتيلنا كتير وماقصرتي بطريقنا. ياريت يامو أقدر أفديكن بعمري أنت وأخي”، وكأن ربيعة كانت تعلم أنها على موعد مع الموت بعد ساعات قليلة.
اعترافات صادقة من تحت الأنقاض
أما حسام، الأخ الأصغر (12 عاماً)، فقد كان يتوقع النجاة أكثر من ربيعة. كان كما عهدته عائلته، الرجل الصامد في أكثر المواقف التي من المفترض أن يكون منهاراً، كما وصفت والدته. وعدهم أن يحكي للعالم قصة حبهم الجميلة لبعضهم وأجمل المواقف التي عاشوها بعد نجاتهم؛ لحظات وصفتها خديجة بالموت، بل أشد وطأة عندما كانت تستمع لأحاديثهم بقربها واعترافاتهم بحبهم لبعضهم البعض، في أشد الأماكن وحشة وظلمة تحت الأنقاض.
كانت الكلمات أشد وقعاً من الأنقاض التي تقبع على جسدها، كما وصفت، ساعات ثقيلة لم تعرف خديجة توقيتها بالضبط؛ إذ لا شمس ولا عقارب لساعات تحدد الوقت في ذلك المكان سوى بقاء الأنفاس مدة أطول.
لحظات ثقيلة مرت وفارق طفلاها الصغيران الحياة، ليلحق بهما حسام وربيعة بعد وقت قصير بسبب نقص الأوكسجين وبرودة المكان. تمسك خديجة وشاحاً لربيعة كان قد بقي لها من أثرها عند بيت جدها، تشم رائحته مرات عدة وتقول: “كانت ترتديه في عيد الأم الماضي حينما احتفلنا جميعاً.”
للوهلة الأولى يتبادر لأذهاننا أن لا مساحة ولا وقت لنسج الأحاديث في أشد الأماكن ضيقاً واختناقاً بين عتمة الأنقاض وركام المنازل والأبنية، إلا أن عبارات البوح بالمشاعر ورسائل الحب والعرفان كانت أبلغ حباً وأشدّ حرارةً رغم صعوبة اللحظات.
لم تكن أمنية الطفل عبد الله، ذي السبعة أعوام، كابوساً مرعباً ينتهي باستيقاظ أمه من العناية المركزة بعد أن خضعت للعديد من العمليات الجراحية بسبب الكسور التي أصابتها جراء سقوط بنائهم بفعل الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وخلف الكثير من الأضرار البشرية والمادية من فقد في الأرواح والممتلكات.
تكرر حياةـ أم عبد الله (29 عاماً)، مهجرة من ريف دمشق أمنية طفلها مرات عدة وهي على سريرها في المشفى. تخبره أنها أوصلت رسالته لبيت جده بحبه لهم. تغرق وسادتها بدموعها، تتذكر حديثه معها في ذلك المكان الضيق وصوته الخافت المنبعث من الغرفة المجاورة.
تروي ما حصل معها بصوت مبحوح: “كان عبدلله قريب مني وماسك فيي. وأنا حاضنة أخته الصغيرة ع صدري. وقت وقع قسم من السقف والحيطان علينا خلاه يبعد عني أميال كنت حسها بعد المشرق عن المغرب لأني عاجزة ساعده. لحظات ما ممكن أقدر أوصفها وشعور عم ياكلني أكل كل ما بتذكر صوت عبدالله الحنون.”
تسترجع آخر كلماته: “ماما، عبتسمعيني! أنا عبختنق. أنت بخير؟ ماعبتقدري تساعديني ماهيك؟ سلامتك ياماما بعرفك بتحبيني كتير، بس لازم تبقي مع اختي جنى.”
يسود صمت لعين يحرق الأنفاس ويزيد إطباق صدرها، كما وصفت، ثم يبلغها أمنيته الأخيرة عندما نادته النداء الأخير: “حبيبي ماما عبتسمعني، أجابني: ياريت شوف بابا ولو مرة وحدة، ماما خبري بابا ونانا وجدو أنا بحبن كتير، ثم انقطع صوته.” وبعد برهة لفظت جنى أيضاً أنفاسها الأخيرة على صدر أمها أمام عينيها دون أن تستطيع إنقاذ أحد.
بقيت أم عبدلله مع أطفالها تسع ساعات ليتم سحبها كناجية وحيدة من عائلتها. تخبرنا والدة زوجها، التي تشاركها النكبة وتقوم على رعايتها، أن كنتها فقدت زوجها وابنيها التوأمين، الذين كانوا في غرفة أخرى من البناء. وتضيف أنه بعد عدة أيام تم تجريف المبنى دون التعرف على جثمان أحد، وأنها لم تر حتى صور جثثهم، علها تتعرف على أحد منهم.
كابوس أصبح حقيقة
يعجز الكادر الطبي عن إشغالها بأمورها الصحية وسؤالها عن حالها وتشجيعها للتحسن والتعافي من متلازمة الهرس التي تعاني منها. تخبر الأطباء أنها ليلة الزلزال ألبستهم أجمل الثياب وسرحت شعرهم وصنعت لهم الحلوى التي يحبون. لم تدر أنه الوداع الأخير. تتمنى لو أنه كان كابوسا وتصحو منه قريباً.
تصف للأطباء جمالهم ونعومة خدودهم وألوان البيجامات التي يلبسون. تتمسك بخيط من أمل وهمي في زحمة اليأس المحيط بها بأن يكون أحد أبنائها التوأمين أو كلاهما على قيد الحياة ولم تلتق بهما بعد. تناشد من حولها بأن يتركوها في خيالها مع أطفالها وألا يقاطعوها حينما تتحدث إليهم علها تنال وقتاً أكبر من الذكرى والعيش معهم ولو بالخيال.
ترسل رسالة لكل أم في العالم تعايدها وترجوها احتضان أبنائها حد الثمالة، وأن تستمتع بأحاديثهم التي ربما تختفي فجاءة كما حصل معها. تلوم نفسها مرات عدة لانشغالها عن الحديث معهم. لم تدرِ أن الزلزال سيسرق منها فلذة كبدها قبل أن تشبع من النظر في وجوههم.
فادي خليل اسم مستعار، 28 عاماً، آثر أن يحمي والدته ويكون بقربها أكثر من أن يبقى مع طفليه وزوجته في الغرفة المجاورة أثناء حدوث الزلزال. هُرع مسرعاً إليها علّه يخفف من خوفها أو يحميها إن أصابها مكروه. لم يتوقع أن تكون الكارثة بالقدر الذي يجعل جدران المنزل تطبق عليهم وهو غير قادر على فعل أي شيء سوى توسلاته لوالدته بأن تصمد وألا تفارق الحياة ريثما يتم إنقاذهم. إلا أن جميع توسلاته باءت بالفشل بعد مضي أربع ساعات تحت الأنقاض جعلتها تختنق وتترك فادي مع صرخاته لفرق الإنقاذ لانتشال والدته عله ينقذها.
لا ينسى فادي تلك الدعوات والابتهالات من والدته وهي تطلب من الله بقاءه على قيد الحياة مع أطفاله على أن تفديه بروحها. تغرق عيناه بالدموع ويزفر بتنهيدات متتابعة حينما يخبرنا بأنه طلب منها أن تسامحه، قائلاً: “يامو سامحيني إذا يوم قصرت بحقك. والله عندي إياكي أغلى شي بالدنيا وفدوى إلك حياتي ومالي وعيالي”. جاوبتني بدعواتها: “رضا ربي وقلبي عليك يا ابني”. عاد ليناشد بصوته البعيد مستغيثاً لإخراج أمه قبله إلا أنها لفظ أنفاسها كان أسرع من صرخاته العاثرة.
فقد فادي عشرات الكيلوغرامات بعد أن فقد أمه وعائلته. عيناه، اللتان أرهقهما السهر والفراق وقهر الرجال، تعجزان عن حبس دموعه لتنهار مرة أخرى وهو يروي ما حصل معه حينما كان يحتضنها أثناء انهيار المنزل.
يتذكر الدعوات والعبارات المفعمة بالرضا عليه والتأكيد بعدم تقصيره معها في حياته. يقول فادي: “حينما يسرقني النوم أسمع صوتها وأستذكر كلماتها الأخيرة: يا ابني! الله يحميك لولادك ولشبابك. ليش تركتن وجيت لعندي. خاف صرلن شي مع أمن”. ترتجف يديه وهو يشيح بنظره محاولاً إخفاء دموعه بمنديل أبدله مرات عدة وهو يقول: “مالا خبر. راحت واخدت الغوالي معها وتركوني للقهر والعذاب.”